مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.
حتى بداية التسعينيات، كان اللاعبون الكروات يمثّلون منتخب يوغسلافيا، مع زملاء من صربيا ومقدونيا والبوسنة وسلوفينيا ومونتينيغرو وكوسوفو، وكانت هذه الشعوب تقدّم لاعبين موهوبين ما يوحي بأن اتحادها سيجعل منها فريقاً تنافسياً على أعلى المستويات. غير أن ما حققته كرواتيا منذ انفصالها عن بقية الجسد اليوغسلافي عام 1991 يمثّل مفارقة، فقد تبيّن أن الجزء أقوى بكثير من مجموع العناصر، وقد كانت كرة القدم - والرياضة عموماً - برهان الكروات على ذلك.
كانت بطولة أوروبا 1996 أوّل ظهور لكرواتيا المستقلة في مسابقة دولية كبيرة، وقد فاجأوا الجميع باستعراض كرويّ أمام الدنماركيين، أبطال الدورة السابقة، عابثين بحارسهم الأسطوري بيتر شمايكل، ومن ثمّ نجحوا في العبور للدور الموالي قبل الاصطدام بألمانيا والانسحاب تحت تصفيق الجميع. في تلك الدورة، برزت أسماء كانت حاضرة في المنتخب اليوغسلافي دون أن تلمع مثل بوبان وبروسينيكي، وخاصة مهاجمهم دافور سوكير الذي سيبرز أكثر في المشاركة الأولى لكرواتيا بكأس العالم (فرنسا 1998) بتتويجه هداف الدورة.
وأمام دهشة العالم، وصل الكروات خلال ذلك المونديال إلى نصف النهائي، ومرة أخرى كأنما اختاروا ضحيّتهم بعناية، فقد هزموا ألمانيا في الدور ربع النهائي بثلاثة أهداف نظيفة في واحدة من أكبر مفاجآت كأس العالم. يومها، لم يعد ممكناً لأحد أن يَغفل عن كرواتيا، ولعل كثيرين قد بحثوا بهذه المناسبة عن مكانها في الخريطة، وعن حكاية قميصها الغريب الذي يُشبه رقعة شطرنج بمربعات حمراء، وهم يشاهدون كرواتيا تتقدّم بثقة إلى المربّع الأخير من أقوى بطولات كرة القدم، ولو لم يصطدم الكروات بفرنسا - مدعومة بعاملي الأرض والجمهور - لذهبت بهم المغامرة ربما أبعد.
لم تغطّ الهزيمةُ على إنجاز الكروات، ذلك أنهم قد نجحوا في تحقيق أهم أهدافهم بتحويل المشاركة في كأس العالم إلى رافعة لبناء الدولة الحديثة وصياغة صورتها في العالم. الأمر شبيه بتحقيق استقلال جديد، استقلال معنوي من الفضاء البلقاني الصاخب. كانت كرواتيا قد نأت نسبياً بنفسها عن الحروب الدموية التي سقطت فيها بقية مكوّنات يوغسلافيا وهي تتفكّك مع انهيار الاتحاد السوفييتي، ولعل هذا الاستقلال الناعم قد تحقق بفضل نجاح الكروات في تحاشي الذوبان داخل المشروع اليوغسلافي، وقد تهيّأت لذلك عوامل منها أن الزعيم تيتو كان من أصول كرواتية فلم يُعمل سياسات القسر والإكراه لفرض عملية صهرٍ عرقي على مقاس المركز الصربي كما حدث مع شعوب أخرى. ومن قبلُ حافظ الكروات على هويّتهم (السلافية الكاثوليكية) رغم الجيرة غير المريحة مع دول ذات نزعة إخضاعية كالإمبراطورية النمساوية المجرية والعثمانيين وجمهورية البندقية الإيطالية التي تواجه سواحل كرواتيا.
ولقد توفّرت لهذا الشعب، من دون معظم عناصر يوغسلافيا، مقومات أخرى جعلت إنشاء دولته أمراً طبيعياً حيث كانت أغنى جمهوريات الاتحاد، وهذا الوضع عادة ما يخلق حالة من الانسحاب من الرؤية التشاركية، فلما هبّت الرياح لتُسقط النموذج الاشتراكي صعدت النبرة القومية داخل كرواتيا بشكل واضح مطالبة بحق مغادرة سفينة بلا ربّان (كان تيتو قد توفّي في 1980 ولم يجد اليوغسلافيون صيغة خلافة ترضي جميع القوميات).
وبما أنهم سكّان الجزء الغربي من البلقان، استثمر الكروات موقعهم المطل على البحر والمحاذي لإيطاليا للاندماج سريعاً في أوروبا، وقد كان لاعبو كرة القدم تعبيراً عن هذا الاندماج، فقد حضر الكروات في أبرز الأندية: بوبان في ميلان الإيطالي، وسوكير في ريال مدريد الإسباني، وبيليتش في إيفرتون الإنكليزي، وغيرهم كثير.
يتواصل إلى اليوم حضور اللاعبين الكروات في جميع الدوريات الأوروبية. وليست المسألة مجرّد حضور حين نعلم أن اللاعب لوكا مودريتش قد فاز بالكرة الذهبية عام 2018 اعترافاً بدوره في ملحمة وصول كرواتيا إلى المباراة النهائية في كأس العام التي انتظمت في روسيا، وكانت إلى جانبه مجموعة من اللاعبين الذين يقارعون أي منافس بندية، مثل بيريزيتس وراكيتيتش ومانتزوكيتش. كان ذلك الإنجاز تكريساً لثلاثة عقود من الاستقلال، وتأكيداً بأن اللاعبين الكروات مرتاحون للعب تحت رايةٍ تمثّلهم، لا ضمن مشروع جيوسياسي مفبرك، بما في ذلك من دروس حول علاقة التألق (الرياضي وغيره) بالإطار القومي الذي يتحرّك داخله الأفراد.
وكما في كرة القدم، حقّق الكروات خلال هذه العقود الثلاثة إنجازات كثيرة في رياضات أخرى أبرزها تحقيق كأس العالم في كرة اليد عام 2003 بجيل ذهبيّ ضم خصوصاً الحارس فلادو شولا، وصانع الألعاب إيفانو باليتش، والجناح ميرزا دزومبا. وفي الرياضات الفردية، قدّمت كرواتيا أبطالاً في التنس مثل إيفان لوبيشيتش، وغوران إيفانيسيفيتش، ومارين سيلتيتش، وفي الرياضات الشتوية برزت البطلة الأولمبية يانيكا كوستيليتش.
باختصار، وضعت الرياضة كرواتيا في مواقع متقدّمة في "سباق الأمم"، لكن ليس بالرياضة وحدها تحيا الأمم؟