من تاريخ المنتخبات (11): إيران أو كيف تترك شعباً في التسلل

18 يناير 2024
رموز النظام حاضرون بقوة في الملاعب في إيران (Getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة كأسي أفريقيا وآسيا 2024. تتناول هذه الحلقة تاريخ منتخب إيران.


تاريخ إيران المعاصر متقلّبٌ، يصل صداه إلى العالم أساساً عبر أخبار الحروب والثورات والاحتجاجات والملف النووي. لكن ذات المادة التاريخية تنعكس في مرايا أخرى، أبرزها تلك الصورة التي يرسمها السينمائيون الإيرانيون برهافة ناسجات الزرابي عن واقع بلدهم. وكذلك، يشكّل تاريخ كرة القدم مشهداً تظهر من خلاله وجوه الحياة في إيران بتناقضاتها، ومنها الصراع بين تعطّشُ مجتمعٍ لمتنفسات أساسية مثل الرياضة والتضييق المُمارَس ضدّها.

في فيلم بعنوان "تسلّل" (2006، إخراج جعفر بناهي)، لم يكن صدفة أن تلتقي السينما بكرة القدم، ولا يأتي مثل هذا اللقاء إلا ليقدّم تشريحاً دقيقاً للمجتمع الإيراني المسحوق تحت صخرة تاريخه المعاصر. ففي بلد يَمنع الفتيات من دخول الملاعب، يروي الفيلم ما تتعرّض له فتاة حاولت دخول "استاد أزادي" خلال مباراة حاسمة لإيران من أجل الترشح لكأس العالم 2006 (لم ينته منع النساء من دخول الملاعب إلا عام 2019).

تتنكّر الفتاة في ملابس رجالية، وتنجح بادئ الأمر في دخول الملعب قبل أن يُكتشف أمرها، لنُتابع أحداث المباراة من دون أن نشاهد شيئاً منها، إذ نعرف تطوّراتها فقط من خلال صيحات الجماهير وهي تُسمع من مكان احتجاز الفتاة مع أخريات خضن نفس المغامرة. كأن الفيلم، وقد اختار أن يسلطّ عدسة الكاميرا على الهامش البعيد عن الأضواء، يقول إن المباراة الحقيقية في إيران ليست تلك التي يخوضها المنتخب ضد فريق منافس، بل ما يخوضه الناس، وخصوصاً النساء، ضدّ أشكال القمع التي يتعرّضن إليها.

هذا القمع المسلط على الإيرانيات كان سبباً في اندلاع احتجاجات 2022 بعد اعتداء "شرطة الآداب" على مهسا أميني بسبب عدم ارتداء حجابها بالشكل المطلوب، وهو ما يتسبّب في وفاتها لاحقاً. لم تهدأ الاحتجاجات التي بدأت في أيلول/ سبتمبر 2022 حتى أتت كأس العالم في نوفمبر/ تشرين الثاني في قطر من نفس العام، وكانت إيران قد تأهّلت لها. وفيما كان النظام يتكتّم عن التظاهرات التي عمّت المدن الكبرى في البلاد، رفعت الجماهير الإيرانية أكثر من شعار ينتصر لحقوق النساء. وفي حركة أخرى، امتنع لاعبو المنتخب الإيراني عن أداء النشيد الوطني قبل بداية مباراتهم الأولى ضد إنكلتراً تضامناً مع الاحتجاجات.

على أرض الملعب، لم تكن المشاركة الإيرانية جيّدة خلال كأس العالم الأخيرة، فقد انسحب من دور المجموعات، رغم أن الفريق يضمّ نجوماً، أبرزهم الهداف مهدي طارمي، وبدا من التصفيات والمواجهات التحضيرية أن الفريق قادر على مقارعة أي خصم. تكرّرت تلك الخيبة في بلوغ الدور الثاني خلال مشاركات إيران الست في كأس العالم، وهو ما يُبقي حضور "تيم ميلي" (التسمية الشعبية للمنتخب الإيراني) بعيداً عن الأضواء الكروية في ما عدا مبارتين، شاءت فيهما القرعة أن تضع إيران والولايات المتحدة الأميركية في نفس المجموعة (1998 و2022)، وفي المرتين لم يكن اهتمام العالم بهما إلا من باب مشاهدة كيف تكون المواجهات الكروية استكمالاً للصراعات السياسية، لكن بوسائل أخرى.

كانت مشاركات إيران قد بدأت في كأس العام 1978. ذهب المنتخبُ إلى الأرجنتين بعد هيمنة مطلقة على قارة آسيا من خلال التتويج بثلاث دورات متتابعة من البطولة القارية (1968 - 1972 - 1976)، غير أن الإيرانيين اكتشفوا في تلك الدورة الفجوةَ بين الكرة في قارتي أوروبا وأميركا الجنوبية وبقية العالم، فقد اصطدموا بهولندا (خسارة 3-0) والبيرو (خسارة 4-1) وتعادلوا مع اسكتلندا (1-1).

وفيما بدت تجربة يمكن البناء عليها للعودة إلى كأس العالم بخبرة أكبر، نزل الستار فجأة على كرة القدم مع دخول البلاد فصول الثورة الإيرانية، وأُهدر حتى التفوّق في قارة آسيا، فحين تحوّلت إيران إلى جمهورية إسلامية عام 1979، كانت جميع معالم العصر الملكي معرّضة للمحو، ومنها كرة القدم، لتُرفس طموحات المنتخب الإيراني مثل صور الشاه بالأقدام.

في نفس عقد الثمانينيات، كانت السينما الإيرانية أيضاً تعبُر الصحراء، غير أن مجتمع السينمائيين أخذ ينهض بالتدريج باحثاً عن لمعات ضوء داخل النفق المظلم، لتنبني تسويات مع السلطة أتاحت عودة الفن السابع بتصوّرات جديدة، وبذلك تشكلت السينما الإيرانية التي نعرفها اليوم. لم تجد كرة القدم نفس الحظ، فهي تحتاج إلى نسيج مؤسساتي أوسع وإلى اعتراف دولي، وإلى اهتمام من الدولة. زد على ذلك دخول "الجمهورية الإسلامية" في حرب طويلة مع العراق كانت سبباً آخر لتأجيل النظر في أمر كرة القدم، وما الذي يمكن للنظام أن يستفيد منها.

يكشف تاريخ منتخب كرة القدم حدود القوة الناعمة لنظام متصلّب

كانت أفلام الحرب التي احتاجها النظام في النصف الثاني من عقد الثمانينيات هي الأرضية التي انبنت عليه التسوية بين السينما والسلطة المعادية لها، أما كرة القدم فقد احتاجت إلى قرابة عشرين عاماً كي ترمّم نفسها. لم يحدث ذلك إلا حين شعرت "الجمهورية الإسلامية" بالاستقرار، فنظرت بعين الرضا إلى كرة القدم، وسرعان ما عاد "تيم ميلي" إلى المواقع الأمامية في الكرة الآسيوية بجيل قاده المهاجم علي دائي والظهير مهدي مهدافيكيا، وكلاهما قاد مسيرة ناجحة في الملاعب الأوروبية، ليصل المنتخب الإيراني إلى كأس العالم 1998 في فرنسا، ومن ثمّ يصطدم مرة أخرى بمنتخبات أوروبية لا يقوى عليها عودُه الطري (هزيمتان ضد ألمانيا ويوغسلافيا).

ما يبقى في أذهان الإيرانيين من تلك النسخة من كأس العالم هو انتصار منتخب بلادهم أمام الولايات المتحدة الأميركية 2-1. كانت الفرحة في شوارع إيران توحي بتتويج بكأس العالم رغم أن المباراة جمعت فريقين انسحبا من الدور الأول. لم تكن فرحة شعبية فحسب، كانت أيضاً فرحة رسمية أيضاً، وماذا كان يعني أن تفوز إيران على كل المنتخبات وتتأهل إذا ما خسرت أمام "الشيطان الأكبر"؟

من وراء ذلك، يشير الفرح الشعبي الذي أنتجته كرة القدم - منذ التصفيات - إلى كسب رهان ضمن صراعات أجنحة الحكم في إيران. لم تكن مصادفة أن رجوع إيران إلى الساحة الكروية تزامن مع صعود تيار الإصلاحيين، الداعي إلى مرونة أكبر في تسيير البلاد، وتجسّد مع وصول محمد خاتمي إلى موقع الرئاسة في 1997، كما تعبّر عنه تلك الصورة التي جمعت لاعبي المنتخبين الإيراني والأميركي قبيل انطلاق المباراة وتبادل باقات الزهور. ولم يكن ليُسمح بكل ذلك لو أن "الجمهورية الإسلامية" حافظت على تصلّب سنوات حكمها الأولى.

ساهمت تلك المحطة في ترسيخ عناية النظام الإيراني بالرياضة الأكثر شعبية في العالم. لم يكن من الممكن مواصلة التغاضي عن هوس الإيرانيين بكرة القدم في المعادلة السياسية، خصوصاً شريحة الشباب الواسعة، التي لم تعش مرحلة العبور الأيديولوجي بين زمنين، وبالتالي تحتاج إلى طرق تعامل مختلفة. لقد أظهرت المباريات الحاسمة لـ"تيم ميلي"، نهاية التسعينيات، حجم التعطش لكرة القدم في إيران، وأبرزت أيضاً الرغبة في امتلاك متنفس اخترعته البشرية لنفسها في الزمن الحديث، وحاجة الإيرانيين إلى أفراح دورية كبقية شعوب العالم.

تبقى العناية الرسمية بكرة القدم بمقدار، فأولويات النظام جيوسياسية قبل كل شيء

يشهد استاد آزادي في طهران على كل ذلك. ففي حين يتسع رسمياً لـ90 ألف متفرج، فإنه قد استقبل أكثر من 100 ألف مشجّع في مناسبات عديدة، خصوصاً كلما تعلّق الأمر بمباريات حاسمة للوصول إلى كأس العالم. عام 1997، وفي المباراة الفاصلة لتحديد آخر مشارك في كأس العالم، وصل عدد المناصرين في مباراة إيران ضد أستراليا إلى 128 ألفاً. وقد حدث في مرات كثيرة أن مات مشجعون بسبب التزاحم والاختناقات. لكن هناك ما يغري بالمجازفة، فأفراح هذا الشعب قليلة، مع قمع السلطة في الداخل والحصار في الخارج.

بُني ذلك الملعب عام 1971، أي قبل الثورة الإيرانية، وكان يحمل اسم "استاد  أريامهر"، وهو التعبير الأكبر لاستثمارات دولة الشاه وتوجّهاتها في ما اعتبر لاحقاً جزءاً من البروباغندا الإلهائية لـ"النظام البائد". ذلك النظام هو نفسه الذي أرسى سينما تجارية بالغت في أحيان كثيرة في ابتذالها حتى باتت صنماً تستهدفه الثورة.

وفي بداياتها، كان من السهل أن تغلق "الجمهورية الإسلامية" معظم قاعات السينما أو تحوّلها إلى أنشطة أخرى، لكن الأمر كان مختلفاً مع الملاعب، وخصوصاً الاستاد الرئيسي في طهران. فقط جرى إهمالها واستثمارها في بعض الاحتفالات السياسية. كان واضحاً أنها أُنشئت من أجل زمن آخر لم يأت إلا في نهاية القرن العشرين مع بدء "الجمهورية الإسلامية" في مسايرة الميولات الشعبية، فأعيد تأهيل الملعب عام 2003 بشكل يليق بمنتخب يشارك بانتظام في البطولات الدولية.

تبقى هذه العناية بمقدار، فأولويات النظام جيوسياسية قبل كل شيء. لذلك ظلّت الكرة الإيرانية متعثرة مختنقة، تؤهلها إمكانيات اللاعبين لتحقيق إنجازات لكنها لا تبلغها. مثلاً في 2014، نجح "تيم ميلي" في الصمود أمام المنتخب الأرجنتيني حتى الدقيقة الأخيرة حين نجح ليونيل ميسي في التسجيل من كرة ثابتة. لكن الفريق الذي صمد أمام منتخب سيصل إلى المباراة النهائية، انهزم أمام البوسنة 3-1 وتعادل مع نيجيريا 0-0 ليخرج من دور المجموعات. وفيما يحقق المنتخب الإيراني نتائج جيدة في كل تصفيات آسيوية، فإنه لم يعد إلى التتويج بالبطولة القارية مجدداً، محققاً المركز الثالث في معظم الدورات.

هكذا، وكما أن عناية الدولة بكرة القدم لا تتجاوز سقفاً محدداً، بقيت النتائج الكروية محدودة، أو بالأحرى مكرّرة. في كل مرة، يظهر المنتخب قادراً على تحقيق إنجاز يؤمن به المشجعون الإيرانيون، ثم تخيب آمالهم. حدث السيناريو نفسه في كأس العالم الأخيرة، وفي مواجهة ثانية مع الولايات المتحدة الأميركية حين خسرت إيران بهدف لصفر في مباراة كان الفوز يفتح باب العبور نحو الحلم الإيراني ببلوغ الدور الثاني.

بعبارة كروية، كلما اعتقد المنتخب الإيراني أنه سجّل هدفاً، وجد نفسه في التسلل. ومن وراء المنتخب شعب بأسره يجد نفسه في التسلل، ليس في كرة القدم وحدها. لقد اعتقدت إيران أنها تنجو من خلال ثورتها من التبعية العمياء للغرب، فإذا بها تقع في متاهات أخرى. تعتبر نخبها المدنية أنها بلغت شيئاً من الديمقراطية وترسيخ الحريات السياسية، فإذا بالمصالح العليا ترى غير ذلك. تظنّ فئاتها المقموعة أنها حققت بعض الحقوق، فإذا بالعباءة السوداء قد انسدلت من جديد. ولن تكون كرة القدم استثناء في كل ذلك.