باتت مدينة طروادة غربي تركيا، العريقة في التاريخ، كاملة الأوصاف للجذب والاستكشاف، باعتبارها تتلاقى مع أحداث إلياذة هوميروس، تلك الملحمة الشعرية التي تتمحور حول قصة كسر جنود أسبرطيين (يونانيين) حصار طروادة، عبر "خديعة" التسلل إليها بعدما اختبأوا داخل حصان خشبي عملاق. وكانت المدينة أدرجت على قائمة "اليونسكو" الرئيسية للمدن التراثية قبل 23 عاماً، ثم شهدت افتتاح متحف خاص بها في عام 2019.
غالباً ما يقترن اسم مدينة طروادة في ولاية جناق قلعة شمال غربي تركيا بالحصان الخشبي الذي اختبأ فيه مقاتلون أسبرطيون تنفيذاً لخطة "الخدعة" التي وضعها ملكهم منيلاوس لدخول المدينة عبره، وقتل الطرواديين وحرق المدينة.
وتلتقي الروايات وإلياذة الشاعر الإغريقي هوميروس على أن أسوار طروادة أعجزت الإغريق بعد حصار استمر أكثر من عشر سنوات، خلال حرب نشبت بعد خطف زوجة ملك أسبرطة الأميرة هيلين. ثم لجأ منيلاوس إلى حيلة بناء حصان خشبي ضخم وزنه 3 أطنان وطوله 108 أمتار، وعرض إهداءه للإلهة مينيرفا، في طروادة، لكن أهل المدينة خافوا وطلبوا وضع الحصان على أبواب المدينة، وأعلنوا أنهم سينقلونه بنفسهم إلى الداخل. لكن ما إن حل الظلام حتى خرج الجنود من الحصان الخشبي، وفتحوا باب طروادة للإغريق المنتظرين، فدخلوا المدينة وأحرقوها وقتلوا أبناءها بنقمة ووحشية، ما أنهى حرب طروادة عام 730 قبل الميلاد.
مزار للعظماء
انطلاقاً من هذا التاريخ، تؤكد أستاذة التاريخ سيهان بولكجو قِدم المدينة وأهمية كنوزها التاريخية، وتقول لـ"العربي الجديد": "يعود تاريخ طروادة إلى 5 آلاف و500 عام. لكن عمليات حفر آثارها خلال الدولة العثمانية تأخرت إلى عام 1863، حين كشفت دراسة مدنها العشر". تضيف: "تعتبر المدينة، بتأثير إلياذة هوميروس، مزاراً سياحياً ومركزاً تاريخياً ثقافياً، ليس في تركيا فقط، بل في العالم كله، وزارها عظماء العالم في التاريخين القديم والحديث، بينهم الإسكندر الأكبر المقدوني والسلطان العثماني محمد الفاتح، وصولاً إلى رؤساء دول أوروبية". وتشير بولكجو إلى أنّ "تبويب معالم وكنوز طروادة وتصنيفها، وتحديد التواريخ بدقة وتزويد السياح بمعلومات وخرائط إلكترونية، أنجزت بالكامل في شكلها النهائي، ما مهّد لافتتاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متحف طروادة عام 2019".
وجرى الافتتاح في يوم ذكرى حرب "غاليبولي" أو حرب "جناق قلعة" التي شنتها قوات بريطانية – فرنسية مشتركة لمحاولة احتلال عاصمة السلطنة العثمانية إسطنبول في 18 مارس/ آذار عام 1915. وباتت المدينة اليوم إحدى أهم عواصم السياحة الثقافية والتاريخية بالعالم.
157 عاماً من الاستكشاف
وحول تأخر افتتاح المتحف وعمليات الحفر في المدينة، توضح بولكجو أن "البحث والاستكشاف لم يتوقفا طوال 157 عاماً. ومرّت الأعمال بمراحل عدة، لكن خصوصية المدينة وإبادتها وحرقها مرات عبر التاريخ أضفت خصوصية على البحث والاستكشاف. ربما أنجزت كل الاكتشافات، لكننا لا نزال نأمل بإيجاد آثار لمدينتي طروادة الأولى والثانية البائدتين، من أجل منح المدينة ميزات إضافية". تضيف: "حتى خلال الأشهر الأخيرة لأزمة فيروس كورونا، لم تتوقف لجنة التنقيب التركية عن العمل، على الأقل في مجال ترقيم نظم المعلومات للمواقع الأثرية، وواصلت التعاون مع مجمع التاريخ التركي والبلدية لتشييد ممر للمشاة ضمن المدينة الأثرية".
ويتفق باحثون في التاريخ على أن طروادة أحرقت مرات وأن أجزاءً منها اندثرت بعد تعاقب الأزمنة والحضارات والحروب، وأنه لم يبق منها حتى القرن التاسع عشر إلا تلة كبيرة تدل عليها، حتى جاء عالما الآثار الألمانيان هنريك شليمان وويلهام دوربفلد وزميلهما الأميركي كارل بليغن عام 1871، وأجروا دراسات في مواقع التلة، وأعطوا تاريخاً لحفريات مدن طروادة العشر.
تواريخ المدن العشر
سمح ذلك بتحديد تاريخ طروادة الأولى بين عامي 3200 و2600 قبل الميلاد، حين نشأت المدينة كحصن منيع يعيش داخله زعيم مع أسرته وخدمه في بيوت قليلة كبيرة محاطة بأسوار متينة، في حين كان الفلاحون وأرباب الحرف والتجار وصائدو الأسماك يعيشون في الخارج على منحدرات التلة أو في السهل.
ودمر حريق المدينة الأولى، ثم أعاد الأهالي تشييد طروادة الثانية التي صمدت بين عامي 2600 و2300 قبل الميلاد. وبنوا القلعة مجدداً، ووسعوا الأسوار ونصبوا بوابات ضخمة، وأقاموا في الوسط مبنى فخماً يُعتقد بأنه استعمل كقصر ومعبد في الوقت ذاته، ويحيط به 12 ألف منزل.
وأيضاً، أحرقت طروادة الثانية على أيدي غزاة، علماً أنّ معظم المعلومات عن ثرائها مصدرها مجموعات مختلفة من أشغال المعادن والمجوهرات التي أخفاها الأهالي قبل حلول الكارثة، وأشهرها كنز "بريام" الذي عثر عليه شليمان، ومجموعة من نوع مماثل عثر عليها في مدينة بوليوكني اليونانية.
وبعد حرق طروادة الثانية، صمدت المدينة نحو 1400 عام بين 2300 و1900 قبل الميلاد، في ما يسمى طروادة الثالثة والرابعة والخامسة. لكن دراسات الآثار كشفت تخلّف سكانها في كل المراحل قبل أن تدخل المدنية والحضارة إليها خلال مرحلتها السادسة الممتدة بين 1900 و1275 قبل الميلاد، حين أقيمت على أيدي شعب مختلف وأكثر تحضراً أدخل حيوانات لم تشاهد سابقاً مثل الجياد، وأنشئت فيها صناعات الصوف، ونشطت التجارة.
وكانت المدينة أكبر بكثير من سابقاتها، لكن زلزالاً دمرها عام 1800 قبل الميلاد، لينطلق بناء طروادة السابعة بين عامي 1275 - 1240 قبل الميلاد، على أيدي من بقي حياً من أهلها.
وباستثناء أسوارها الكثيفة المنيعة اختلفت طروادة السابعة بالكامل، إذ احتضنت آلاف المواطنين في أكواخ صغيرة متجمعة جنب بعضها البعض. وللمرة الأولى منذ أكثر من قرنين انعدمت التجارة مع اليونان التي أحرقت طروادة بعد حرب دامت نحو عشر سنوات مات فيها عدد كبير من جنود طروادة واليونانيين.
وامتدت حقبة طروادة الثامنة من عام 1240 حتى 1100 قبل الميلاد، ثم أبادها برابرة نازحون من وسط أوروبا. وبقيت مهجورة نحو ألفي عام، ثم ظهرت مرحلتها التاسعة بين عامي 1100 - 500 قبل الميلاد تحت الحكم اليوناني ببناء وهيئة جديدة، لكنها لم تعمر أكثر من مئتي سنة.
أما طروادة العاشرة فقامت بين عامي 500 و100 قبل الميلاد، حين بناها الرومان تكريماً لتحدرهم، بحسب الأساطير، من البطل الطروادي، أينياس. ومن أجل تشييدها كان يجب أن يدمروا قمة التلة، ما أزال آثار قصر الملك بريام. ثم سقطت طروادة الأخيرة بزوال الإمبراطورية الرومانية. وضاعت المدينة أكثر من 1300 سنة حتى قدم شليمان ودوربفلد وبليغن، وحلوا الألغاز وخبايا التاريخ عام 1871.
قد لا تزخر طروادة، كبلدة تاريخية صغيرة، بكنوز ظاهرة أو مقومات سياحية ترقى إلى مستوى تاريخها، فهي تضم أسواقاً شعبية، أشهرها أينالي وقلعة الساعة والبلدة القديمة "أسوس"، وتقع قرب جزيرتي جوكتشا وبوزجا، لكن تركيا ركزّت عام 2018 على الترويج لتاريخ طروادة وخدماتها في الذكرى العشرين للاعتراف بالمدينة التاريخية كموقع للتراث العالمي لـ "يونيسكو"، وزينت طائرات شركات طيران البلاد بصورة حصان طروادة الشهير، ضمن حملة عام طروادة، وبدأت في تشييد المتحف في مدينة جناق قلعة، قبل أن يفتتح في 2019 على مساحة 10 آلاف متر مربع، وبكلفة 50 مليون ليرة تركية (6 ملايين دولار).
ويعرض المتحف اكتشافات أثرية للمدن القديمة، ولوحة فسيفسائية تعود إلى 1800 عام قبل الميلاد تجسد مشهد ابنة الملك أغاممنون خلال حرب طروادة التاريخية، إضافة إلى 24 قطعة ذهبية تعرف باسم "كنوز تروي" التي أعيدت إلى تركيا من الولايات المتحدة.