استمع إلى الملخص
- تواجه عائلات السجناء ضغوطاً نفسية ومالية كبيرة، مع صعوبة في الاندماج الاجتماعي بسبب الوصمة والانعزال، مما يزيد من تعقيد وضعهم.
- يشدد الخبراء على أهمية الدعم الحكومي وإنشاء مراكز تأهيل متخصصة، بالإضافة إلى الملاحقة القانونية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات لضمان تحويل المآسي إلى قصص أمل.
لا تنتهي القصص من سجونِ سورية التي أدارها نظام الأسد المخلوع، حيث غابت الإنسانية وعلت أصوات التعذيب، إذ لم تكن مجرد مكان يقضي فيه المعتقل مدة من الزمن ثم يخرج بسلام، بل كابوس.
خرج مئات من المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي من سجون سورية بأجساد منهكة ونفوسٍ متعبة. دفعوا في الأساس ثمناً مضاعفاً بين جدران المعتقلات وخارجها، في حين لا تزال القيود تكبل حياتهم وأسرهم بعد خروجهم، إذ فقد كثيرون منهم ذاكرتهم أو أصيبوا بأمراض نفسية حادّة حوّلت الألم النفسي إلى واقع يومي لا يمكن الهروب منه.
في أحد أحياء دمشق، تجلس حميدة الخبوص في جوار ابنها أحمد (32 سنة) الذي وجدته بعدما بحثت عنه أياماً في مستشفى بالعاصمة، وتقول لـ"العربي الجديد": "رأيت صورة ابني بين السجناء المحررين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه تأخر في العودة إلى المنزل، فبادرت إلى البحث عنه بعدما توقعت أن قد يكون قد فقد ذاكرته، وبات لا يعرف كيف يعود إلينا".
وحدث فعلاً ما كانت تخشاه الأم المكلومة فابنها لم يعرفها حين التقته، وتخبر: "كان أحمد طالباً في الجامعة، وأراد أن يصبح مهندساً، ثم اعتقل خلال تظاهرة سلمية قبل سبع سنوات، وعاد إلينا اليوم وهو لا يعلم حتى اسمه".
تتابع بصوت يخنقه الحزن: "تعبت من محاولة أن أجعله يتذكرني. في بعض الأحيان، أبكي أمامه لأرى ما إذا كان سيتفاعل معي، لكنه يبقى بارداً ولا يبدي أي رد فعل. ليس أحمد فقط من يعاني بل كل العائلة، ونسأل كيف سنتحمل تكاليف علاجه من دون الحصول على أي دعم، في وقت نقوى فيه بالكاد على تأمين قوت يومنا في هذه الأيام الصعبة. لا نطلب الشفقة بل العدالة، وأن يشعر أحد بمعاناتنا".
خرج كثيرون من سجون الأسد بلا ذاكرة أو أصيبوا بأمراض نفسية
عائلة حميدة واحدة من آلاف يواجهون حقيقة مؤلمة مع ذويهم الذين خرجوا من السجون أخيراً، وهم في حالة فقدان كامل أو جزئي للذاكرة، ومصابون باضطرابات عقلية ونفسية حادة. وتضع هذه الحالات الأسر والمجتمع أمام تحديات إنسانية وقانونية شائكة، لا سيما عندما ينتقل هؤلاء الأفراد من السجون إلى المستشفيات النفسية، أو إلى العزل داخل المنازل، أو حتى الإهمال الذي يمكن أن يؤدي إلى مآسٍ مروعة.
في مدينة حلب، تعيش عائلة سامر الكردي، وهو عسكري انشق عن النظام وحُرّر من سجن المزة العسكري بعد تسعة أعوام من الاعتقال. وتقول شقيقته ليلى: "كان سامر إنساناً مرحاً يحب الحياة، لكنه اليوم شخص غير طبيعي كل ما يفعله هو الصراخ. يصل صوته إلى الجيران، ولا ينطق بكلمة مفهومة. عرضناه على الأطباء النفسيين، لكنهم قالوا إن حالته تحتاج إلى سنوات من العلاج وقد لا تتحسن. كل ليلة يبدأ بالصراخ ويضرب نفسه، ما حوّل المنزل إلى سجن لنا جميعاً، ولا نعلم كيف نساعده".
تتابع: "لا أتخيل أنواع التعذيب التي يمكن أن تسلب الإنسان عقله. لم يعد سامر يرد على أسئلتنا، وأحياناً يُسرف في الضحك أو البكاء بشكل مفاجئ، ثم يصرخ وكأنه يرى من عذّبه أمام عينيه. كل ما يهمنا الآن هو أن يتلقى رعاية طبية ونفسية حقيقية، لكننا لا نجد مساعدة ولا نملك القدرات المالية لتحمّل تكاليف العلاج الطويلة والمكلفة".
رغم أن العلاج النفسي والتأهيل قد يكونان حلاً، لكن النجاح يبدو صعباً في الظروف الراهنة، فعائلة سامر لا تملك ما يلزم من مال لتوفير علاج مناسب له، وتقول: "اصطحبنا أخي إلى مراكز علاج اقترحت استخدام علاج مهدئ لم ينفع، إذ جعل حالته النفسية أسوأ وأكثر انعزالاً".
من جهتها، خرجت الثلاثينية أمل المحمد من سجن عدرا لتعيش في عالمها الخاص. وهي تلزم الصمت ساعات طويلة، وقد تبتسم فجأة أحياناً أو تطلق نوبات غضب من دون سبب. وعندما تتحدث، تكون كلماتها غير مترابطة وتهلوس عن أشياء غريبة، ولا تعي وجود أحد قربها. تبدأ صباحها بالصراخ وتنهيه بالصمت. تعيش في عالم من الهلوسة، وتتحدث مع أشخاص غير موجودين وتصرخ في الليل، ويرفض ذووها الحديث عن حالتها أمام الجيران خوفاً من الوصمة الاجتماعية.
تقول إحدى قريباتها: "يعيش أطفال أمل في جو من الخوف، ولا يفهمون أسباب صراخها وتصرفاتها غير الطبيعية. يلعب المجتمع دوراً سلبياً في قضية السجناء في ظل غياب شبه كامل للجهات الرسمية أو المجتمعية القادرة على تقديم مساعدة. وحالياً، يكتشف السجين وأسرته أنهم معزولون اجتماعياً، ويعيشون في حالة من الإحباط واليأس بلا بصيص أمل بسبب الجهل وقلة الوعي".
وتشير إلى أن "المشكلة لا يمكن أن تحل على المستوى المحلي فقط، بل تتطلب تدخلاً دولياً أيضاً، فهناك حاجة ملحة لبرامج دعم شاملة تشمل العلاج النفسي والتأهيل الاجتماعي للضحايا إلى جانب زيادة التوعية المجتمعية التي أصبحت تخشى من الوصمة الاجتماعية التي ينتمون إليها. ويعني ذلك أن هؤلاء باتوا يواجهون بمفردهم ماضياً مؤلماً ومستقبلاً بلا أفق".
تضيف: "يجب أن تروى هذه القصص ليس لتسليط الضوء على هؤلاء الأشخاص فقط، لكن أيضاً لدق ناقوس الخطر في شأن ضرورة توفير الدعم النفسي الشامل لهم ولأسرهم كي يستطيعوا استعادة حياتهم ولو جزئياً. لا يمكن أن يندمج شخص أمضى سنوات في العزلة أو تحت التعذيب بسهولة في المجتمع من دون أن يتلقى أي دعم".
يتحدث الأخصائي النفسي محمود سالم، لـ"العربي الجديد"، عن أن "ما يمر به السجناء السابقون من اضطرابات نفسية هو نتيجة حتمية للصدمات بسبب التعذيب غير الإنساني، وتعكس فعلياً الذاكرة الناتجة عن الإجهاد النفسي والجسدي لما تعرّضوا له في السجن. عندما يعيش الإنسان تحت ضغط من العنف والعزل والإهانة، يدخل دماغه في حالة من الدفاع عن النفس قد تؤدي إلى خلل في الذاكرة أو الإدراك".
يتابع: "عندما يتعرض الإنسان لتعذيب وحشي، قد ينهار تماماً لأن الجهاز العصبي يصل إلى نقطة عدم القدرة على التعامل مع الألم الجسدي والنفسي. ويؤدي ذلك إلى انفصاله عن الواقع، علماً أن كل حالة تختلف عن الأخرى، وتفقد غالبيتها القدرة على التواصل الطبيعي مع محيطها".
ويشير إلى أن "فقدان الذاكرة هو أحد استجابات النفس نتيجة المرور بتجربة مؤلمة، فالدماغ يختار تعديل الأحداث التي لا يستطيع تحمّلها. وفي بعض الأحيان، تحصل إصابات دماغية مباشرة نتيجة الضرب أو تلف نفسي نتيجة العزل والإذلال. ويتطلب علاج هذه الحالات قسماً متخصصاً ومعالجين نفسيين".
ويبين أن "هذه الحالات تحتاج إلى اهتمام حقيقي من المنظمات الإنسانية، إذ لا يمكن للأسر أن تتحمل هذه المسؤوليات وحدها. ويجب توفير دعم حكومي مشترك، وإنشاء مراكز تأهيل متخصصة ومتقدمة في العلاج النفسي على المدى الطويل، فتقديم الدعم للأسر مهم جداً".
ويلفت الأخصائي إلى أن "التعافي ممكن لكنه بطيء وصعب. وفي حال استخدام طرق العلاج في بيئة آمنة ومستقرة، فقد يستعيد العديد من المرضى جزءاً من حياتهم الطبيعية. ما يمر به هؤلاء السجناء مع أسرهم ليس فقط كارثة، بل قضية إنسانية بامتياز، ولا يجب أن تنتهي مسؤولية المجتمع والجهات الفاعلة عند حدود إظهار الحزن والتعاطف، إذ يجب تنفيذ إجراءات حاسمة واتخاذ قرارات لتحويل هذه المآسي إلى قصص للإنقاذ والأمل".
يقول المحامي فادي عمران لـ"العربي الجديد": "أصبحت الملاحقة القانونية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات ضرورية، علماً أن جرائم التعذيب والانتهاكات النفسية داخل السجون مدرجة ضمن المادة رقم 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أنه لا يجوز إخضاع أحد لتعذيب أو لعقوبات قاسية أو لاإنسانية أو تحطّ من الكرامة".
يضيف: "لا يمكن الاكتفاء بإدانة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم التعذيب، فالمسؤوليات تقع على المسؤولين في أعلى الهرم الذين تغاضوا عن الانتهاكات أو ربما أمروا بها، ونسأل كم عدد الأشخاص الذين باتوا يعيشون هذا الكابوس بصمت؟".
وكانت الأمم المتحدة نددت بالفظاعات التي شهدتها سجون ومراكز الاحتجاز في سورية، وأكدت أنها "تعكس الوحشية التي لا يمكن تصورها التي عانى السوريون منها لعقود". ووصفت الصور التي نشرت من داخل السجون بأنها "شهادات عميقة على المعاناة والآلام التي لا توصف التي يتحملهما المعتقلون وأسرهم وأحباؤهم".