يطلق الغزيون أسماء تبعث على التفاؤل على أطفالهم الذين ولدوا خلال العدوان الإسرائيلي، معتبرين أن ولادة طفل تمنح بعض الأمل وسط الركام.
يحاول الغزيون جاهدين توفير مقومات الحياة الأساسية، وعلى رأسها الطعام والسلامة لعائلاتهم، بمن فيهم الرضع والحوامل والمرضعات، في حين يصعب في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل توفير حاجيات المواليد الجدد، والذين جاؤوا إلى الدنيا في ظل ظروف صعبة تسبب فيها القصف والنزوح ونقص المواد الغذائية، وفي حين يفتقر هؤلاء إلى كل لوازمهم، تبرز ظاهرة إطلاق أسماء مميزة على الأطفال الذين ولدوا خلال العدوان.
لم يفقد الغزيون الأمل، وهم يواصلون الحياة رغم قسوة الظروف، ورغم الموت الذي يطاردهم بأشكال مختلفة من كل الاتجاهات، فإنهم يعدون ولادة طفل جديد بريق أمل، وحافزا على مواصلة النضال، لذا يطلقون على مواليدهم أسماء تعبر عن الكفاح والتحرر، فضلاً عن أسماء الشهداء من الأخوة والآباء والأعمام والأجداد.
داخل خيمة بالقرب من الحدود المصرية، ولدت الطفلة "سماء" مساء الاثنين 15 يناير/كانون الثاني الماضي، وتقول والدتها منال دياب لـ"العربي الجديد"، إنها ولدتها بصعوبة، ومن دون أن تحصل على حقنة تسريع الطلق المعتادة، وإن صراخ طفلتها الأول تزامن مع أصوات القصف الإسرائيلي الذي كان يستهدف مدينة رفح، مؤكدة أنها شعرت حين سمعت صوتها للمرة الأولى أنها "رحمة في ظل ظروف صعبة".
تعيش الرضيعة سماء أوضاعاً صعبة، وتعرضت للمرض عدة مرات بسبب عدم توفر سبل الرعاية الكافية، والبقاء في خيمة نزوح بسيطة، لكن اسمها يبث الأمل بين أفراد عائلتها، ويهون على والدتها مرارة النزوح المتكرر انطلاقاً من بلدة بيت لاهيا، مروراً بعدة محطات في مدينة غزة، إلى وسط القطاع، ثم مدينة خانيونس، وصولاً إلى الولادة في خيمة بمدينة رفح، وهي رحلة واجهت الموت خلالها مرات عدة.
تضيف منال دياب (29 سنة): "اتفقت مع زوجي على أسماء كثيرة خلال الأشهر الماضية، لكن الاسم جاء بالصدفة بعد نظر والدها إلى السماء قبل نحو أسبوعين من ولادتها، فقرر أن يكون اسمها (سماء)، فالسماء والبحر هما الوحيدان اللذان يمنحان أهل غزة الأمل".
يجلس الوالد سامر دياب بالقرب من طفلته، ويؤكد أنه "رغم كل المآسي التي نواجهها، يجعلنا النظر إلى وجه سماء نتمسك بحلم التحرر". ويوضح لـ"العربي الجديد": "كنت أريد تسميتها عائشة، ثم أردت أن أسميها آية، وأثناء العدوان، وبينما كنا نازحين إلى مستشفى شهداء الأقصى، وكان كل شيء من حولنا مدمراً، ونشعر بخطر متواصل، ولا يوجد أي مظهر يبعث على الأمل، نظرت حينها إلى السماء، وكانت زرقاء صافية، فشعرت أنني أريد أن أطلق عليها اسم سماء، فقد كانت السماء هي الشيء الوحيد الصافي الذي أراه وسط الدمار والقتل والدماء".
وتؤكد زوجته منال أن "الغزيين منفتحون في الوقت الحالي على أسماء جديدة لأطفالهم الذين ولدوا خلال العدوان، إذ أطلقت شقيقتي اسم (جميلة) على مولودتها التي تبلغ الآن ثلاثة أشهر، وتعرفت على نساء كثيرات في منطقة المخيمات، وكان أطفالهن يحملون أسماء جديدة، إذ يحمل طفل ولد بالخيمة المجاورة اسم (حليم)، وطفل آخر في خيمة قريبة اسمه (إحسان)، وكان الهدف من أسمائهم بث الأمل في أسرهم.
وبينما أصبح إطلاق اسم "غزة" على المواليد من الإناث شائعاً خلال السنوات الأخيرة، يلاحظ زيادة انتشار الاسم بين مئات ممن ولدوا أثناء العدوان تعبيراً عن التمسك بالأرض، ورفض محاولات تهجير الفلسطينيين من القطاع.
رزق هشام أبو ركبة (37 سنة) بطفلته في ليلة رأس السنة، وقد ولدت داخل مجمع ناصر الطبي، وكان قبل العدوان قد اتفق مع زوجته على تسميتها (مريم) تيمناً باسم السيدة مريم العذراء، لكن عندما ولدت الطفلة، أبلغ زوجته أنه ينوي تسميتها (غزة). يقول لـ"العربي الجديد": "حين ولادتها كنت أسمع أدعية عشرات النازحين داخل مجمع ناصر الطبي، وغالبيتها يدور حول توقف العدوان، ونجاة سكان غزة من القتل والتدمير، وعندما وضعوها بين يدي، نظرت إليها، وكانت تبكي، فقمت بالتكبير في أذنيها، فخلدت إلى النوم. عندها قررت أن يكون اسمها غزة".
لدى أبو ركبة طفل آخر اسمه محمد، ويوضح أن عائلته، ومنذ زمن والد جده، اعتادت على تسمية الطفل الذكر الأول محمد، وهو اسم شائع جداً في قطاع غزة، لكنه عندما قام بتسجيل اسم طفلته، وجد أن العديد من الآباء اختاروا الاسم نفسه، خصوصاً من ينتمون إلى مدينة غزة، والذين يريدون أن يحمل أطفالهم اسم مدينتهم التي تعرضت إلى أبشع المجازر خلال العدوان الحالي، رغم أن من بينهم لاجئين إلى غزة من قرى وبلدات فلسطينية محتلة منذ عام 1948.
يتابع هشام: "العالم كله يشاهد غزة تقاوم وحيدة محتلاً مدعوماً من أقوى جيوش العالم، وهو يضربنا بكل أنواع الأسلحة، ومن بينها أسلحة محرمة دولياً. اسم غزة بات رمزاً لصمود الناس على أرضهم بعيداً عن كل المفاوضات والتهديدات، وستكبر طفلتي وتعرف أنها تحمل اسما عظيما يحمل معاني التحدي والإصرار رغم كل ما تعيشه مدينتنا، والتي لا نعرف هل سنبقى أحياء حتى نعود إليها أم سنموت كنازحين".
وتقوم إدارة مستشفيات قطاع غزة بمنح الآباء شهادة إثبات ميلاد لكل طفل بعد أن يقوم بتسجيل بيانات المولود واسمه، لكن نتيجة خروج عدد من المستشفيات من الخدمة، واضطرار مستشفيات إلى السجلات اليدوية، فإن حجم المعلومات حول أسماء المواليد التي تحمل مدلولاً مرتبطاً بالعدوان محدود.
ويشير مصدر من وزارة الداخلية إلى أن الغزيين أطلقوا خلال العدوان الحالي أسماء تختلف عن الأسماء المتداولة في السنوات الماضية، وأنه يوجد أكثر من 250 اسما متنوعا يحملها أكثر من 20 ألف مولود تم تسجيلهم منذ بداية العدوان.
داخل إحدى مدارس الإيواء في مدينة رفح، يقيم النازح من مدينة غزة بلال إنشاصي (39 سنة)، وقد رزق بمولود ذكر بعد انتظار 10 سنوات، في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكان ينوي تسميته (رزق) تعبيراً عن امتنانه، لكن تراجع عن ذلك بعد ولادته، وقرر أن يطلق عليه اسم (وطن).
يقول إنشاصي لـ"العربي الجديد": "جعلنا العدوان والنزوح نشعر بقيمة الوطن، لذا قررت أن أطلق على ابني اسم وطن، ووجدت أنني لست الوحيد الذي أطلق على ابنه هذا الاسم، وأعتقد أن وراء هذا اعتبار الاسم مناسباً لما نعيشه من عدوان، وإصرارنا على التمسك بالوطن، كما أن الاسم مميز، ويصلح للذكور والإناث".
يضيف "كلنا نحلم بالحفاظ على الوطن، وخلقنا في هذه الدنيا نحب فلسطين، وهذا حب فطري رغم أننا نعيش في ظروف صعبة، وتتم معاملتنا بشكل عنصري من كل قوى العالم، لهذا لم أجد أغلى من هذا الاسم لأطلقه على طفلي. لكن طفلي ضعيف، ويكافح للبقاء في ظل نقص الغذاء والحليب والأدوية، وحاله يشابه حال وطننا المحاصر الذي يتعرض للقصف والتجويع والتدمير".
ويكرر الغزيون إطلاق أسماء ذويهم وأصدقائهم من الشهداء على مواليد فترة العدوان كنوع من تكريم الشهداء، وكي تظل أسماؤهم حاضرة في ذاكرتهم وذاكرة الأجيال القادمة.
كان أسامة عليان ينوي أن يطلق على طفله البِكر اسم (سميح)، لأن والده كان يحب هذا الاسم، ويقول لـ"العربي الجديد": "كان والدي قدوتنا في الحياة، وكنت مثل أشقائي الخمسة نأخذ برأيه في اختيار أسماء مواليدنا، لكن بعد استشهاد والدي، قررت أن أسمي ابني على اسمه، وحين ولد في الثاني من فبراير/شباط، أطلقت عليه اسم (عطايا) كي يحمل ذكرى والدي الذي كان محباً للخير والعطاء، وكنت أعتبره والدا وصديقا، وقد أخبرني حين علم بحمل زوجتي أنه يفضل اسم (سميح)، لكنه استشهد قبل نحو 40 يوماً من ولادة ابني، فلم أجد اسما أفضل من اسمه كي يحمله طفلي".