ما زالت مسافر يطا عرضة إلى اعتداءات وانتهاكات المستوطنين الإسرائيليين المستمرة. وفي الواقعة الأخيرة، استُهدفت قريتا المفقرة والركيز الفلسطينيتان من قبل هؤلاء المستوطنين، وقد ساندتهم قوات الاحتلال.
يمضي المستوطنون الإسرائيليون في هجماتهم ضدّ الفلسطينيين في وضح النهار، من دون أيّ خجل أو رادع. وفي الواقعة الأخيرة التي سُجّلت، هاجم ما لا يقل عن 100 مستوطن من مستوطنتَي "خافات ماعون" و"أفيغاي" المقامتَين على أراضي الخليل جنوبي الضفة الغربية 20 فلسطينياً في قريتَي المفقرة والركيز شمالي مسافر يطا الواقعة جنوبي الخليل، هم من الشبان والنساء والأطفال العُزّل. يأتي ذلك في تطوّر لافت تخطّى في خطورته كلّ محاولات التهجير التي استهدفت أهالي المسافر في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وأواخر تسعينياته، وقد يُصنَّف من ضمن "جرائم الحرب" التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد أهالي مسافر يطا منذ عشرات الأعوام.
والجريمة الأخيرة التي يرى أهالي الركيز والمفقرة أنّها مدبّرة ومخطط لها مسبقاً، بدأت نحو الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الثلاثاء الماضي في ما يشبه "عرض عضلات" على مقربة من القريتَين. وبعد ساعتَين، راح نحو 30 مستوطناً من "خافات ماعون" و"أفيغاي" يتعرّضون إلى راعي أغنام من الأهالي هو رائد حمامدة، إذ اعتدوا عليه بالحجارة وحاولوا سرقة أغنامه. ثمّ تدخّلت قوات الاحتلال من خلال اعتداء آخر، وراحت تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية صوب الأغنام لتفرقتها. هذا ما يرويه محمود حمامدة لـ"العربي الجديد" وقد كان شاهداً على ما حدث، علماً أنّه من قرية المفقرة. يضيف حمامدة أنّ حقد المستوطنين يبدو كبيراً على كلّ ما يتحرّك في المسافر، بما في ذلك المواشي والأغنام. فقد التحق 20 مستوطناً بهؤلاء الثلاثين الذين كانوا يستعرضون قوّتهم على مرأى وتأييد من قبل قوات الاحتلال، وراحوا يطعنون أغنام الأهالي بخناجرهم. فنفقت خمسة رؤوس منها وأصيبت عشرات أخرى بجروح.
ويشير محمود حمامدة إلى أنّ المستوطنين بدوا وكأنّهم قصدوا من خلال عمليات الطعن تلك استفزاز أهالي قريتَي المفقرة والركيز، علماً أنّ أقلّ من 40 مواطناً كانوا حينها في بيوت القريتَين الصغيرتَين، معظمهم من النساء والأطفال. يُذكر أنّ عدد سكان القريتَين في الأساس لا يتجاوز 150 نسمة. فخرج الأهالي للدفاع عن الأغنام التي تمثّل مصدر عيشهم، وعاد من هم في خارج القريتَين المستهدفتَين إليهما بعدما أُبلغوا بما يحدث وهم غاضبون وخائفون على عائلاتهم وممتلكاتهم. كذلك انضمّ إلى هؤلاء بعض من أهالي القرى المجاورة، منها قووايس والتواني. فالفزع طاول الجميع، نظراً إلى احتمال قيام اعتداء آخر خطر كهذا كاد يؤدّي إلى مجزرة في حقّ الأهالي.
وبعدما توجّه مزيد من الفلسطينيين نحو القريتَين المستهدفتَين، ازدادت شراسة المستوطنين المسلّحين بالخناجر والأسلحة النارية، وقد عمد هؤلاء كذلك إلى استهداف الأهالي بالحجارة. فأصيب ما لا يقلّ عن 10 فلسطينيين من الأهالي بجروح ورضوض قوية، في حين راح جنود الاحتلال يطلقون النار في الهواء وقنابل الغاز في اتجاه الأهالي الذين قُدّر عددهم بنحو 300 محاصرين في مساحة دونمَين اثنَين، إلى جانب المواشي الجريحة. بالإضافة إلى ذلك، حكى الأهالي عن محاولة قتل الطفل محمد بكر محمود الحمامدة البالغ من العمر أربعة أعوام، في أثناء نومه.
يشير رائد حمامدة الذي طُعنت أغنامه بداية لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "12 عائلة تعتمد على الرعي كمصدر رزق لها، لكنّها تتعرض إلى الملاحقة من قبل المستوطنين في مناطق الرعي". وعمّا حدث معه، يقول: "كنت متوجهاً للرعي، فباغتني أكثر من 70 مستوطناً راحوا يرمونني بالحجارة، وقد أصبت برضوض في قدمَي من جرّاء ذلك. تمكّنت من حماية ابن شقيقي الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام فقط، لكنّني لم أستطع حماية أغنامي". ويؤكد رائد حمامدة أنّ "الرعاة يُلاحَقون في مناطق الرعي، وإذا لم يتمكّن المستوطنون من إيذاء الرعاة، فإنّهم يصبّون حقدهم على الماشية"، مضيفاً أنّهم "يطلقون النار صوبنا، ويهاجموننا بمركباتهم وجراراتهم الزراعية. لذا فإنّ مخاوفنا يومية. والتعرّض إلينا وإلى مواشينا يأتي لدفعنا إلى بيع أغنامنا والرحيل. لكنّنا اعتدنا على ذلك، ونحن صامدون هنا ولن نرحل. هكذا عاش أبي وهكذا سوف نعيش نحن. ولا مجال أمامنا إلا حماية أنفسنا ومصدر رزقنا".
وفي خلال تلك المواجهة، استنفر الرجال من الأهالي أمام منازلهم للدفاع عن أطفالهم ونسائهم. الجدّ محمود الحمامدة واحد من هؤلاء، لكنّه لم يظنّ أنّه بذلك لن يتمكّن من حماية حفيده محمد. فقد استغلّ مستوطنون انشغال الأهالي في الدفاع عن منازلهم ومواشيهم، وتسلّلوا إلى أحد منازل قرية المفقرة، حيث كان الحفيد نائماً وضربوا رأسه الصغير بحجارة، الأمر الذي أدّى إلى إصابته بنزيف دماغي حاد، نُقل على أثره إلى مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي في منطقة النقب جنوبي فلسطين المحتلة. وحتى كتابة هذه الأسطر، لم يبتّ الأطباء بعد بحالة الصغير. يُذكر أنّ الاعتداء على المواشي أتى بداية في قرية الركيز المحاذية لقرية المفقرة حيث تمّ الاعتداء على الصغير. ويقول الجدّ محمود الحمامدة لـ"العربي الجديد" إنّ "وضع حفيدي خطر، ولا نعرف إن كانت حالته الصحية مستقرة أم لا بعد النزيف الدماغي الحاد الذي أصيب به"، مؤكداً أنّ "محمد لم يفعل شيئاً. لقد كان نائماً في داخل المنزل فيما كنّا نحن نحاول الدفاع عن منازلنا في الخارج". ويلفت الجدّ محمود إلى أنّ صهيب حمامدة، وهو عمّ الطفل محمد، أصيب كذلك بجروح من جرّاء اعتداء المستوطنين عليه بالخناجر في منطقة القدم، و"هو اليوم يتلقّى العلاج في مستشفى سوروكا إلى جانب ابن أخيه".
يتعرّض أهالي قريتَي المفقرة والركيز كما القرى الأخرى في مسافر يطا إلى اعتداءات تختلف أشكالها الهدف منها تهجيرهم. فيُمنعون من البناء وتُخرّب منازلهم المبنيّة من حجارة الطوب والصفيح، ويصل عددها في القريتَين إلى نحو عشرة. يُذكر أنّه بسبب منع الاحتلال الأهالي من البناء، فإنّ كثيرين يضطرون إلى العيش في كهوف ومغاور.
ويقول محمود حمامدة: "يحطّمون منازلنا ويخربون مصادر المياه والكهرباء والألواح الشمسية. وفي خلال اعتداء يوم الثلاثاء الماضي، استهدفوا مركباتنا فألحقوا بها الأضرار فيما عمدوا إلى تحطيم النوافذ ومحتويات المنازل". وإذ يخبر أنّ منازلهم مبنيّة بالحدّ الأدنى، يوضح أنّ "معظمنا يعيش في الكهوف".
ويهدف مستوطنو "خافات ماعون" و"أفيغاي" إلى إزالة قريتَي المفقرة والركيز وترحيل أهاليهما بشكل عاجل، إذ إنّهما تمثّلان عثرة جغرافية لامتداد المستوطنتَين. وفي حال نجحت مساعي الاحتلال والمستوطنين، فسوف ينتهي تواصل قريتَي المفقرة والركيز مع أقرب قريتَين في مسافر يطا وهما التواني وقووايس. ومن شأن ذلك أن يسهّل عمليات تهجير أخرى، مثلما حصل مع قرية بير العد التي لم يبقَ فيها سوى فلسطيني واحد، فقد هجّر الاحتلال أهلها من قرية إلى أخرى في مسافر يطا.
في سياق متصل، يقول رئيس مجلس قروي مسافر يطا نضال يونس لـ"العربي الجديد" إنّ "ما حصل متوقع وليس مفاجئاً، إذ تعتمد سياسة الاحتلال على إطلاق يد المستوطنين ضدّ أهالي المسافر، من دون أيّ تدخل أو ردع. ونحن نعرف أنّ موقع المسافر في الجنوب يشكّل الدرع الحامي للنقب المحتل. ومن هنا يتّضح مطمع الاحتلال فيها". يضيف أنّ "مطامع الاحتلال في مسافر يطا تتلخّص بتهجير الأهالي لإحكام ارتباط نهاية جنوب الضفة الغربية برأس النقب وطرد الفلسطينيين من أيّ ذيل هناك، وربط المستوطنات المقامة في الجنوب ومنها تسع تحاصر المسافر بباقي مستوطنات ومدن النقب المحتل، وفتح المجال للتدريب العسكري الإسرائيلي عبر مناطق إطلاق النار التي تطالب بها قوات الاحتلال في المحاكم الإسرائيلية منذ عام 2012".
يُذكر أنّ منطقة إطلاق النار الخاصة بتدريبات الاحتلال العسكرية للاحتلال، تبدأ من قرية جنبا في الجنوب الغربي للخليل صعوداً في اتجاه بير العد شمال غربي مسافر يطا، بشكل محاذٍ لخط الهدنة، مروراً بالتجمّعات البدوية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وصولاً إلى منطقة طوبا بمحاذاة مستوطنتَي "ماعون" و"كرمئيل" المقامتَين على أراضي الخليل على مساحة 35 ألف دونم. وتشكّل هذه المناطق 40 في المائة من مساحة مسافر يطا البالغة نحو 95 ألف دونم، وما تبقّى من مساحتها تلتهمه المستوطنات وتحكمه الإجراءات التقييدية لقوات الاحتلال.