تحرص أحزاب اليمين الديني المشاركة في الحكومة الإسرائيلية على ضمان تخصيص موازنات ضخمة للمدارس التي يؤمّها أتباعها، سواء التابعة للتعليم الرسمي أو الخاص، بما يفوق مخصصات بقية المدارس، ويبدو أن وراء ذلك إدراك هذه الأحزاب أن التعليم الديني أحد الأدوات التي تضمن مواصلة احتكارها الحكم، ما جعلها تسعى في الوقت ذاته إلى زيادة وتيرة "تديين" التعليم كله، بهدف التأثير على توجهات الطلاب السياسية، وتأهيلهم لتقبّل مواقفها الأيديولوجية.
وتلفت المعلقة في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، ميراف أورلزروف، إلى أن جهاز التعليم الديني الرسمي يعمل وفق أجندة أيديولوجية حزبية بحكم القانون، مشيرة إلى أن "القانون الذي ينظم عمل هذا الجهاز أضفى شرعية على اعتماد الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية كموجّه للعملية التعليمية. في وقت يحظر فيه على المدرسين في المدارس الرسمية العلمانية التعبير عن آراء سياسية خلال أداء مهامهم، فإن الترويج للمنطلقات السياسية الأيديولوجية يُعد جزءا من التعليم في المدارس الدينية الرسمية".
وضربت أورلزروف مثالاً على طابع "التسييس والأدلجة"، قائلة إنه "عندما انسحبت النائبة عديت سيلمان من الائتلاف الحاكم السابق، وهو الائتلاف الذي كان يعاديه اليمين الديني، شرع الطلاب في جهاز التعليم الديني بأداء رقصات ابتهاجاً بهذا التطور. عندما أجرت (ذي ماركر) مقابلات مع خريجي مدارس التعليم الديني الرسمي حول التوجهات السياسية للعملية التعليمية، استهجن هؤلاء الخريجون طرح السؤال، على اعتبار أن الطابع الأيديولوجي والسياسي كان دائماً مهيمناً على العملية التعليمية داخل هذه المدارس، ويؤكد هؤلاء أن مدارس التعليم الديني الرسمي كانت تسمح بنقل طلابها في حافلات للمشاركة في المظاهرات التي تنظمها قوى اليمين".
وتتفق ميخال شير، رئيسة "المنتدى العلماني" في إسرائيل، مع أورلزروف، مؤكدة أن نتائج الانتخابات الأخيرة تدلل على الدور الذي لعبته عملية "تديين التعليم" في صعود اليمين المتطرف. وفي تحليل نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت"، أوضحت أن الأحزاب التي تمثل "الوسط" و"اليسار" شرعت في عملية "جلد ذات"، وعزا بعضها الفشل المدوي في الانتخابات إلى عدم التمكن من إيجاد قائمة موحدة، في حين أعاد البعض الآخر الفشل إلى ضعف الحجج الأيديولوجية التي طرحتها هذه الأحزاب خلال حملاتها الانتخابية، والتي لم تفلح في إقناع الناخبين بالتصويت لها.
وتشير ميخال شير إلى أنه رغم هذه الأسباب الوجيهة، إلا أن "السبب الرئيسي في صعود اليمين الشعبوي الذي يمثله وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، يتمثل في غياب تعليم ليبرالي. عملية تديين التعليم عبر صياغة المناهج تفضي إلى تعزيز القيم المحافظة والتعصب العرقي والتطرف القومي، مما يدفع الطلاب الذين سيمثلون جمهور الناخبين مستقبلاً لدعم اليمين".
وتضيف: "المعطيات التي أسفرت عنها الانتخابات دلت على أن الشباب الإسرائيلي صوّت بشكل مكثف لقوى اليمين، خصوصاً حركتي المنعة اليهودية والصهيونية الدينية اللتين تمثلان اليمين الديني المتطرف. نقطة التحول التي أفضت إلى تسارع وتيرة تديين التعليم تمثلت في قرار حكومة أرئيل شارون تنفيذ عملية فك الارتباط في 2005، والتي شملت الانسحاب من قطاع غزة بعد تدمير المستوطنات اليهودية التي كانت قائمة هناك. عندها أدرك التيار الديني أن نجاح الحكومة في تنفيذ الخطة يعكس فشله في بلورة رأي عام يدعم توجهاته الأيديولوجية والسياسية".
وتتابع أن "أهم قرار اتخذته قيادات التيار الديني ومرجعياته الروحية بعد عملية فك الارتباط، كان التسلل إلى التعليم الرسمي، والتأثير على مضامين المناهج، وبالتالي على توجهات الطلاب. استغل التيار الديني تواجده في الحكومات المتعاقبة بعد فك الارتباط لإجبار وزارة التعليم على السماح لجمعيات دينية متطرفة بلعب دور مهم في التأثير على توجهات الطلاب العلمانيين. الحكومة تقوم بتمويل أنشطة الجمعيات الدينية التي تنشط في المدارس الدينية، ومدراء المدارس العلمانية يلعبون دوراً في السماح بتديين الفضاء التعليمي، وبعضهم تعاون مع الجمعيات الدينية، أو ساعدوا على تطبيق برامجها التعليمية لاسترضاء وزارة التعليم وسلطات الحكم المحلي".
وتوضح شير أن "الجمعيات الدينية تعكف على استضافة الطلاب العلمانيين في مقار تابعة للتيار الديني الحريدي المتزمّت، حيث يتم فصل الطلاب عن الطالبات، ويجبرون على أداء الصلوات والابتهالات، ومن ضمنها صلوات يبتهلون فيها لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى".
ولا خلاف على أن أحد التحولات التي أفضت إلى زيادة المضامين الدينية في المدارس العلمانية، ومنح هوامش للمدارس الدينية الرسمية، بدأ مع سيطرة الأحزاب الدينية على وزارة التعليم، لا سيما في عهد حكومة بنيامين نتنياهو الثانية، حين تولى زعيم حزب "البيت اليهودي" الديني المتطرف، نفتالي بينت، منصب وزير التعليم، ليسارع إلى مضاعفة الساعات المخصصة لدراسة التوراة في المدارس العلمانية؛ كما دشن مديرية "الهوية اليهودية" كأحد أهم المؤسسات في وزارة التعليم، وهي تعمل على تجذير الوعي اليهودي لدى الطلاب.
وأشارت صحيفة "هآرتس"، في وقت سابق، إلى أن نفتالي بينت، وخلفه في المنصب الحاخام رافي بيريتس، عملا على فتح أبواب المدارس العلمانية أمام الحاخامات، وفي عهديهما، عمدت وزارة التعليم إلى إجبار المدارس على تسيير رحلات سنوية إلى "معهد الهيكل"، وهو مؤسسة دينية تابعة لحركة الهيكل الدينية المتطرفة، لتلقّي شروحات حول الهيكل، ووجوب إعادة بنائه.