شيماء ناجي: عرافة إيثاكا العشرينية (5)

30 سبتمبر 2024
ما عاشته الفلسطينيات خلال العدوان يفوق احتمال البشر (عمر القطاع/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- شهادات الناجين من الحرب في غزة: تروي سمر يزبك في "ذاكرة النقصان" قصصًا مؤلمة لناجين فقدوا كل شيء، موثقةً معاناتهم واستخدامهم للذاكرة كوسيلة للمقاومة.

- قصة شيماء ناجي: شيماء، 21 عامًا، فقدت والدها وعمّتها وأصيبت بجروح خطيرة بعد قصف منزلهم في جباليا، وتصف لحظات الرعب والدمار.

- الحصار والمستشفيات: شيماء واجهت نقصًا حادًا في المواد الطبية بالمستشفى، وحوصرت مع عائلتها لمدة خمسة أيام، مشيرةً إلى الدمار والموت من حولها.

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهاداتِ التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".
 

لم تكن تهدأ، عيناها تتحركان في جميع الاتجاهات، وكأنّها تنتظرُ شيئًا ما سيأتي على غفلةٍ، تَنفرجُ عيناها السوداوان عن نظراتٍ منحت المكان توتّرًا أُنثويًّا خالصًا. وفيما صوتها الحادّ يتقاطع مع أنفاسها المتلاحقةِ، كانت كلُّ فكرةٍ تبدأُ بها الحديث عن تلك الليلة ما تلبث أن تختلط بفكرةٍ أخرى. لقد كان أبوها حاضراً في أفكارها، لدرجةٍ جعلتْ ذاكرتها تُودي بكلِّ الأفكار باتجاه ذكراه.
منذ أن فتحتُ عينيّ على الدنيا وأنا أشعرُ بكلِّ تلك الحروب التي تدورُ حولي في هذه المدينة، لن تُصدقي! لقد توقعتُ حدوثَ كلِّ هذه المآسي منذ طفولتي! ولكن هل تعرفين! هذه المرّةُ ليستْ حربًا، هذه تفوقُ بشاعةً كلَّ ما سمعتُه وقرأته ورأيتُه من حروبٍ، عندما أسمعُ من يقولُ "الحربُ في غزة"، أشعرُ بالغضبِ والقهر.
اسمي شيماء ناجي، عمري واحدٌ وعشرون عامًا. كنّا نعيشُ مثل الناسِ العاديين، كأيّ عائلةٍ عاديةٍ. أخي وأنا درْسنا الهندسةَ البرمجيّةَ، تخرجتُ بدرجةِ دبلومٍ وكنتُ من أوائلِ دفعتي. عملْت ودرستُ في ذات الوقت، تخصصتُ في تصميمِ المواقعِ الإلكترونيّةِ. مكتبي كان بجانبِ مستشفى الشفاء. تخيلي! لقد كنتُ أُصوِّرُ الطريقَ يوميًا، لسببٍ ما كنتُ أتخيلُ أنَّ هذه الصورَ ستصبحُ ذكرى. امتلكت إحساسًا بأنَّ كلَّ شيءٍ سيذهبُ، كنتُ أُصوِّرُ بلا توقفٍ –ربما- كي أطردَ تلك الخيالات السيئةَ من رأسي.
في السابعِ من أكتوبر، كنتُ أُخطِّطُ للذهابِ إلى الجامعة. أعيشُ في جباليا، -تحديدًا- في منطقةِ الصّفطاوي، في بناءِ العائلةِ حيثُ يسكنُ أعمامي مع أبنائهم وأحفادهم. كنتُ أُصلِّي الفجرَ حينَ سمعتُ أصواتَ الصواريخِ. في البدايةِ، اعتقدتُ أنّها مجردُ أصواتِ رعدٍ يسبقُ المطرَ، فتحتُ النافذةَ فرأيتُ الصواريخَ ملءَ السماءِ. لوهلةٍ اختلطتْ مشاعرُنا، كنّا فرحينَ، تخيَّلْنا أنَّ فلسطينَ ستتحرَّرُ اليومَ، كمْ كانَ حلمًا بريئًا! وعلى الرغمِ من توقعنا بما سيحدثُ لاحقاً، فقد تأمَّلْنا خيرًا. بقينا في منزلِنا ورفضْنا الخروجَ، حتى بعدَ أنْ قصفوا منطقتَنا، أعمامي خرجوا بعائلاتِهم وبقينا وحدَنا في الدارِ. كانتْ لدينا قناعةٌ مختلفةٌ؛ بالنسبةِ لأبي ولنا -نحنُ أبناؤه- فكلُّ الأماكنِ في غزةَ خطرةٌ علينا، لا يوجدُ مكانٌ آمنٌ، لذلك قرَّرْنا أنْ نبقى في بيتِنا ولا نخرجَ. لمْ نخفْ، اتكلْنا على اللهِ وقلْنا ليحدُثْ ما يحدُثْ. كانَ الأقرباءُ يتصلونَ بنا ويطلبونَ منا الخروجَ، وعلى الرغم من القصف الذي كان حولنا يوميًّا، أذكرُ أنّي قلتُ لعمّي: "أنا لنْ أخرجَ، سأموتُ في داري!"
في الثاني والعشرينَ من أكتوبر، جاءتْ جدتي لرؤيةِ أبي، كانتْ مشتاقةً لابنِها الأكبرِ. هي تسكنُ بعيدًا وكانَ أعمامي نازحينَ عندها. تخيّلي! تحتَ القصفِ الشديدِ جاءتْ لرؤيةِ ابنِها، هكذا هنّ الأمّهاتُ! بكتْ جدتي وهي ترجوهُ أنْ يخرجَ، لكنّه كانَ يضحكُ محاولًا تبسيطَ ما يجري. وجاءتْ عمتي أيضًا لتقنعَه بالخروجِ إلى بيتِها، كانتْ مقرَّبةً منه ولها دونَ غيرها كلمةٌ عليه. نحنُ عائلةٌ تحبُّ بعضَها البعضَ. تناولْنا الغداءَ تحتَ القصفِ الذي لمْ يكنْ يهدأُ. وفي النهايةِ اقتنعَ أبي بالخروجِ –خصوصًا- بعدَ سماعِه بأنَّ عددًا كبيرًا من أصدقائِه قدْ ماتوا، لكنه قالَ: "أنا سأخرج لوحدِي وأنتو روحُوا لَدَار سِيدكُم". لمْ نقبلْ، خرجْنا على دفعاتٍ وذهبنا جميعًا معه.

ضربونا كثيراً بالفوسفور حتّى أنّني أصبحت أخاف الموت بالسّرطان

بيتُ عمّتي يطلّ على شارعٍ عريض. في تلك الليلة وبينما كُنّا في الغرفة ساهرين، كنت أُحاول إضحاكهم، ومن ثمّ خرجت إلى الشّرفة أستنشق الهواء، لأفاجَأ بالزنّانة أمامي، كانت تراقبنا. في البداية اعتقدّتُ أنّها صاروخٌ ينطلق من بعيد وخطر لي أن أصوّره، لكنّي انتبهت فجأة أنّها طائرةُ استطلاعٍ وكانت هي التي تصوّرنا. عدت بسرعةٍ إلى الداخل مُنقبضةَ الصّدر. وما لبث أن صدر عن الزّنانة صوت طلقٍ ناريّ. عرفنا لاحقًا أنّه لتحديد المكان، أبي كان مستهدفًا. هذه المسيّرات، "الكوادكابتر" يمكنها أن تُطلق النار أو أن تُفجّرَ نفسها. تخيّلي كانوا يتفنّنون بقتلنا، يقتلوننا بأسلحةٍ متطورة جدًا، وكأنّه لم يكفِنا قتَلَتُهم الآدميّون، فأحضروا لنا قتلةً آليّين على شكل طائراتٍ! رأينا الضّوء الصادر عن المقذوف؛ صاح أحدهم أنّ هذا فوسفور، لكنّ الفوسفور لا يُضيء، أنا أعرفه جيّداً، اعتدتُ عليه. في الماضي ضربونا كثيراً بالفوسفور وبقنابل أُخرى لم أعدْ أذكر أسماءَها. حتّى أنّني أصبحت أخاف الموت بالسّرطان لكثرة ما تنشّقتُ الفوسفور في طُفولتي، أذكر نوبات الاختناق جيّدًا، لذلك عرفت أنّه ليس فوسفوراً.
دخلنا إلى الصّالون مرعوبين، أخذ أبي يصطنع المُزاح معنا. كنتُ أرى وجهه، أراقبُ هدوءَه المصطنع، لمحت شيئًا غريباً في وجهه، شيئًا يدلّ على قلقٍ عميق! عمّتي قالت إنّها ستصنع لنا المناقيش. كان هذا غريبًا، هل كنّا مستسلمين لهذه الدرجة! أم لأنّنا عشنا الموت دائمًا فقد تباطأنا، ولم نفكرْ بالخروج فورًا! كنّا خائفين وصمتنا جميعاً أمام اقتراحها. لم تصنع عمّتي المناقيش لكنّها أعدّت لنا الرّز بحليب، ولأنّه لم يكن هناك الكثير منه لذلك أخذتُ ألحس ما علِق في أسفل الطنجرة. أصوات القصف تعلو حولنا، كنّا نتصرف وكأنّ شيئًا لم يحدثْ. أنا حقّا لا أعرف لماذا تجاهلنا حادثةَ الزّنّانة وقررنا أن نبقى. كانت السّاعة الثّانية عشرة وعشرين دقيقةً بعد منتصف الليل، عندما طلب أبي منّا أن ننامَ، وذهب بدوره إلى غُرفةٍ أخرى. رأيته يُغلق الباب، كانت آخر مرّةٍ، لم أرَ أبي بعد ذلك. 
كنّا خائفين في أعماقنا وكان الكلّ صامتاً. نِمت فورًا، اعتقدت أنّنا نمنا جميعاً -ستقول لي أُختي لاحقًا إنّها لم تستطع النوم ولذلك فقد رأت بعينيها كلّ شيء-. 
أفقتُ على بحرٍ من النّار وأصوات انفجاراتٍ، كان عقلي عاجزاً عن تفسير ما يحدث، لقد كنّا في الطّابق الثالث من بناءٍ مؤلفٍ من خمسةِ طوابق. لقد كنّا هناك وكانت الطّوابقُ الخمسة تنهار، أحد عشر شخصًا ماتُوا على الفور، أبي كان بينهم.

قطّة سوداء متفحّمة

كانَ البيتُ يحترقُ، أمواجُ اللهبِ تعلو وتنخفضُ، لم يستطعْ عقلِي تفسيرَ المشهدِ، وكأنّني في حلمٍ، شعرتُ برأسي ينفجرُ، لم أُدركْ لوهلةٍ ما حلّ بي، كلُّ هذا حصلَ في لحظاتٍ، لمحتُ يدًا تحاولُ أن تُمسكَني؛ وما إنْ لمستُها حتى تدحرجَ الردمُ بي، تدحرجتُ مع الأحجارِ بينما الطابقُ العلوي ينزلُ ويتحولُ إلى ردمٍ وحُطامٍ، كانت يدَ عمّتي التي استشهدتْ لحظتَها، أفكّرُ أنّها لمستني قبلَ رحيلِها، كانت تحاولُ إنقاذي أو ربما كانت تحاولُ التشبثَ بي، وبينما كنتُ أتدحرجُ مع الرّدمِ ارتطمتُ بالحجارةِ، ثمّ طِرتُ في الهواءِ، قالوا إنّني طرتُ مع الركامِ حوالي ثلاثينَ مترًا! هل كانوا يبالغون! لقد فقدتُ الوعي تمامًا في تلك اللحظةِ.
حينَ فتحتُ عيني، اعتقدتُ أنّي ميتةٌ، فقدتُ الوعي من جديدٍ، لأجدَ نفسي تحتَ الركامِ، رأسي في الهواءِ وجسدي تحت الأنقاضِ. كانت الدّنيا ظلامًا من حولي، وكنتُ بعيدةً عن الجميعِ. الناس تجمّعوا للمساعدةِ، وكنتُ أصرخ: "يا جماعة، لْحقوني!" أصرخ وأصرخ ليسمعوني، والناس تصرخُ، الكلُّ يصرخُ! شعرتُ بآلامٍ فظيعةٍ في جسمي. فجأةً رأيتُ يدي تخرجُ من تحتِ الردمِ مغطّاةً بالدّماءِ والغبارِ. كانت أعضاءُ جسدي تتحركُ منفردةً دون إرادتي، سمعتُ صوتَ سياراتِ الإسعافِ، الغبارُ يغطّي كلَّ شيءٍ، وكلّ ما حولي أسودُ، لا أستطيعُ التنفسَ، جسمي كان أسودَ، غطّى السّوادُ حتّى عيوني، كما قالوا لي! رأيتُ نساءً يخرجنَ من تحتِ الأنقاضِ، كُنّ يشبهنَ الأمواتَ الذين يخرجونَ من القبورِ. صرختُ: "يا جماعة، أنا هون... أنا عايشة!" كانوا بعيدينَ ولا أحدَ يسمعني. رأيتُ أختي تحاولُ أن ترفعَ جسدَها من تحت الأنقاضِ، فصرختُ: "رغد... رغد أختي، طالْعُوها." كنتُ أصرخُ بكلِّ قوتي، حتّى سمعوني وجاؤوا وأخرجونا، أنا وأختي.
كانت ملابسي محروقةً فوقَ جسدي، رأيتُ الأجسادَ المحروقةَ متناثرةً حولي. رمَوا عليّ بغطاءٍ، رفضتُ! قلتُ لهم إنّي أختنقُ. لقد أرادوا سترَ جسدي، ولكنّي صرختُ: "تركوني" أخيرًا سحبوني، وكان جسمي محروقًا، مُمتلئًا بالجروحِ والشّظايا. حتّى الآن، يُوجدُ شظايا في جسدي. الصّواريخُ تحتوي على مادةٍ تتحولُ إلى نقاطٍ صغيرةٍ سوداءَ تتركُ آثارها على الجسدِ، مادةٍ غريبةٍ لا أعرفُ ما هي، يقولونَ إنّها مادةٌ سامّةٌ. كانت الأجسادُ منقّطةً ومبقّعةً، وما زالت آثارُ هذه المادةِ في جسدي! بينما كانوا يخرجونني، رأيتهم يخرجونَ قطّةً محترقةً بالكاملِ، كان لونها أسودَ مثلَ الفحمِ.

موتى ومستشفيات

حملَني ابن عمّتي ووضعني في سيّارة الإسعاف. الطّرق كُلّها مُحفّرةٌ بسبب القصف، سيّارة الإسعاف تترجرجُ في مَشيها فوق الحفر، وكنتُ أرتجّ معها وأصرخ من الألم، أصرخ من الخوف: "أريد أبي، أريد أمّي وإخوتي" كان الألم فظيعًا، أسناني تصطكّ بسرعةٍ رهيبةٍ، وركبتاي ترتجفان. المشفى مليءٌ بالجرحى والمرافقين، النّازحونَ ينامونَ في الممرّات. كنت وأختي وحدنا، أصرخ من الألم، الجميع من حولي يصرخ من الألم، الأطبّاء يتجولون حولنا عاجزين، جميع المرضى يترجّون الحصولَ على المسكنات، نقصٌ في المواد الطبّيّة، لا يتوفر المزيد من البنج. المكان يفيض بالموتى أيضاً، كُنت أسمع الأطبّاء يشيرون قربي: "هذه ميّتةٌ، وتلك، احملوا هذه من هنا" لم أكنْ أستطيع تحريك رأسي لأرى الموتى الّذين كان يُشار إليهم؛ لكنّ مريضاً مقابلاً لي تماماً خارج الباب، طلبَ الماء، كان ينتظر دوره في غسل الكِلى كما فهمت، دوره الّذي تأخّرَ عنه لخمسة أيامٍ بسبب انقطاع الكهرباء، جلبوا له كأساً من الماء، وما إن بلّلَ شفتَيه حتّى سقطَت الكأس من يده ومات. عرفت أنّ هناك أيضًا نقصًا في الأكفان. نقلوني إلى سريرٍ آخرَ بعيداً عن امرأةٍ كانت ميّتةً قربي، لم أستطعْ الحركةَ، التصقَ الشّرشف بحروقي، كُنت أصرخُ، آلامي وصلَت إلى السّماء ولم يكن هُناك كريماتٌ لعلاج الحروق، في اليوم التّالي جاءَ زوج خالتي وأخرجني من المشفى، لم يكن من علاجٍ يُقدّمونه لي، حملني وأختي ومعنا ابنة عمّتي إلى بيت جدّي لأمّي، كانت إصاباتنا غيرَ قاتلةٍ، ولم يكن من معنىً لبقائنا هناك. زوج خالتي الذي أودعني بيتَ جدّي، ودّعني ثمّ ذهب؛ لم يمض وقتٌ طويلٌ حتّى مات. كيف مات؟ كما يموت جميعُ أهل غزّة اليوم! ما الفرق!
بيتُ جدّي في مشروع بيت لاهيا، أصواتُ القصف هناك لا تهدأ، غزّة كلّها بدأت تعيشُ على إيقاع الدّمار، معالمُ المكان تتغيّر بين ساعةٍ وأخرى، توقف السّؤال عن الأموات، وبدأنا نسأل عن أحوالِ الباقين على قيد الحياة. وَضعتني خالتي على كرسيٍّ وبدأت تنظّفُني، كان التّرابُ والحصى يخرجُ من جسدي، الدمُّ الأسودُ يسيل مع الماء من جروحي، شعري طويل جدّا، كان يُنبتُ أشياء غريبةً، أسلاكٌ معدنيّةٌ بدأت تخرج من شعري. نظرتُ إلى جسدي للمّرة الأولى بعدَ الانفجار؛ كان يَحمل جروحاً وحروقاً لم أتخيّلها. شهقتُ! في تلك اللحظة فقط، انتبهتُ أنّي ما زلت أتنفسُ.

حَلَقُ أبي

تفرّقت عائلتُنا بين المشافي، أمّي بقيت في المشفى الإندونيسيّ، ساقها مبتورةٌ والخطر يحيط بالسّاق الثّانية، أُختي معها في نفس المشفى مصابةٌ بكسرٍ في الحوض، أختي الثّالثة كانت في المشفى الأردنيّ، لديها كسرٌ في رجلها وإصابةٌ في عينها، كان عددُ الجرحى هناك أيضاً كبيراً جدّا ولا يُوجد ما يكفي من الأطبّاء والمواد الطبيّة، لذلك خيّرنا الأطبّاء في المشفى بين علاج الرّجل أو العين! كان هذا قاسيًا جدًّا أن تُقرر أيّ جزءٍ من جسدك يجبُ عليك أن تتخلّى عنه كي تنجو بالجزء الآخر، لم يكنْ في المشفى جبسٌ ولا صفائح بلاتين لوصل العظم، وبقيت رجلُها هكذا دون علاجٍ، هي الآن لا تستطيعُ المشي جيّداً. 

صلاة الجنازة على شهداء بساحة المستشفى الإندونيسي (أحمد العريني/الأناضول)
صلاة الجنازة على شهداء بساحة المستشفى الإندونيسي (أحمد العريني/الأناضول)

جثّةُ أبي كانت في مشفى كمال عدوان، أخفوا عنّي خبرَ وفاته في البداية. وحين اتصل أخي الذي كان يرافقُ أمّي في المشفى ليطمئنّ عليّ، سألته: أبوك استشهد؟ لكنّه كان قد سبق سؤالي بسؤالٍ عن ثياب أخي صُهيب؛ أجبتُه: "كان لابس بيجامة زيتي". قال: "أخوك استشهد مع ابن عمّتك ودفنّاه"، تخيّلتُ وجه صُهيب على الفور، يا إلهي! لم يستطيعوا التعرف عليه، ألهذا الحدّ كان وجهه مشوّهاً! أخي الصّغير، حبيبي صهيب، قد احترق بالكامل! تفحم! معقول أنّهم أخرجوه أمامي ولم أعرفه! صعدت الغصّة حتّى حلقي، كنت أختنق بالدّموع وكرّرتُ السّؤال بصيغة التوسّل: أبوك استشهد؟ أجاب: نعمْ. وكأنّ سكيناً انغرزت في صدري، طوال عمري كنت أعرف أنّني سأفقده، مُعظمنا نحن -أطفالَ غزّة- نعرف ما معنى أن تعيشَ مع أبيك وأنت تعلم أنّك ستفقده، اختنقتُ بدموعي وغِبْت عن الوعي.
هل تعرفين! لقد كنت أملك شعوراً دائماً بأنّني سأفقدُ أبي، كنت أشعر دائماً بخوفه عليّ، هو أيضاً ربّما كان يشعر أنّه لن يبقى قربي حتّى أكبَر، لذلك كان دائماً يُشجعني أن أكون مُستقلّةً، لقد أعطاني كلّ الثّقة، وكان يطلب مني أن أتعلّمَ وأدرسَ وألّا أنتظر أحداً، كنت طفلةً عندما علّمني السّواقة، ربّما كنتُ أصغر فتاةٍ تقود سيّارةً في غزّة. أبي كان الرّوح والأمان في حياتي، انظري هذا الحلقَ، هذا أهداه لي أبي، هذه ما تزال في أُذني لكنّ الحلقَ الآخر ضاعَ في الردّم أثناء الانفجار. أنا لن أنزعَ هذا الحَلقَ حتّى آخر عُمري، ستبقى ذكراهُ معلّقةً بجسدي دائماً.
ماتَ أبي وأخي، ماتتْ عمّتي ومن تبقى من أهلي كانوا كلّهم مبتورينَ ومحروقينَ. لقد تغيّرتُ إلى الأبدِ، لم أعدْ تلكَ الفتاةَ العشرينيّةَ المنفتحةَ على الحياةِ، صوتُ الصّاروخِ والصّراخِ ومشاهدُ النارِ والناسِ المحروقةِ لا تُفارقني، "حسبي الله ونعم الوكيل".
تنهّدتْ دُون حزنٍ واضحٍ، هناك أسى عميقٌ في صوتها تُحاول أن تُخفيَه، تريد أن تبقى قويةً، لعلّها فقط تُريد أن تقولَ لنفسها إنّها قويةٌ. اعتقدتُ للحظةٍ أن مأساة هذه العائلة انتهت هنا، لكنّها تابعتْ الكلام:
يوميًّا تحت القصف وبينَ الأنقاض والدمار أذهبُ لزيارة أمّي في المشفى الإندونيسيّ، كنتُ ما أزالُ أعرج على قدميّ وقتها، المكان تغيّر بشكلٍ مرعبٍ، كلّ شيءٍ صار مُختلفًا. أمّي كانت في حالة صدمةٍ بعد أن استعادت وعيها لتجد نفسها بلا ساقٍ، لم تعدْ تستطيعُ المشي بعد الآن. في بعض الأحيان، كنتُ أنام على الأرض بجوار سرير أمّي. أختي كانت في نفس المستشفى، ولكن في قسمٍ آخر لعلاج الكُسور. جُروحي التأمت ببطءٍ، لكنّ الشّظايا بقيت مغروسةً في جسدي، جُرحي، رُغم ألمه، كان لا شيء موازنةً بمعاناة الآخرين. كنتُ أمشي لدقيقتين وأقف، أتحركُ ببطءٍ شديدٍ، حتّى الذهاب إلى الحمام كان عمليّةً شاقةً. ومع ذلك، قررتُ أخيرًا ألّا أعود إلى بيت جدّي الذي أصبح مليئًا بالنازحين وأن أبقى في المستشفى بجوار أمّي وأختي، قلتُ لنفسي: "نموت كلّنا معًا أو نعيش معًا". أحضرتُ أخواتي، أصبحنا كلّنا هناك قُرب أمّي. أنا وأختاي ننامُ على الأرض، بينما أمُّي وأختي المكسورُ حوضها تنامان على السرير. جدّتي القويّة، التي تجاوزت الستّين، كانت تفعلّ كلّ شيءٍ لنا، تُحضُّرُ لنا ما يتوفر لها من طعامٍ، تغسلُ ثيابنا وأخيرًا تغمُرنا بالدّعوات.

أرضٌ تُنبت الجثث

بدأ حصارُ المشفى الإندونيسيِّ في شهرِ نوفمبر. سمعنا أصواتَ الدّباباتِ على الأبواب، وأصبحَ الدّخولُ والخروجُ ممنوعًا. بقينا خمسةَ أيّامٍ محاصَرين. رأيتُ أكوامَ الجثثِ ترتفعُ حولَ المستشفى، من أين يأتون بكلِّ هؤلاء الناسِ المقتولين! شاهدتُ القططَ والكلابَ تنهشُ الجثثَ، الذبابَ يحومُ حولَ الموتى، اختنقنا برائحةِ الدمِّ. عشتُ هذا الرعبَ لخمسةِ أيامٍ، بلا ماءٍ ولا كهرباء. ثمّ قالوا إنَّ بإمكانِ المحاصَرينَ الخروجَ. اندفعَ الناسُ للهرب، كانوا يتدافعونَ مثلَ يومِ القيامة، يخرجونَ دونَ أن يلتفتَ أحدٌ لأحد. 
خرجَ جميعُ المرضى والنازحين، في حين بقيَ في المشفى مئةٌ وثمانون شخصًا فقط، بقيَ من لا يستطيعُ الخروجَ لسوءِ حالته الصّحيّة وكنتُ مع أمّي وأخواتي من الباقين. لم أستطعْ التحركَ بأمّي وأخواتي الثلاث، أمّي وإحدى أخواتي لا تستطيعانِ الحركةَ أبداً. بقينا في الطابقِ الثاني من المشفى، زجاجُ النوافذِ مكسورٌ بسببِ القصف، وحدها الستائرُ تفصلُنا عن الخارج، أيُّ شخصٍ يحاولُ أن يفتحَ السّتارةَ يُطلقونَ عليه النارَ فورًا. كنّا مسجونينَ داخلَ مساحةِ جلوسِنا، صوتُ الانفجاراتِ وتناثرِ الشظايا لم يتوقفْ، أكوامُ الجثثِ حولَ المشفى مستمرةٌ بالارتفاع. من شدّةِ خوفي على أهلي، كنتُ أُخرجُ أمي وأخواتي إلى الممراتِ للنوم. نفدَ الطعامُ، لم يبقَ سوى علبةِ شوكولا واحدةٍ نطعمُها للأطفالِ لقمةً لقمةً، هناك الكثيرُ من الأطفالِ الجائعين، نفدَ الماءُ أيضًا. رأيتُ الدودَ يخرجُ من ساقِ أمّي المبتورة، رأيتُ عظامَها الناتئة، حالتها تسوءُ أكثرَ فأكثرَ وكنتُ أمسكُ رجلَها المبتورةَ وأحاولُ أن أنظفَ الجرح، بقينا ننامُ في الممراتِ، القصفُ حولَنا لم يتوقفْ.
في العشرينِ من نوفمبر، قصفُوا الطابقَ الثالث. شاهدنا الأبراجَ تتمايلُ أمامَ أعينِنا كما لو كان العالمُ ينهار. هربنا من الطابقِ الثاني، نزلنا مع المرضى إلى الطابقِ السفلي، أحسستُ بالشّظايا تشتعلُ داخلَ جسدي. كان معنا ممرضةٌ وزوجُها وفتاةٌ تدعى أمل، كنّا مرعوبين.
في الطابقِ السفليِّ وجدنا غرفةً كبيرةً لنختبئَ فيها من القصف. اعتقدتُ أنني سأُدفَنُ تحتَ الأنقاضِ هذه المرّة. كانت الغرفةُ ممتلئةً بالقمامة، فقررنا تنظيفها، رُغم الرعب، قضينا نهارًا كاملًا ونحن ننظفُ، نجمعُ الأوساخَ، لكننا لم نستطعْ إخراجَها، خفنا، فُوهاتُ الدباباتِ موجهةٌ نحو الأبواب، كانت الرائحةُ كريهةً ذلك اليومَ بشكلٍ لن أنساهُ أبدًا بقيةَ حياتي. في ذلك اليومِ أيضًا عثرنا على رغيفِ خبزٍ يابس، قسّمناه على ستةِ أشخاص، كان هذا طعامنا ليومٍ كامل. ومن ثمّ انقطعت الكهرباءُ بعد أن قصفوا مولدَ الطاقة، فغرقنا في ظلامٍ دامس، ورحنا –دون نتيجة- نحاولُ تهدئةَ الأطفال.

رأيتُ أكوامَ الجثثِ ترتفعُ حولَ المستشفى، من أين يأتون بكلِّ هؤلاء الناسِ المقتولين!


بدأ صوتُ الدّباباتِ يرتفعُ تدريجيًا، لقد اقتربوا من أبوابِ المشفى، كانوا يجرفونَ الأنقاضَ والجثثَ في طريقهم، يطلقونَ الرصاصَ، يقصفونَ، تأكدنا أنّهم قادمون، سيدخلونَ المشفى، سوف يقتلوننا. كانت تلك اللحظات تحملُ رعبًا لا يُوصف، كنّا نعيشُ بينَ الموتِ والحياة، نتعلقُ بالأملِ بينما الواقعُ حولنا يتهاوى. الدباباتُ تتقدم، ونحن مستعدونَ للموت. كنتُ متعبةً جدًا، منهكةً، أجهدُ كي لا تَغمضَ عيناي، أتوقعُ في أيّ لحظةٍ أن أرى فوهةَ مدفعِ الدبابةِ تدخلُ وتقصف. صوتُ الدّباباتِ يعلو، وصوتُ التّجريفِ يتردّدُ في أُذني، تخيّلتُ الجثثَ وهي تنعجنُ مع الركامِ تحتَ جنازيرِ الدّبابات. غفوتُ قليلاً. كانت الساعةُ تشيرُ إلى الواحدةِ أو ربّما الثانيةِ صباحًا عندما انفجرَ فجأةً صوتُ الرصاص، الطلقاتُ أصابت السقفَ، ونحن نصرخُ مذعورين، أُصيبت امرأةٌ بجانبنا. تحركنا بسرعة، تجمعنا حولَ بعضنا. كان الجنودُ الإسرائيليون يدخلون ساحةَ المشفى وهم يطلقونَ النارَ في كلّ الاتجاهات، كانوا يزعقون علينا بأن نخرجَ للساحة، رجلٌ كان يقفُ بجانبنا أخذَ يكررُ بصوتٍ مرعوب: "نحن مرضى ونساء وأطفال!" "نحن مرضى ونساء وأطفال!".
سحبتُ سريرَ أمّي نحوَ الساحة كما أمرنا الجنودُ الإسرائيليون، كان المشهدُ هناك يفوقُ قدرةَ البشرِ على الفهم؛ وجدنا أنفسنا محاطينَ بجثثٍ مكومةٍ فوقَ بعضها البعض، كلابُهم الضخمةُ تدورُ حولنا وتعوي، والرصاصُ يتناثرُ بينَ أقدامنا وفوقَ رؤوسنا، فوهاتُ الدباباتِ موجهةٌ تمامًا علينا، الزّناناتُ ترتفعُ ثمّ تنخفض. أُغمي عليَّ، كنتُ أموتُ من الخوف، أيقظتني أمل، الفتاةُ التي بقيتْ معي طوالَ الوقتِ في المستشفى.

النزوح بات واقعاً متكرراً في قطاع غزة (Getty)
بات النزوح واقعاً متكرراً في قطاع غزة (Getty)

أحاط بنا الجنودُ الإسرائيليون، وقالوا بصوتٍ عالٍ: "قفوا مكانكم، الحركةُ ممنوعة!" هذه المرّةُ الأولى التي أرى فيها إسرائيليًا وجهًا لوجه. ولدتُ في الحصارِ وعشتُ فيه، وكانت هذه أول مرّةٍ أراهم، صرخوا مجدّدًا: "اجلسوا وارفعوا أيديكم ورؤوسكم!" طلبوا منّا رفعَ رؤوسنا، ثمّ أدخلوا آلياتهم الطائرةَ القاتلةَ للتعرفِ علينا من بصمةِ العين، خشيتُ حقًا أنّ الكوادكابتر ستفجّرُ رأسي عندما جعلوها تحلقُ أمامي مباشرةً. أمروا الشبابَ بالوقوفِ إلى اليمين، أخطأ أحدُ الشبابِ بالحركة، فأطلقوا عليه النارَ فورًا، صرختُ لحظتها، كان الشّابُ ينزفُ بغزارةٍ حتّى مات، منعوا عجوزًا –ربما كان أباه- من الاقترابِ منه. بعد فحص بصماتِ العينِ للجميع، طلبوا من أحد الأطفالِ الموجودين معنا أن يذهبَ ويكسرَ كلَّ كاميراتِ المراقبة، فعل ما طلبوه تحتَ تهديدِ السلاح، كان مجرد طفلٍ صغير! ومن ثمّ اقتحموا البناء، دخلوا إلى كلِّ الأقسام. وبدأوا يبحثونَ عن أشخاصٍ لا نعرفهم، أخذوا بعضَ المرضى وراحوا يضربونهم، كانت جراحُ هؤلاء الجرحى تتفتقُ أمامنا من الضرب. بعد ذلك، أخذوا الشبابَ المتبقين، أخرجوهم إلى السّاحة، وهناك عرّوهم، كنّا نسمعُ أصواتَ التعذيب. أطلقوا النارَ على امرأتين جريحتين مستلقيتين على الأسرّة، رأيتهم بعينيّ يُطلقونَ النار، امرأةٌ منهم ماتتْ فورًا.
بعدَ أنْ أخرجُوا جميعَ الشَّبابِ إلى السَّاحة، جاءَ دورُ النِّساء. أخرجونا امرأةً تِلوَ الأُخرى، وأعادوا التَّحقُّقَ من هُويَّتِنا، كانت الطَّائراتُ الزَّنانةُ تفحصُنا واحدةً واحدة. خِفتُ أنْ يُؤذونا. طلبوا منَّا أنْ نقرفِصَ ورؤوسُنا للأسفلِ، تيبَّسْنا في تلكَ الوضعيةِ لساعتين. ثمَّ كانَ صوتُ انفجارٍ كبيرٍ ولمْ نعرفْ ما يحدث. كنا ننظرُ إلى بعضِنا ونتأكَّدُ أنَّنا ما زلنا على قيدِ الحياة. أدخلونا بناءَ المشفى من جديدٍ وبدأوا يُفتِّشون حقائبَنا، أخذوا كلَّ الوثائقِ وأشياءَ كثيرة. بقينا في الغرفةِ المُطِلَّةِ على الشَّارع، كانتِ الساعةُ الرابعةَ فجرًا عندما خرجَ الجنودُ الإسرائيليُّون من مبنى المشفى الإندونيسي ولمْ نعرفْ أينَ ذهبوا. في اليومِ التالي عندما استيقظنا، لمْ يكنْ من صوتٍ للقصفِ أو وجودٍ لأيِّ جنديٍّ إسرائيليٍّ. كأنَّنا في عالمٍ آخر، لمْ نفهمْ هذا الصّمتَ، ثمَّ اكتشفنا أنَّ هناك هُدنةً. وعندما فُتحَ بابُ المستشفى، رأيتُ الضوء، أخيرًا رأيتُ الضوء. لمصادفةٍ ما نجونا قلتُ لنفسي.

بعدَ موتِ أبي وأخي تساوتِ الحياةُ والموتُ بالنسبةِ لي، ولمْ يبقَ من معنى أو حتّى فرقٍ بينَ الحزنِ والفرح

خارجَ المشفى رأيتُ بعينيَّ الذي لمْ أتخيَّلْ يومًا بحياتي أنَّني سأراهُ وما لنْ ينمحيَ من ذاكرتي حتّى أموتَ؛ رأيتُ الجثثَ مُتراكمةً مكومةً فوقَ بعضِها البعض، أشلاءُ اللحمِ البشريِّ مبعثرةٌ في كلِّ مكان. السياراتُ مقلوبةٌ ومحترقة، والعماراتُ والبيوتُ مهدمة، الدمارُ في كلِّ مكان، كانتِ الأرضُ مزروعةً بالجثث، الأعضاءُ البشريةُ تنبتُ على أطرافِ الطريقِ وفي كلِّ زاويةٍ على مرمى البصر، رأيتُ الناسَ تُقلِّبُ الجثثَ بحثاً عن أبنائها، وكانَ أهلي معهم يبحثون عنّا بينَ الشُّهداء. كان خروجُنا أحياء معجزةً بالنسبةِ لهم! هل أنا حزينة؟ لا أعرف! ماذا يعني الحزنُ أمامَ كلِّ ما قلْتُه! ماذا يعني أمامَ كلِّ ما رأيته ولا أستطيع أنْ أقوله! بعدَ موتِ أبي وأخي، تساوتِ الحياةُ والموتُ بالنسبةِ لي، ولمْ يبقَ من معنى أو حتّى فرقٍ بينَ الحزنِ والفرح، كلُّ شيءٍ أصبحَ متشابهًا وبِلا معنى.
أخذُونا إلى مستشفى كمال عدوان، بقينا فيه ثلاثَ ليالٍ، لمْ نجدْ هناك أَسِرَّةً، لذلك نمنا على الأرض، لمْ يكنْ هناك أطباء، ولا ممرضونَ، ولا شيء، كنّا جرحى ونازحينَ فوقَ بعضِنا البعض، كان مستشفى بالاسم فقط. وخرجتُ لأعاينَ ما حصلَ في بيتِنا وبيتِ جدّي، كنتُ ما أزالُ أعرجُ. لمْ أجدْ شيئًا، دارُ جدي اختفتْ! لمْ تكنْ موجودةً وبيتُنا لمْ يكنْ موجودًا، لمْ يكنْ هناك من أبنيةٍ، لقدْ دمَّروا كلَّ شيء. المكانُ اختلف، اختفتْ حياتي وطفولتي، سُوِّيت المباني كلّها بالأرض. حقيقةً لمْ أتعرفْ على المكان!
نجونا ثانيةً من المجزرةِ التي وقعتْ في مستشفى كمال عدوان حينَ أحرقَ الإسرائيليّون خِيامَ النازحين في المستشفى. مصادفةً لمْ نكنْ هناك ساعتها. بأعجوبةٍ كُنّا ننجو من المجازرِ في طريقِنا نحو الجنوب، نهربُ من القصفِ إلى القصف، وفي النّهاية تشتّتنا، كلُّ واحدةٍ منّا في مشفى مُختلفٍ، أمّي وُضعتْ في مدرسةٍ للنازحين في مَواصي خان يونس، كانت رجلُها الثانيّةُ على وشكِ البترِ أيضًا وبدأتْ تفقدُ سمعَها شيئًا فشيئًا، في النهاية استطعنا أنْ نجتمعَ من جديدٍ في رفح. التقينا في مُخيّم رفح، لكنَّ ذلك كان جحيمًا آخرَ لنْ أرويَه، لا أستطيع. ولا أريد.

 

 

كيف نكتب الإبادة؟ عن هدم العالم وأشباحه

فراس الشيخ رضوان... الذي رأى ما لا يُرى (1)

الطبيب خالد أبو سمرة... مناوبتي التي لم تنته (2)

ندى عيسى عيّاش: الرائحة (3)

نسمة الفرّا وسامر الآغا: كانت تملك أجمل أصابع في العالم (4)

المساهمون