يلهو الأطفال في الأزقّة الضيقة بثيابهم الجديدة. يحمل الفتيان من بينهم ألعاباً بلاستيكية، بنادق خرز بمعظمها، ويتبادلون الأدوار في لعبة "الفلسطيني والمحتل". أمّا الفتيات، فيحملنَ بمعظمهنّ حقائب يدوية وسكاكر. ويتكرّر هذا المشهد في كلّ عيد بالمخيّمات الفلسطينية في لبنان، لا سيّما مخيّم برج البراجنة، إلا أنّ الأجواء هذا العام اختلفت بعض الشيء وسط محاولات للفرح.
في عيد الفطر هذا، في مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين الواقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، راحت تُسمَع تكبيرات العيد قبل صلاة الفجر وبعدها، فتجمّع سكان المخيّم وتوجّهوا إلى المقابر حيث أضرحة الشهداء والراحلين. كان هؤلاء من كلّ الأعمار، وقد حملوا معهم أغصان الآس (الحمبلاس) والبخور والمصاحف، في واحدة من عادات العيد التي تؤكد تذكّر الناس أحباءهم الذين فقدوهم.
وبعد زيارة المقابر، عاد المحتفلون لأداء صلاة العيد والاستماع إلى خطبة الشيخ الذي طالبهم بإظهار الفرح والتعاون والتكافل والتضامن المجتمعي، مطلقاً دعوات إلى الله بـ"النصر" و"عودة اللاجئين إلى بلادهم" و"الاحتفال بالعيد المقبل في فلسطين".
وبعد انتهاء صلاة العيد، راح الناس يتبادلون القبل والمعايدات.. "كلّ عام وأنت بخير" و"ينعاد عليك" و"فطر مبارك". أمّا الأطفال فراحوا ينتشرون في أرجاء المخيّم، منهم مَن حصل على "العيدية" ومنهم مَن ينتظرها على أحرّ من الجمر.
تقول أمّ أحمد إنّ "العيدية هي أكثر ما يُفرح الأطفال، إذ يشعرون بأنّهم يملكون أموالاً كثيرة وبالتالي يستطيعون شراء ما يريدون. لكنّ العيديات هذا العام لا تلبّي الرغبات، فالليرة اللبنانية منهارة في مقابل الدولار الأميركي، في حين أنّ كلّ شيء يُباع بالدولار". تضيف: "من جهتي عيّدت أولادي الثلاثة بالليرة". هذا ما يتوفّر لأمّ أحمد ولسكان المخيّم بمعظمهم.
ومع مرور الوقت، راحت تتكشّف أكثر فأكثر مظاهر العيد في المخيّم، وإن بدت خجولة. يقول رامي عريضة البالغ من العمر 13 عاماً إنّ "لا بهجة للعيد هذا العام"، لافتاً إلى أنّ "لا مراجيح كثيرة" في حين أنّ "الناس يسيرون في الطرقات" بوجوه متجهّمة.. كأنّه لا عيد هنا.
ومراجيح الأطفال في المخيّم بسيطة جداً، وقد مرّت عليها أعوام وأعوام. هي صدئة، لكنّ ضحكات الأطفال وتردّدهم إليها يبعثان فيها الحياة. وتبدو مركبات "التوك توك" أشبه بلعبة شعبية في المخيّم، إذ يستقلّها الأطفال ويتجوّلون في الأزقّة على أنغام الموسيقى التي يخترقها صوت الخرز المنطلق من البنادق البلاستيكية، الأمر الذي يزعج كثيرين من المارة.
وتعلو أصوات الناس المندّدين بمن اخترع تلك البنادق، لأنّ الأطفال يطلقون الخرز من بنادقهم تلك بطريقة عشوائية، فيما تتحوّل الأزقّة إلى ساحات معارك. هنا، يريد الصغار جميعاً أن يكونوا الشهيد إبراهيم النابلسي (قيادي بارز في كتائب شهداء الأقصى)، وحين يختلفون على أسماء الشهداء، ينقسمون إلى كتيبتَي جنين ونابلس، فيخيّل إليك في لحظة أنّك في مخيّمات الضفة الغربية.
ويُعَدّ مخيّم برج البراجنة من أكبر مخيّمات اللجوء الفلسطيني في بيروت، وتُقدَّر مساحته بكيلومتر مربّع واحد، فيما يصل عدد سكانه اليوم إلى 25 ألف نسمة من الفلسطينيين وغيرهم، من بينهم 16 ألفاً مسجّلين كلاجئين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بحسب إحصاء أخير.
من جهته، يسأل سمير حيدر وهو من سكان مخيّم برج البراجنة: "ما ذنب الأطفال حتى لا يفرحوا بالعيد؟". يضيف: "نحن نعيش في بؤس مذ تهجّر أهلنا من فلسطين، لكنّنا نقوم بالمستحيل لنُفرح أطفالنا".
هنا في المخيّم، اعتاد سكانه قبل أعوام على رائحة كعك العيد وكذلك رائحة اللحمة المشوية. لكنّ الحال اختلفت بعض الشيء في عيد هذا العام. ويخبر القصّاب أبو شاكر أنّه "في العادة أذبح ثلاثة عجول وخمسة خرفان، لكنّني اليوم لم أذبح سوى عجل واحد وخروفَين". يُذكر أن الغلاء الذي يطاول ثمن اللحمة اليوم هو سبب تراجع شرائها، فكيلوغرام اللحمة يتراوح ما بين 10 دولارات و20 دولاراً (ما بين مليون ومليونَي ليرة لبنانية بحسب سعر صرف السوق الموازية).
ولا تخفي أمّ ناصر أنّها لم تعدّ الكعك والمعمول عشيّة العيد، لأنّ "المكوّنات باهظة الثمن وصحن كعك صغير قد يكلّف أكثر ممّا يتقاضى زوجي على مدى أسبوع". أمّا فوزية فتشير إلى أنّها تشاركت مع أختها وجارتها لصنع قدر قليل من المعمول. في الإطار نفسه، تشير حياة لوباني إلى أنّ "هذا العام، لم نعدّ الكعك، إذ إنّ بالنا غير مرتاح ونفتقد الغوالي". وتستذكر أنّه "في السابق، كنت أصنع 20 صينية كعك، وكان الجيران يميّزون كعكي من راحته"، فيما تتنّهد بحسرة قائلة "يا ليت تلك الأيام تعود".
أمّا مها إسماعيل فأصرّت على صنع كعك العيد، وتوضح أنّه "من عاداتنا الفلسطينية القيام بما يفرحنا. لذا أعددنا الكعك". لكنّها تقول "صنعنا كميّة صغيرة، أي عيّنات، بسبب ارتفاع كلفة المواد المستخدمة في ذلك". وإسماعيل التي تؤكّد أنّها تتمسّك بفرحة العيد، تدندن بغصّة "يمّا لو جانا العيد ما في حدا يعايدنا.. كلّ الناس يمّا بتعيّد إلا الشعب الفلسطيني".
بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فإنّ فرحة العيد تبقى ناقصة ما لم تقترن بالعودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها منذ عام 1948. لكنّ الفرحة الظاهرة في عيون أطفالهم وهم يلهون في ساحات المخيّم ما زالت تمدّهم بالأمل بمستقبل أفضل لهم ولهؤلاء الأطفال الذين يحملون فلسطين في قلوبهم أينما حلّوا.