بات ولع الجيل الجديد في الجزائر باقتناء وتربية الحيوانات الأليفة، خصوصاً القطط والكلاب، واضحاً ومثيراً للانتباه. فهل يؤشّر ذلك إلى حالة تقليد عفوية لنمط العيش الغربي أم إنّ للظاهرة خلفيات أخرى؟
ليس غريباً عن الجزائريين تربية القطط والكلاب في بيوتهم، خصوصاً في المناطق الريفيّة، إذ يكاد لا يخلو بيت من قطّ وكلب، وربّما أكثر؛ بل إنّ بعض المناطق تُسمّي الكلب "مول الدّار" أي صاحب البيت، و"العسّاس" أي الحارس، ما يشير إلى أنّ تربية هذين الحيوانين الأليفين اللذين نجد لهما حضوراً في رسومات ما قبل التاريخ في بعض الجداريات الجزائرية لم تكن للاستئناس والتظاهر بل لدواع وظيفية مثل الصيد والحراسة.
وعادة تربية القطط والكلاب لدى قطاع واسع من الجزائريين، خصوصاً الشباب منهم، باتت خلال السنوات الأخيرة موضةً وشغفاً عامين بعيداً عن الدواعي التقليديّة. والدليل أنّها تنتشر في المدن أكثر من الأرياف. وقد نجد قطاً أو كلباً أو كليهما في شقة ضيقة داخل عمارة يعاني أصحابها أصلاً من إيجاد فسحة مريحة للنوم. وترتبت عن هذه الموضة أو الشغف تجارة وأسواق بعضها مختص في بيع وتبادل القطط والكلاب نفسها، وبعضها مختصّ في اللوازم المتعلّقة بها من أطعمة وغرف للنوم ومواد للزينة والتنظيف، باتت تدرّ أرباحاً على أصحابها.
ويقول عز الدين ب. (36 عاماً) لـ "العربي الجديد" إنّه كان صاحب مقهى في الجزائر العاصمة، لكنه أغلقه في ظلّ ما ترتّب عن وباء كورونا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من تكرار غلق الفضاءات التجارية الشعبية، وفتحَ محلاً لبيع الحيوانات الأليفة مثل الأرانب والعصافير والسلاحف والقطط والجراء، "فوجدتُ أنّ أرباحي المالية لم تقل عمّا كنت أجنيه من المقهى الذي يُعرف بكونه البيت الثاني للجزائري، بل إنّها تزيد في بعض المواسم مثل الصّيف الذي تكثر فيه الأفراح العائلية، ذلك أنّ بعض الحيوانات، وخصوصاً القطط، باتت تُهدى في مثل هذه المناسبات بعدما كان الإهداء يقتصر على السلع المادية".
ويؤكد عز الدين لـ "العربي الجديد" أنّ زبائنه شابات وشبان من الجيل الجديد. وإذا حدث أن كان أحدهم متقدماً في السن، فهو لا يقتني قطاً أو جرواً لنفسه، بل لأحد من أطفال أو شباب العائلة. ويقول إنّها "تجارة شبابيّة بامتياز، وتركد من دونهم. فهم يبذلون جهوداً كبيرة ويوميّة في الدّفاع عن بقاء حيواناتهم في البيت أمام رفض الآباء والأجداد لها، في إطار اختلاف أمزجة الأجيال داخل البيت الجزائري. فلطالما عادت إليّ حيوانات بعتها بسبب ذلك الرفض".
ولأنها تجارة شبابية، يرى عز الدين أنّ "هناك نوعاً من التفاخر بين الشباب، تماماً مثل السيارات. فتجد الإقبال على أعلاها سعراً أكثر من تلك التي تباع بأسعار منخفضة، بالإضافة إلى اللوازم المتعلقة بها. فالشاب الجزائري قد لا يملك هاتفاً جيداً لكنّه يتفاخر بكونه يملك قطّاً أو عصفوراً أو كلباً من فصيلة نادرة. وقد لا يذكر طعامه لكنّه يتفاخر أمام أقرانه بأنّ كلبه يأكل بشكل جيد".
ويقرأ الأكاديميّ محمّد الأمين لعلاونة شغف الجيل الجديد باقتناء وتربية القطط والكلاب خلال السنوات الأخيرة من زاوية تمثّل الحياة الغربية، في انفتاحٍ عليها أتاحته الوسائط الجديدة، ومن زاوية شعور شبابي عام بالاغتراب داخل المجتمع. ويشرح فكرته بالقول: "لم يعد الشّاب الجزائري الذي فتح عينيه وتفتح وعيه بعد عشرية العنف والإرهاب في تسعينيات القرن العشرين، بكل ما شابها من فساد عام، يشعر بالانتماء نفسياً وفكرياً إلى المجموعة الوطنية. هذا لا يعني أنّه ليس وطنيّاً، إذ يظهر ذلك جلياً في مباريات الفريق الوطني. بل إنه لا يجد ذاته داخل ما يعتبره نفاقاً وكذباً باسم الدين والوطن. من هنا انتعشت ظاهرة الهجرة السرية التي هي في حقيقتها استبدال مفهوم حضاري بمفهوم لا استبدال وطن بآخر". يضيف: "دفع هذا الشعور بالاغتراب قطاعاً واسعاً من الشباب للاستئناس بالحيوانات الأليفة بصفته موقفاً نفسياً وفلسفياً من المنظومات القائمة بما فيها المنظومة العائلية". ويدلّل على ذلك بالقول إنّ "بعض الشباب يقضون أوقاتاً مع كلابهم أطول من تلك التي يقضونها مع آبائهم وأشقائهم".
خلال الأشهر الأخيرة، بدأت تظهر مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي تُعنى بإيجاد من يتبنى الحيوانات الأليفة، وخصوصاً القطط والكلاب، بل إنّ هذه النزعة باتت متبناة من قبل بعض الجمعيات الميدانية المعنية بالأنشطة الخيرية والإنسانية. ويقول الطالب والناشط نوفل محمد موتح إنّ "تزايد عدد القطط التي يتخلّى عنها أصحابها، فتتشرّد في الأزقّة والطرقات، بات مثيراً للانتباه في أكثر من مدينة جزائرية، منها مدينة الأغواط (400 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة)، ما دفع إحدى الطبيبات البيطريات إلى إطلاق مبادرة إنسانية لتوفير بيوت صغيرة للقطط توضع في الأماكن العامة وتكون في متناول الناس، فيقدمون لها الطعام والرعاية".
وعن السبب الذي يجعل الشباب لا يبيعون حيواناتهم عوضاً عن التخلي عنها من غير مقابل، يقول إنها "عادةً ما تكون قد شبت عن الطوق، بما يجعلها مستعصية على التأقلم مع مالك جديد، فيزهد فيها تجّار الحيوانات كونها لم تعد أليفة في نظرهم، وسوف يتعبون في إيجاد من يشتريها".
عند مدخل عيادة بيطرية في مدينة المسيلة حيث خصّص حيّز لاستقبال وعلاج القطط والكلاب المتشرّدة، وحيز آخر مخصّص للتبني، لاحظنا كثرة الإقبال على الأوّل وقلته على الثاني. ويقول الشاب الجامعي محمد (22 عاماً) إنّه أحضر قطّه إلى هذا المكان الآمن بعدما فشل في إيجاد من يشتريه منه. ويوضح: "لم تطاوعني نفسي أن أتخلّى عنه بطريقة تجعله يقع في التّشرّد، فيُؤذى بشكل مباشر وغير مباشر. لا تنسَ أنّه بات من هوايات الطفل في الجزائر، في إطار تنامي نزعة العنف لديه، قذف القطط والكلاب بالحجارة. هنا على الأقل يضمن المأوى والطعام".
ويبرّر تخلّيه عن قطّه بكونه لم يعد قادراً على تحمّل الأعباء المالية لتربيته. ويقول: "ارتفعت تكاليف المعيشة مؤخّراً. مائدة رمضان هذا العام كانت أفقر منها في الأعوام السابقة. ونحن لا ندري ما يؤول إليه الوضع مستقبلاً. لذلك، بات التقشف واجباً، إن لم يكن من باب الحاجة الآنية فمن باب الاحتياط". ويقول محمد إنّه "كان يشتري لقطّه اللحم الأحمر والأبيض والسمك والجبن، فهو لا يأكل العجائن أو أيّ طعام يتوفّر، بالإضافة إلى أنّ له موادّ تنظيف خاصّة، ومواعيد تلقيح عند الطبيب البيطري". ويختم حديثه قائلاً: "كنت في السابق أدافع عن وجود شيدر في البيت. هذا هو اسمه أمام رفض أبي له، لكن لم أعد قادراً على ذلك بسبب أنّ مصروفه بات مقتطعاً من مصروفي الخاصّ".
حتى وإن دفعت الظروف المعيشية الصعبة التي باتت تؤرق الجزائريين إلى تخلي البعض عن حيواناتهم الأليفة أو تراجع وتيرة الاقتناء لديهم، فإنّ شغفهم بها باقٍ ما يجعل الأمر ظاهرة اجتماعيّة جديرة بالدراسة.