فاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان معاناة النساء ضحايا العنف اللواتي أصبحن "مكبّلات" بمجموعة عوائق تحول دون كسرهن الصمت وطلب الحماية، أخطرها حديثاً صعوبة التبليغ والوصول إلى الخط الآمن للمساعدة الطارئة، سواء بفعل أزمة الاتصالات والكهرباء والمازوت التي جعلت مراكز كثيرة خارج الخدمة، أو ارتفاع التعرفة أكثر من 4 أضعاف، لينحصر الهاتف بيد الزوج، أو بتأثير تقلّص وسائل المواجهة التي فرضها اعتكاف القضاة، إلى جانب تقييد الانهيار المعيشي حركة المرأة، وخسارتها حتى لمساندة أهلها العاجزين عن الإنفاق عليها وعلى أولادها.
تلفت رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية كلودين عون، في حديثها مع "العربي الجديد"، إلى أن "الأزمة الاقتصادية التي نمرّ بها أدّت إلى تراجع كبير في الظروف المعيشية للرجال والنساء، وبالتالي للأسر، ما انعكس سلباً على حياتها وحياة كل أفرادها. ولوحظ ارتفاع نسبة التوترات العائلية التي أدّت في بعض الأحيان الى تفكك الأسر، وزادت نسبة الطلاق".
تضيف: "بالنسبة إلى النساء بشكل خاص، زادت الأزمة الاقتصادية أعباء حياتهن الأسرية، وأثّرت سلباً على مختلف نواحي معيشتهن. ولوحِظ أن انتشار البطالة الذي تفاقم خلال هذه الأزمة طاول النساء العاملات خصوصاً، ما أضعف أوضاعهنّ الاقتصادية والاجتماعية، وقلّص إمكاناتهنّ في التصرّف".
تقاعس القضاء
وتشير المحامية في مركز الدعم بجمعية "كفى" فاطمة الحاج، في حديثها لـ"العربي الجديد"، إلى أنه في حال قرّرت المرأة أن تنتفض على واقعها وتخرج من دائرة العنف، تواجه تقلص وسائل المواجهة، فعلى سبيل المثال إذا صدرت أحكام لصالحها سواء على صعيد النفقة الزوجية أو الأولاد فهي لا تتجاوز مبلغ مليون ليرة لبنانية (أقلّ من 27 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق الموازية)، كذلك في حال اكتشف الزوج أنها تواجهه قانونياً سيزيد العنف ضدها، في حين أنها ليست قادرة على التبليغ ولا الإنفاق على أولادها، ولا تقديم شكوى جزائية مثلاً بالتعرض لأذى أو ضرب أو جرم جزائي آخر، في ظل الاعتكاف الحالي للقضاة من أجل تحسين رواتبهم.
وتلفت الحاج إلى أنه "حتى لو ارتفعت قيمة حكم النفقة، لا تنفذ الأحكام ربطاً باعتكاف القضاة، كما لا يمكن الحجز على راتب الزوج، أو القيام بإجراء يدخل في إطار حماية المرأة، وتقديم الدعم اللازم لها".
وتتوقف الحاج عند خطورة اعتكاف القضاة، خصوصاً أن الأكثر عرضة للعنف هم النساء والأطفال، "ما يضعنا اليوم في معركة توجب البحث عن خطة لحماية المرأة في ظل تقاعس القضاء".
وتذكر أيضاً أن "التبليغ عن عنف ممارس على المرأة بحالة الجرم المشهود لم يعد يتوفر أيضاً في كل الأوقات خلال النهار لأن خط العنف الذي تضعه قوى الأمن الداخلي يكون خارج الخدمة لساعات بسبب انقطاع التيار الكهربائي ووجود أزمة اتصالات. وهكذا من يتعرضن لعنف، ويواجهن خطراً أصبحن متروكات للرحمة الإلهية. أيضاً إذا قررت الزوجة ترك المنزل، فلم يعد الأهل قادرين على استقبالها وتحمّلها اقتصادياً، فيقولون لها بشكل واضح أنه يجب أن تبقى مع أولادها في منزلها لأنهم عاجزون عن الإنفاق على شخص آخر".
بلا سند
وفيما استجدت هذه العوامل في ظل الانهيار الاقتصادي، تقول فاطمة إن "الأزمة باتت تطاول حتى النساء اللواتي يمكن تصنيف حالتهن المادية بأنها متوسطة، بعدما فقدن سند الأهل. أما المنسّقة التقنية لإدارة الحالات في منظمة "أبعاد" ليلى حمدان، فتقول لـ"العربي الجديد" إن "العنف ضد النساء وباء عالمي وانتهاك لحقوق الإنسان، كفرد، والحق في الحياة والتمتع بأمن شخصي. وتتعدد أشكال مختلفة للعنف، ومنها التحرش الجنسي أو العنف البدني، والجسدي، وزواج القاصرات، عدا عن العنف الاقتصادي والمعنوي واللفظي".
وتشير حمدان إلى أن "عوامل عدة تعزز العنف ضد النساء، منها أولاً، سياسي، بينما تضع الدولة اللبنانية هذه القضية في آخر سلم الأولويات، في ظل غياب التشريعات الرادعة والحامية والمحاسِبة، وعدم تطابق القوانين السائدة المعمول بها مع المعايير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان للتصدي للعنف ضد المرأة وحماية الناجيات. وفي الوقت ذاته يتسبب التسامح وثقافة الصمت التي تلجأ إليها للأسف غالبية السيدات في تبرّير العنف".
وتلفت إلى الانعكاس الكبير للأزمة الاقتصادية على الأوضاع داخل العائلات، وارتداده بارتفاع ما يُعرف بالعنف الاقتصادي، وتشدد على أن الأخطر يكمن في التراجع الملحوظ على مستوى التبليغ، مع إحجام النساء والفتيات عن الاتصال بالخط الآمن للمساعدة الطارئة والتزامهنّ الصمت، سواء بسبب ترتيب الأولويات على الصعيد العائلي، في ظل الغلاء وتردي القدرة الشرائية، والخوف من الطلاق أو التبليغ عن العنف الذي ارتفعت نسبته، والخوف من افتقاد القدرة على إدارة المنزل مادياً وحدهنّ، وإعالة أولادهنّ. واللافت أيضاً، أن نساء كثيرات لم يعدن يملكن هاتفاً خلوياً، أو يعجزن عن دفع كلفة إجراء مكالمات. وزاد ذلك لجوء النساء إلى مراكز المساحات الآمنة.
وتشدد على أن الواقع الحالي يتأثر بعدم ثقة النساء بالسلطات القضائية والأحكام الصادرة غير المنصفة بحقها، وعدم التزام الرجل بمضمون القرارات وتعهداته، واليوم اعتكاف القضاة، ربطاً بالأزمة الاقتصادية. كما لا تخفى السلبيات المرتبطة بالتزام النساء الصمت وجعل اللجوء إلى الدولة ضعيفاً وشبه معدوم.
جهود دعم
وتوضح حمدان أن "مراكز منظمة أبعاد موجودة في كل المناطق اللبنانية، لكننا نلاحظ أن التبليغ أو اللجوء إلينا يكون من نساء يعشن في مناطق شعبية بنسبة أكبر من المناطق الأخرى، ما يؤكد مدى ارتباط الوضع الاقتصادي بالعنف ضد النساء والأطفال أيضاً".
وتكشف المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أن عدد الاتصالات التي رصدت عبر خطها الساخن بلغ 1333 عام 2021، و568 في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي.
وتختم حمدان: "نحن حريصون على توعية النساء ومساعدتهن بكل الطرق والأساليب في الحصول على الدعم النفسي والاجتماعي، ونهتم بتسليط الضوء على قضاياهنّ في وسائل الإعلام المرئية، خصوصاً أن العديد من الفتيات والنساء لا يعلمن أن هناك منظمات لديها مساكن لمساعدة ضحايا العنف في لبنان، وكذلك خطوطاً ساخنة للاستجابة السريعة، وغيرها من التقديمات التي تدعمهنّ".
وفي السياق، تقول كلودين عون إن "موضوع تسهيل آلية تبليغ الضحايا في قضايا العنف الأسري، بين التدابير التي تحاول الهيئة الوطنية لشؤون المرأة أن تتخذها مع شركائها. وسبق أن طالبت الهيئة بأن يكون الاتصال بالخط الساخن لقوى الأمن الداخلي 1745 مجانياً، وهو ما لم يتحقّق".
وترى الهيئة أنّ "المستوصفات الصحية ومراكز الخدمات الإنمائية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية يمكن أن تساعد النساء ضحايا العنف في التبليغ عن حالاتهنّ، والتواصل مع الجمعيات المحلية".
تضيف: "نظّمت الهيئة الوطنية حملات توعية دعت فيها النساء ضحايا العنف إلى رفض العنف وطلب الحماية والمساعدة من خلال إبلاغ قوى الأمن الداخلي على الخط الساخن 1745، أو التواصل مع منظمات المجتمع المدني. كذلك سعت الهيئة إلى تسهيل عملية تقديم الشكاوى في حالات العنف، وتجاوبت وزارة العدل والسلطات القضائية معها بقبول تلقي الشكاوى بواسطة الهاتف والبريد الإلكتروني خلال فترة جائحة كورونا".
على صعيد آخر، تؤكد حمدان أن القضاء على العنف يتطلب نهجاً شاملاً لمعالجة تأثيراته على الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية للمرأة، وعلى مشاركتها في الاقتصاد والحياة العامة. وتعتبر ملاجئ الناجيات من العنف عنصراً أساسياً في الاستجابة الشاملة والمنسقة، وتتوقف عند أهمية أن يكون هناك صندوق اقتصادي للسيدات ضحايا العنف، وتقديمات لهنّ على مستوى الخدمات الصحية والمعنوية والاجتماعية.
التشريع اللبناني
تقول عون إنه "في عام 2020 أقرّ مجلس النواب التعديلات التي سبق أن اقترحتها كلّ من وزارة العدل ومنظمة "كفى" والهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية على القانون رقم 293 لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف، بغية تأمين حماية فعّالة لضحايا العنف الأسري والأولاد، وذلك بعدما تبيّن وجود ثغرات في بعض مواد القانون استناداً إلى نتيجة التجربة العملية في تطبيقه لدى القضاة المعنيين".
تضيف: "شكلت التعديلات التي أجريت على قانون حماية المرأة من العنف الأسري تقدّماً على صعيد زيادة حماية النساء ضحايا العنف وأولادهنّ، ووفرت دعماً معنوياً لهنّ، علماً أن القانون رقم 204/ 2021 الذي أصدر تعديلات على القانون رقم 293/2014 (حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري) تضمّن تعريفاً للعنف الأسري والممارسات الجرمية التي تقع أثناء الحياة الزوجية أو بسببها، وأنواعها التي تخضع لعقوبات، وطالب بزيادة عدد القضاة المولجين بالتحقيق وبالنظر في قضايا العنف الأسري، والحرص على إطلاع الضحايا على حقوقهن، والاستعانة بالمساعدة الاجتماعية، وشمول أمر الحماية الذي يصدر لصالح ضحية العنف الأسري أطفالها البالغين من العمر 13 سنة وما دون، ومنح أي قاصر الحق في طلب الحماية دون إذن من ولي أمره".
وتردف إلى أن "المادة 21 من القانون 204/ 2021 تنصّ على إنشاء وزارة الشؤون الاجتماعية حساباً خاصاً يتولى مساعدة ضحايا العنف الأسري وتأمين رعاية لهم، وتوفير سُبل الحد من جرائم العنف الأسري والوقاية منها وتأهيل مرتكبيها. ويموّل الحساب من مساهمات الدولة في الموازنة السنوية لوزارة الشؤون الاجتماعية، والهبات والأموال الناتجة عن الغرامات المحكوم بها بموجب القانون، لكن الأزمة الاقتصادية التي نمرّ بها حالت دون تفعيل هذا الصندوق".
أُنتج هذا التقرير بدعم من برنامج نساء في الأخبار ضمن مبادرة كتابة التقارير حول الأثر الاجتماعي (SIRI)