بات الموت في لبنان رخيصاً إلى درجةٍ أن المصابين بالأمراض المزمنة والمستعصية ينتظرون مفارقة الحياة في أي لحظة. وكأنّ آلامهم اليوميّة لا تكفي، ليتحمّلوا معها عبء تأمين الدواء بوسائلهم الخاصة، كالاستعانة بالمغتربين. فما يتمّ تداوله عن انقطاع الأدوية المخصّصة لعلاج هذه الأمراض أصبح حقيقة ثابتة، بعدما بلغت النواقص ما لا يقلّ عن 30 في المائة، وهي نسبة آيلة إلى الارتفاع بشكلٍ يوميّ، ما يُنذر بعواقب وخيمة يدفع معها المرضى فاتورة التقاعس السياسي والفساد المستشري في البلاد.
وتختصر وزارة الصحة رداءة الوضع الصحي وحجم المأساة والكارثة الإنسانيّة المرتقبة بحق المرضى من اللبنانيّين والمقيمين، من أطفالٍ وكبارٍ ومسنّين، بالقول: "إمّا أن يموت المريض أو أن يقصر عمره". وكان وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن قد أعلن أنّ "أزمة الدواء على طريق الحلّ، وسنكون بتوجيهات من الرئيس ميشال عون بدءاً من يوم الإثنين المقبل (يوم غد) على الأرض، بعدما أصبحت هناك تحويلات وموافقات قيمتها تقريباً 100 مليون دولار، ما يستوجب من الشركات المستوردة أن تبادر إلى استيراد الدواء". ونُظّمت وقفة تضامنية مع مرضى السرطان في نقابة الأطباء في بيروت، وأكّد نقيب الأطباء شرف أبو شرف أنّ "الوضع خطير جداً".
سعيد، وهو رجل سبعيني، لم يجد أدويته في مركز توزيع أدوية الأمراض المستعصية في محلة الكرنتينا ــ المدوّر (بيروت). يقول لـ "العربي الجديد": "لم أستطع تأمين الحقنة المطلوبة، وأعاني من سرطان البروستات. وهذه الحقنة تُؤخذ كلّ ثلاثة أشهر، وهي أساسيّة في العلاج، فضلاً عن 7 أدوية أخرى أتناولها بشكلٍ يوميّ. لكن بعدما انقطعت الحقنة، اضطرّ الطبيب إلى أن يصف لي حقنة بديلة تعطي الفعاليّة ذاتها، غير أنّها تُؤخذ كلّ شهر". يضيف: "كان من المفترض أن أبدأ العلاج من خلال هذه الحقنة مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، لكنّني عجزتُ عن تأمينها، فوصف لي الطبيب أربع حقن بديلة، إلا أنها غير موجودة في مركز الكرنتينا، وعليّ البحث عنها في الصيدليّات، لكنّني لم أجد أيّاً منها. وبسبب نفاد سيارتي من الوقود، قصدتُ إحدى المحطات لأتمكّن من متابعة البحث عن الحقنة، فكان أن انتظرتُ من الساعة التاسعة صباحاً وحتّى الواحدة والنصف بعد الظهر، من دون أن أتمكن من تعبئة الوقود". هكذا، يعيش سعيد صراعاً يوميّاً مع المرض والموت والوقود والدواء والرغيف وكلّ مقوّمات الحياة. ويسأل: "هل يُعقل ألا نحصل على الدواء، وهو من أبسط حقوقنا؟ هناك أدوية كثيرة لا أجدها، وأخرى ارتفع سعرها رغم الدعم الذي يُحكى عنه. مثلاً، سعر الحقنة المذكورة يبلغ مليون ليرة لبنانية (667 دولاراً أميركيّاً وفق سعر الصرف الرسمي)، وكان مركز الكرنتينا يؤمّنها، وأحياناً كانت تُؤمّن عبر جمعياتٍ أهلية ومجموعة خيّرين، لكن اليوم لا خيار أمامي سوى تأمينها من الخارج من خلال أولاد شقيقي المغتربين".
إلى ذلك، يقول مستشار وزير الصحة العامّة لشؤون الدواء، رياض فضل الله، لـ "العربي الجديد": "نسبة النواقص في أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية، من أمراض السرطان والتصلّب اللويحي والهيموفيليا (نزف الدم الوراثي) وتخثّر الدم وأدوية الكلى، لا تقلّ عن 30 في المائة، وهي نسبة ترتفع بشكل يوميّ". يضيف: "صحيح، الدواء غير موجود في مركز الكرنتينا، وهناك توقّف في تقديم علاجاتٍ متطوّرة، وبالتالي عودة إلى علاجاتٍ كيميائية قديمة. مهما قلنا يبقى الواقع كالآتي: إمّا إن يموت المريض أو أن يقصر عمره". ويسأل: "كيف للدواء أن يُؤمّن بلا مال؟ ومَن سيسيّر الأمور، في وقت يتقاتلون على جنس الملائكة، ليُطاح بالأولويات. فقد صرفوا، وفق قولهم، اعتماداتٍ للنفط بقيمة 800 مليون دولار أميركي خلال شهرٍ واحد، وهم اليوم غير قادرين على تأمين 350 مليون دولار لتغطية كل أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية وبعض اللقاحات خلال سنة كاملة، علماً أنّهم خفّضوا موازنة وزارة الصحة إلى النصف، وأضافوا إليها جزءاً من المستلزمات واللقاحات وحليب الأطفال".
ويشدّد فضل الله على "عدم وجود علاقة على الإطلاق لوزارة الصحة مع مصرف لبنان، فالأخير يتبع لجهةٍ تمتلك سلطة عليه"، ويؤكّد أنّ "المسؤولية اليوم بالنسبة لقضية الأدوية، تتحمّلها حكماً السلطة القائمة. وبالتالي، يدفع المريض ثمن عجز السلطة التي لا تترجم أقوالها إلى أفعالٍ ملموسة، علماً أنّ لبنان هو من أعلى دول العالم في غرب آسيا تسجيلاً لمعدّلات الإصابة بمرض السرطان".
وإذ يكشف مستشار الوزير أنّ "الوزارة تلقّت بعض المساعدات، لكنّها لا تغطّي كل الحاجات والفئات"، يضيف: "هناك حالة من انعدام الثقة وعدم الاطمئنان في العلاقة بين الشركات المستوردة للأدوية ومصرف لبنان. فالأخير يقول إنّه سيّر الأدوية السرطانية، في حين تُعلن الشركات أنّه دفع لها مستحقاتٍ قديمة، علماً أنّ شركات كبرى لا تستورد هذه الأدوية منذ نحو شهرين". ويحذّر فضل الله من "تبعات عدم حل الأزمة وانعكاسها على شريحةٍ كبيرة تعتمد على الوزارة لتأمين أدويتها". ويشير إلى أنّ "منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) تقدّمان عادة أدوية غسيل الكلى والأدوية اللازمة للمرضى الذين خضعوا لزراعة الكلى ومرضى الهيموفيليا، بالإضافة إلى تبرّعات منظمات المجتمع المدني، لكن هناك أدوية نوعية باهظة جداً يجب تأمينها".
ويختم حديثه قائلاً: "كلّ النظام الصحي في لبنان مهدّد، ونشهد اليوم على انهياره بكلّ مقوّماته، من هجرة أطباء وممرّضين وممرّضات، وعدم قدرة المستشفيات الحكومية والخاصّة على القيام بدورها في ظلّ تفاوت سعر صرف الدولار، وبالتالي عدم توفر مادّة المازوت وارتفاع أسعار المستلزمات الطبية. أضف ذلك إلى ما نواجهه اليوم من تداعيات موجة رابعة أو خامسة لجائحة كورونا. باختصار، الصورة قاتمة".