في ديسمبر/كانون الأول 2013، هربت نياندينق (67 سنة)، رفقة زوجها وابنها من قريتهم الواقعة بالقرب من مدينة "بانتيو" في دولة جنوب السودان، إلى العاصمة السودانية الخرطوم، في أعقاب اندلاع الحرب بين رئيس البلاد سلفاكير ميارديت، ونائبه رياك مشار.
قطعت عائلة نياندينق المسافة بين بانتيو والخرطوم، والبالغة نحو 940 كيلو مترا، في تسعة أيام، لتستقر في بناية كانت تحت التشييد في حي "جبرة" جنوبي الخرطوم. بعد الاستقرار، ظنت الأسرة أنها ودعت رعب الحرب، إذ لم يعرف من قبل أن حرباً نشبت في داخل الخرطوم. لاحقاً، مات زوجها، ثم سجن ابنها بسبب جنحة ارتكبها.
أطلق الجيران في الخرطوم، عليها اسم سارة، إذ كان اسمها الحقيقي صعب النطق بالنسبة لهم، وهي لا تنسى أبداً كيف مات شقيقها ووالدتها، وعدد كبير من أفراد قريتها قبل عشر سنوات خلال الحرب.
كانت نياندينق تعتقد أن الحرب تنشب بعيدا عن العواصم، لأن الناس في تلك المناطق بسطاء، ونادراً ما تهتم الحكومات بحياتهم، ولذلك فإنهم عندما يقتلون خلال الصراع، يدفنون في مقابر جماعية. عندما نشبت المعارك بين قائدي الجيش والدعم السريع في الخرطوم، يوم 15أبريل/نيسان، اضطرت نياندينق إلى الهروب مجدداً في رحلة عكسية إلى وطنها. وجدت نفسها ضمن مئات النساء والأطفال وقليل من الرجال، يركضون جنوباً تجاه قراهم التي غادروها هرباً قبل عقد من الزمان.
تقول المسنة المرهقة لـ"العربي الجديد": "في البدء، ظننا أن القتال لن يقترب من المنطقة التي نعيش فيها، لأنها فقيرة وشبه نائية، لكن في اليوم الثاني كانت الطائرات الحربية تحلق فوق رؤوسنا، والقنابل تتساقط على المنطقة، وجنود على متن سيارات دفع رباعي، يقتتلون داخل أزقة الحي".
أعاد القتال المشتعل في الحي إليها مشاهد الحرب السابقة التي قُتل فيها بعض أفراد أسرتها، ومن أجل النجاة، قطعت المسافة بين "جبرة" و"جبل الأولياء" البالغة 32 كيلو مترا، في 8 ساعات سيراً على الأقدام، لأن مركبات النقل الداخلي توقفت عن العمل كلياً، وجبل الأولياء هي نقطة العبور الرئيسية بين ولاية الخرطوم وولاية النيل الأبيض.
كانت نقطة العبور تضج بالفارين، تقول نياندينق: "لقلة حافلات السفر، أصبح الجميع يستغلون وسائل نقل البضائع، وبشق الأنفس استطعت إيجاد مركبة (دفار) متجهة إلى مدينة كوستي، بعد عشر ساعات من السفر الشاق، انتهت رحلتي الأولى في كوستي التي عبرتها سابقاً هاربة نحو الخرطوم".
يقول مسؤول بمفوضية اللاجئين الأممية في ولاية النيل الأبيض، إن 25 ألف لاجئ من دولة جنوب السودان وصلوا إلى الخرطوم إبان الصراع بين سلفاكير ومشار في عام 2013، فروا مجدداً من الخرطوم إلى ولاية النيل الأبيض، وأكد المصدر الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن "المفوضية لا تستطيع في الوقت الراهن تقديم المساعدات اللازمة لهؤلاء القادمين من الخرطوم، وهناك ضعف شديد في الخدمات المُقدمة داخل المعسكرات العشرة بولاية النيل الأبيض، وستة منها في محلية السلام، وأربعة بمحلية الجبلين، ومعظم القاطنين فيها من قبيلة (النوير) التي ينتمي إليها رياك مشار، والذي تحول الصراع بينه وبين سلفاكير إلى حرب أهلية بين قبيلتي النوير والدينكا التي ينحدر منها سلفاكير".
ويوضح المسؤول بالمفوضية أنهم لم يسمحوا لنحو عشرة آلاف من قبيلة الدينكا القادمين من الخرطوم وغيرها من المدن، بدخول معسكرات اللاجئين في الولاية، خوفاً من تجدد النزاع القبلي داخل المعسكرات، ودفعوهم إلى معبر "جودة" الحدودي للعودة إلى دولة جنوب السودان.
وجدت نياندينق نفسها مُجبرة على مواصلة رحلتها إلى جنوب السودان رفقة آلاف من الدينكا، وقالت المفوضية إن غالبيتهم عبروا الحدود بالفعل، لكنها قررت عدم عبور الحدود. تقول: "لا أستطيع العودة إلى القرية لأنها لم تعد موجودة، فالحرب دمرتها تماماً، وسكانها إما قتلوا في الحرب، وإما لاجئون في السودان".
تسعة أيام مرت على مغادرة نياندينق لسكنها المؤقت في جبرة، خسرت فيها المال القليل الذي كانت تمتلكه، وبدأت تشعر بالجوع، وتسرب الوهن إلى جسدها. تضيف: "أنا حالياً عالقة مع عدد من النساء والأطفال على الحدود بين السودان وجنوب السودان، فلا نستطيع مواصلة السير على أقدامنا حتى نصل إلى جنوب السودان، ولا نستطيع العودة إلى داخل السودان، وسنبقى هنا لأيام حتى نتدبر أمرنا".
يقول مسؤول حكومي في محلية الجبلين، فضل عدم الكشف عن اسمه، إن سلطات الولاية لا تستطيع في الوقت الراهن تقديم أية مساعدات للجنوبيين الذين قدموا مع مواطنين سودانيين فروا من الحرب في العاصمة الخرطوم، وإن الجهود في الوقت الراهن تقتصر على مساعدة النازحين السودانيين.
يصف السكان المحليون في المنطقة المحيطة بمعبر "جودة"، الظروف التي يعيشها اللاجئون الجنوبيون الفارون في حركة لجوء عكسية بأنها "كارثية". يقول أحمد عبد الله، من سكان جودة: "وصلت أعداد كبيرة من اللاجئين إلى المعبر في غاية الإرهاق، ورغم معاناتهم، لكنهم لم يجدوا أية جهة تقدم لهم المساعدة، ومن عبروا الحدود بالفعل لا يتوقعون وجود أية مراكز إيواء على الجانب الأخر، وربما اضطروا إلى إنشاء معسكرات مؤقتة بأنفسهم على أطراف المُدن القريبة في الوقت الراهن".
وتعليقاً على ذلك، تقول مصادر في مفوضية اللاجئين إن هناك مساعي تبذل مع عدد من منظمات المجتمع المدني المحلية، ومع منظمات دولية لإنشاء معسكرات جديدة للاجئين، لأن المعسكرات الموجودة في الولاية مكتملة العدد مسبقاً، ولا يوجد بها مكان لاستضافة أعداد جديدة.
ويعيش سكان مدينة "الجنينة" في ولاية غرب دارفور، وضعاً أكثر مأساوية، فالمدينة التي تبعد 1414 كيلو مترا عن العاصمة الخرطوم، تتعرض لهجمات عسكرية متكررة، راح ضحيتها نحو 120 قتيلا خلال أربعة أيام، كما شهدت حرق 7 معسكرات للنازحين في المناطق المحيطة بالمدينة، ليفقد نحو 468 ألف شخص المأوى خلال 72 ساعة.
يقول رئيس معسكرات النازحين بالولاية، الشيخ داوود أرباب، لـ"العربي الجديد": "لا أحد يستطيع معرفة عدد اللاجئين الذين عبروا الحدود نحو تشاد، لأن الوضع على الأرض لا يزال متأزماً عسكرياً، وليس من السهل حصر اللاجئين".
وتقول مريم هارون (73 سنة)، إنها وصلت صباح الخميس الماضي إلى إحدى القرى الحدودية بين السودان وتشاد، هاربة من الجنينة، وهى أم لأربع بنات، وستة أولاد، واثنان من أولادها قتلوا يوم الثلاثاء 26 أبريل، وأصيبت إحدى بناتها إصابة بالغة، موضحة أنها تنوى الوصول إلى معسكرات اللاجئين في تشاد رغم التحذيرات التي تلقتها بعدم مواصلة السير لأن طرفي الصراع العسكري وقطاع الطُرق ينتشرون على الطريق.
وتؤكد مصادر متعددة من السكان المحليين في المنطقة الحدودية بين السودان وتشاد، أن نحو 8000 لاجئ وصلوا إلى مدينة "أدري" بعد اجتيازهم الحدود التشادية خلال الـ72 ساعة الماضية. وتُقدر المسافة بين مدينة الجنينة ومدينة أدري التشادية بحوالي 35 كيلو مترا.
يقول يعقوب، وهو أحد اللاجئين الذين عبروا حدود تشاد، إنهم انضموا مباشرة إلى معسكرات اللاجئين السودانيين، وإن السلطات التشادية شرعت في ترتيب إقامتهم بمعسكرات جديدة منفصلة بعد تسجيلهم في مفوضية اللاجئين.
حاولنا معرفة تفاصيل أخرى حول اللاجئين من السلطات الرسمية، لكن لم نتمكن من الوصول إلى معتمد شؤون اللاجئين، مجيب الرحمن آدم يعقوب، وكذلك مفوض العون الإنساني بولاية غرب كردفان، الصادق محمد أحمد.
ولا توفر السلطات السودانية أية إحصائيات حول أعداد الضحايا والنازحين واللاجئين، كما أن الخدمات الحكومية الرئيسية شبه متوقفة، خصوصاً في العاصمة الخرطوم. في حين تقدر إحصائيات غير رسمية، أن الاشتباكات العسكرية بين الجيش السوداني والدعم السريع، خلفت أكثر من ألف قتيل، وعدة آلاف من المصابين، وتسببت في هروب عشرات الآلاف نحو دول الجوار، مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان، في حين نزح نحو 6 ملايين شخص داخل مدن السودان.