لم يعد التغيّر المناخي العالمي مجرد نظريات وتنبؤات ترتبط ببحوث، وتحذيرات يطلقها خبراء في مؤتمرات عالمية، فالتداعيات تطاول كل الكون، وتؤثر في الوقت ذاته في حياة الأغنياء والفقراء، وسكان المدن والأرياف معاً، وأولئك في البلاد الباردة والحارة. وهكذا مثلما تتأثر جزر في بريطانيا ودول في إسكندينافيا والشمال الأميركي باضطرابات المناخ الناجمة في الأساس من التغيرات المناخية العالمية، كذلك يحصل في المناطق الاستوائية.
والحقيقة أن العواقب البشرية أصبحت أكثر شمولاً خلال العقود الأخيرة، ولا تؤثر فقط في الازدهار الاقتصادي والمعيشي للبشر، بل في قدرتهم على حماية وجودهم المستقبلي، بعيداً من الأنانيات القومية التي تفشل في إيجاد حلول ذاتية، بمعزل عن أي مساهمة عالمية، تمهيداً لوقف التدهور المتواصل لصحة الأرض.
ويقدم خبراء المناخ والبيئة، وباقي المهتمين بمستقبل ازدهار الدول والشعوب، تصورات غير مطمئنة عن زيادة في درجات الحرارة ستؤدي إلى فترات أطول من الجفاف في جنوب أوروبا، والذي سيؤثر على المزارعين خصوصاً، وكذلك عن تزايد مخاطر حرائق الغابات التي تمثل بالفعل مشكلة كبيرة في البرتغال واليونان وإسبانيا، ودول أخرى أوروبية، وكذلك في أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة.
وفيما تسرّع درجات الحرارة المرتفعة ذوبان الأنهر الجليدية، تواجه الدول الساحلية تحديداً تحديات ارتفاع مستوى سطح البحر، وتأثيرات العواصف القوية.
سياسات مدمرة
يصنّف الباحثون الدنمارك وهولندا بلدين منخفضين مهددين بارتفاع درجات الحرارة، فيما لا تبرئ تقارير تصدرها منظمات دولية الشركات العملاقة، وغالبيتها غربية، من انتهاج سياسات إنتاج مدمرة خلال العقود الماضية بهدف زيادة إنتاج الغذاء العالمي، والحصول على أخشاب، وخلق مساحات زراعية ضخمة، وتشييد مبانٍ لمصانع وطرقات تطلبت هدم مساحات شاسعة كانت مغطاة بغابات.
ويكفي النظر إلى التدمير الذي تعرضت له غابات الأمازون في البرازيل، وأخرى في دول مجاورة بأميركا الجنوبية، لفهم التعديات الجائرة التي ينفذها الإنسان على النظام البيئي المترابط.
ورغم أن العلماء والخبراء يكررون بأن رئة العالم في غاباتها، عملت جرافات تملكها شركات العملاقة على قطع الأشجار وانتزاع جذور الغطاء النباتي الطبيعي من الأراضي، ما مهّد لنشوب حرائق التهمت باقي المساحات الخضراء ودمّرت أسس بقاء المجتمعات الأصلية لمصلحة عجلة التربح السريع على صدارة الإنتاج، من دون أي اهتمام بأثر اختلال التوازن البيئي المرتبط بانحسار الغابات.
وتنتشر حول العالم منذ سنوات طويلة العواقب التي يجلبها التغيّر المناخي على المجتمعات، وتأثيراته المستقبلية على البشر في مختلف الأقاليم والمناطق الجغرافية والمناخية.
وكررت لجنة المناخ التابعة للأمم المتحدة مرات، وبمصداقية عالية ترتبط باستقلال خبرائها، بأن التأثيرات والعواقب ستشمل كل شيء، ولن تستثني إمدادات الغذاء العالمية والبنى التحتية والصحة وشحّ المياه.
ومعلوم أن انتشار الجفاف مع انحباس حراري متزايد وانقطاع هطول الأمطار وندرتها، لا ينشر الفقر والجوع فقط، إذ لاحظ خبراء المناخ والصحة وجود روابط بين المناخ وصحة الإنسان حول العالم، فارتفاع درجات الحرارة في المناطق الاستوائية يزيد الأمراض المنقولة، مثل الملاريا والحمى الصفراء.
وفي مجتمعات تخلو من الأمن المائي والبنية التحتية التي توفر المياه الصالحة للشرب، تزداد المخاطر الصحية على الإنسان، مثل الإسهال والكوليرا، وأيضاً كوارث تطرف المناخ التي تتوقع دراسات عدة أن تتسع في الفترة القادمة.
اللجوء المناخي
ولعلّ رداءة البنية التحتية وغياب موارد مواجهة التغيّرات المناخية القاسية، يجعلان المجتمعات الأقل ثراء في حالة تشبه انعدام سبل البقاء والموت. ويرى خبراء أن تعرض مساحات شاسعة لفيضانات وجفاف وأعاصير بين العوامل التي تؤدي إلى صراعات وجودية في المستقبل، خصوصاً لدى الفقراء الذين يعتمدون على الزراعة وتربية الماشية للعيش.
وباتت مشاهد نفوق الماشية في الصومال وإثيوبيا ودول كثيرة في شرقي وغربي القارة الأفريقية أكثر انتشاراً بالتزامن مع انحباس المطر، وانتشار الجفاف والجوع.
وأمام ضعف موارد الدول الفقيرة التي تمنعها من إيجاد حلول مناسبة لعمليات الإغاثة والإسعاف، وبينها نقل السكان بطريقة منظمة من المناطق المنكوبة، لا يبدو غريباً أن يتشارك أشخاص من بنغلاديش مع آخرين من دول أفريقية فقيرة رحلات البحث عن "هجرة" يطلق عليها الخبراء اسم "اللجوء المناخي".
أعباء الأوروبيين
بدورها، بدأت القارة الأوروبية الثرية التي تملك موارد ومؤسسات راسخة تستشعر الضغوط التي يتعرض لها القطاع الصحي مع زيادة الاحترار العالمي، بعدما عانت خلال السنوات الأخيرة من موجات حرّ غير مسبوقة دفعت فيها الكثير من أرواح سكانها، خصوصاً أولئك الصغار والكبار في السن. وتنتشر في القارة العجوز الأمراض الناتجة من ارتفاع درجات الحرارة، علماً أن المواسم الزراعية الأكثر طولاً فيها تزيد أعباء انتشار أمراض التحسس وفتراتها.
وباعتبار أن المشاريع العمرانية وتلك الخاصة بالبنى التحتية في أوروبا الشمالية غير مصممة في الأصل للتعامل مع المناخ المتطرف المستجد، لن يكون غريباً أن تؤدي الفيضانات إلى كوارث تحصد الأرواح وتدمر بنى تحتية مكلفة مالياً. وسيزيد ذلك العبء على الأوروبيين غير المعتادين على التعامل مع تأثيرات التطورات السلبية للمناخ في حياتهم، في وقت لم تتعافَ بالكامل من الضربة العنيفة التي تلقتها أثناء جائحة كورونا.
نجاة البشر
أفريقياً، ترسم توقعات الخبراء وسيناريوهات الأمم المتحدة، صورة غامضة وداكنة للنقص الذي ستواجهه في المياه، وتؤثر في حياة بين 75 و250 مليون شخص، بينما تذهب التوقعات إلى أن هذا الرقم قد يصل إلى ما بين 350 مليونا و600 مليون إنسان عام 2050، ويشمل شحّ المياه الصالحة للشرب، وتلك المستخدمة في الزراعة.
وبخلاف مصر ودول أخرى في شمال أفريقيا التي بدأت تعاني من نقص المياه، يتوقع الخبراء أن تكون آثار التغيّر المناخي أكثر إيجابية على دول أفريقية أخرى مثل إثيوبيا وموزامبيق على صعيد تزايد كميات الأمطار، وبالتالي على المواسم المستقبلية لزراعة المحاصيل. لكن يتوقع عموماً أن تفوق العواقب السلبية لتغيّر المناخ النتائج الإيجابية.
وإذا كان يتوقع أن يتسبب عدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي، أو حتى الثقافي والديني في بحث البشر عن النجاة بدافع من غريزة البقاء، لن تترك التغيّرات المناخية إقليماً بلا تأثير. وسواء تعلق الأمر بهجرات ونزوح داخلي لملايين الناس، والتي قد تحصل في شكل غير منتظم ومن دون توفر بنى تحتية حقيقية، أو من خلال تدفق الملايين كلاجئين بسبب التغيّرات المناخية، واضح أن صحة الأرض ليست بخير، على غرار حال مستقبل أحفاد البشرية الذين لم يفهموا بالكامل حتى الآن أن تغير المناخ لا يشمل منطقة من دون أخرى.
وحتى تلك الدول التي ستنجو من التغيّرات المناخية، ستكون هدفاً لهجرة الناس الذين يبحثون عن منافذ للخروج من مناطقهم المنكوبة، من أجل تفادي الفناء تحت آفات الفقر والمرض والجوع. وسينشأ تنافس أكثر خطورة من مجرد احتراب على حدود دول وأخرى، فاعتبار الحق في المياه أو الموارد الغذائية حكراً لمجموعة سكانية من دون أخرى بين مختلف المجموعات لن يجلب التوافق، بل سيتسبب في نزاعات طاحنة، في حال لم تتبنَ دول العالم الخيارات الحقيقية والجدية للحدّ من عواقب التغيّرات المناخية، وهذه بين التوصيات التي تطلقها معظم اللجان الدولية التي تعنى بمساعدة التنمية الاقتصادية والتكيّف مع المناخ، وتنسيق الجهود لمساعدة المناطق المتضررة من الكوارث.