يوميّات الحرب في غزّة (28)

25 ديسمبر 2023
طفلٌ يطلّ من فتحة جدار دمّره قصف إسرائيلي في رفح حنوب قطاع غزّة (24/12/2023/فرانس برس)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(21 ديسمبر)
يا الله على هذا البرد. بردٌ قارس يأكل الأطراف. في الليل، كنت أرجف من شدّته. كنتُ أجلس في الخيمة مع الشباب، وكنت أغطّي جسدي ببطانية كبيرة، والرجفة لا تتوقّف عن السريان في جسدي. كان واضحاً أن البرد يأكلني، ويلتهم كل محاولاتي في الثبات لحظة. لم أكن وحدي من يشعُر بالبرد. كانت تلك ليلة الشتاء الأولى الحادي والعشرين من كانون الأول. الرمل الأصفر الذي نضع فرشاتنا عليه يبخّ برودة، كأنه برّاد ثلاجة. أحضر إبراهيم لحافاً آخر، وفرده عليّ. حين خرج الجميع، لم أقو على النهوض، لتناول زجاجة الماء كي أشرب. كان العطش يُمسك فمي وشفتي. بقيتُ أفكّر في هذا البرد الذي سيقتل كثيرين إذا ما اشتدّ أكثر. "الأربعينية على الأبواب"... بعد أيام تبدأ الأربعينيّة ويبدأ البرد الحقيقي. خبرتُ البرد وحتى الثلج في مدن كثيرة، لكنني لم أخبره بتلك القسوة التي عشتها ليلة أمس. لم أنم وأنا أفكّر في البرد والوجع الذي يسبّبه لي. طلع الفجر وتعالت تسابيحه، وأنا أحاول أن أتماسك تحت البطّانية واللحاف اللذين أتغطّى بهما. كان ياسر نائماً، وكانت البطّانيات الثلاث اللاتي يغطّينه غافيات مثله تحت سقف الخيمة. أبحلق في الصوت الذي أسمعه، حين تضرب الريح جدار النيلون الشمالي للخيمة، تحاول أن تنزعه عن الإطار الخشبي الذي يشدّه نحو الجدار الحجري. يمتدّ بقوة إلى الخلف، ثم يرتخي بقوة أكثر نحو جوف الخيمة. مدٌّ وجزرٌ يكاد ينزعه من مكانه. الصوت المرعب الذي يقول كم الريح قوية، وكم البرد الذي تحمله شديد. 
يا الله على هذا البرد الذي لم ينته حين شقشق الصبح، إذ ظل الجو بارداً، خصوصا أن الشمس لم تشرق، والغيم ظل يغطي رأس السماء وأطرافها، وبقيتُ أرتعش معظم الوقت، وأنا أسير في الطرقات، أو في داخل مبنى الهلال. البرد عدوّ الناس القاهر في الخيام. قدرُهم أن يحسّوا به في كل عظمة من أجسادهم، ويرونه يفتك بمناعتهم، ويأخذ الكثير من أحبائهم في الأيام المقبلة. تلك الخيام التي لن يصمد كثيرٌ منها أمام عصف الريح في الأيام والليالي المقبلة تنتظر مثلهم هول البرد المقبل.

الصورة
خيمة
فلسطينيون يثبتون أعمدة خشبية لبناء خيمة في رفح (23/12/2023/الأناضول)

في مثل هذه الأيام، قبل 32 عاماً بالتمام والكمال، كنت في سجن النقب الصحراوي. كان كانون قارساً، وكنت قد انتقلت من سجن أنصار 2 على شاطئ بحر غزّة إلى أنصار 3 في النقب. كنا ننام على "أسرّةٍ" نطلق عليها "البرش"، وكانت ريح الصحراء الباردة في الليل تفتك بأجسادنا الواهنة. كنت قد أنهيت امتحانات الثانوية العامة، وبدأت فصلي الدراسي الأول في جامعة بيرزيت. في الليل، كنتُ أرجف من البرد، فأحاول أن أشدّ البطّانية الوحيدة التي أعطتني إياها إدارة السجن على رأسي، حتى أحميه من قرص الريح، فتنكشف قدماي، فأرجف أكثر، وأشعر بالوجع أكثر، فأسحب البطّانية إلى الأسفل، فينكشف رأسي. مضت أيام مرهقة ومؤلمة، خلّفت لدي وجعاً لا أنساه كلما شعرت بالبرد. ومنذ ذلك الزمن، سيظلّ البرد أكثر ما أخشاه، ويولّد لدي قلقاً ورعباً نفسياً يصعُب علي تجاوزه إذا ما أصابني. أحسّ بأطرافي كلها ترجف، وأحس به يقضمها بقسوة. ثمة تشابه في مناخ رفح الجنوبي القريب من الصحراء ومناخ النقب الصحراوي. في رفح، أنت على مشاف الصحراء، بل تمنحك رمالها وسوافيها هذا الإحساس أنك على عتبة الطريق الذي ستجد فيه نفسك فجأة في أحضان الكثبان الرملية. حتى أشجار النخيل على الطريق عند دير البلح ثم خانيونس ثم رفح، كلها تقترح عليك برقّة مرافق الطريق أن وجهتك القادمة الصحراء، فمن رفح حيثما تتّجه جنوباً أو شرقاً، فأنت في الصحراء، إما في النقب أو في سيناء. هل هذا التذكّر مصادفة؟ أم أن الألم يذكّر بالألم؟ أم أن الوجع يجلب معه قسوة الوجع السابق؟ أم أنني أعيش منذ ذلك الزمن في وجع واحد من هذا البرد.
كان ذلك منذ زمن، وذهب الزمن ولم يذهب الإحساس بالبرد، ولا انتهى هذا الخوف منه. أنظر إلى أصابعي وهي منكمشة، وأحس به يسير في عظامي، ويقرص جلدي، ويجعل يديّ كلها عاجزة عن فعل شيء. الليلة في الخيمة، قلت لنفسي: هذا أول الطريق، وكلما مر الوقت سيزداد الألم، وسيكبر الوجع، وسيظل البرد رفيقاً قاسياً لا يرحم أسابيع.

كلما مر الوقت سيزداد الألم، وسيكبر الوجع، وسيظل البرد رفيقاً قاسياً لا يرحم أسابيع

في الصباح، تمشّيت، أنا وإبراهيم، في المخيّم. كنت أريد أن ألتقط شبكة إنترنت، حتى أتصفح الأخبار، فمنذ يومين، لا توجد اتصالات، لذلك لا نتواصل مع أحد، ولا نعرف ما يجري حولنا. فقط، نسمع القصف ونرى لهب الصاروخ وهو يهرول من السماء، نرى ذلك كله، ولا نعرف نتيجة القصف ولا مكانه ولا ضحاياه. كانت الساعة السابعة صباحا، وكان الطريق بين البركسات يصحو مثلنا من النوم. الناس منشغلة في ترتيب تفاصيل صباحها. طفلٌ يحمل كومة من الورق وعلب العصير الفارغة وقطع الكرتون الصغيرة. بين خطوةٍ وأخرى ينثني على الطريق، يلتقط قطعة ورق جديدة، يضيفها إلى الكومة التي يحملها بين يديه. في آخر المطاف، سيعود إلى أمه بما يكفي حتى تعمل له كأس الشاي أو تخبز له رغيفاً صغيراً يأكله. بدأ الحلاق بقصّ شعر شاب. حمل المرآة ووضعها خلف رأسه، ليريه شعره من الخلف، بعد أن قصّه. في الكشك الخشبي الصغير المغطى بقطعة نيلون، وضع طاولة صغيرة صنعها من قطع خشب فائض عن الحاجة، وضع عليها علبة كالونيا ومقصّين وثلاثة أمشاط. يمكن لأي عابر في الطريق أن يقول إن هذا قد يبدو صالوناً للحلاقة. يصطفّ الرجال أمام دورة المياه حتى يذهبوا إلى الحمام لقضاء حاجتهم. الطابور طويل والفتى الصغير بالكاد يمسك نفسه، وهو يفرك فخذيه، حتى يتماسك أكثر. 
الشاب خلف كانون النار ينفخ وهو يسعل، ثم يضع إبريق الشاي على "المنصب" الحديدي ويبتسم، فيما زوجته تناوله مجموعة أرغفة حتى يحمّصها. في زاوية أخرى، توقد النسوة الفرن الطيني، بعد أن وضعن الصواني التي يضعن عليها أرغفتهن غير الناضجة جانباً. ثلاثة رجال يجلسون على كراسي بلاستيكية، يتحدّثون بمتعة العمر الذي يبحثون عنه. جيرانٌ جددٌ وأصدقاء جدد. من باب الخيمة، تظهر صحون الفول وصحن الجبنة البيضاء والأطفال يلتفون حولهما وصوت الشاي يندلق من الإبريق للكأس، ما يعيد التذكار بإيقاع يوم متجدّد.
أربع فتيات يسرن في الطريق، يتهامسْن قبل أن تصرخ واحدة بعد أن داست بحذائها على كومة من "اللاصة" فابتلّ بنطالها. الطفل يبيع الفستق. والطفل الآخر يبيع علب العصير، وثالث الفشار الملوّن. ورجل ينادي على خضاره الطازجة التي وصل بها قبل قليل. المدخل الجانبي للطريق يشبه سوقاً صغيراً يزدحم بشكل كبير في المساء. هذا الصباح عادي جداً رغم أن لا شيء عادي فيه، فلا أحد من هؤلاء كان يجب أن يكون هنا، لو أن الزمن واصل طريقه من دون اعوجاج، كما أن لا أحد منهم كان يمكن له أن يتخيّل أنه سيفيق ذات صباح على عالم مختلف، مثل هذا الذي يعيشه.

الصورة
طفلتان
طفلتان تتلقّيان العلاج في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح (23/12/2023/الأناضول)

رأينا عند المغرب الطائرة الهيلكوبتر، وهي تقصف هدفاً في الشرق. رأينا الصاروخ ينطلق منها، قبل أن تستدير جهة البحر. في الليل، لم يتوقّف القصف، وكنتُ أشعرُ بالأرض تهتزّ تحتي. ولمّا لم أكن قد نمتُ من شدّة البرد، صار صوت القصف وحركة الأرض يشعرانني ببعض الونس في وجه صوت الريح وعصفها بنيلون الخيمة. لم يعُد أحدٌ ينبته كثيراً إلى كثرة القصف، ولا إلى شدّته. الناس في الخارج ربما يتابعون أكثر منا، لأننا نظل مشغولين بتفاصيل الحياة والبحث عنها، تكون نجاتنا أهم شيء وما عداها لا يهمّ كثيراً، فقط هذا القلق الذي يسكننا حين نعرف أن ثمّة قصفا في مناطق أهلنا ومن نحبّ. حين يلمع الصاروخ في السماء، يخرج لهب أحمر يلفّ الجهة الشرقية فأنتظر صوت الانفجار. كان هذا طقساً لم يتوقّف حتى الفجر. يا لقسوة هذه الليلة، ويا لشدة الانتظار حتى يطلع فجرُها. كم ليلة مثل تلك أمضيتُ في جباليا وأنا أعدّ الثواني حتى يطلع الفجر، حتى أتأكد أنني لم أمت، وأنني ما زلتُ حياً، ولم يأخذني القصف، ولم يفتفتني الصاروخ، ولم تمزقني القذيفة إرباً. كانت تلك الليالي القاسية جزءاً من مسيرة الحرب المؤلمة. أجلس أنظر من النافذة أرى الصواريخ وهي تهبط وتدكّ وتدمّر، أرى القذائف تعبر أمام النافذة. الآن، لا نافذة، فقط خيمة من نيلون وقماش وجلد، تكاد الريح تنزعها من الأرض، وتحوّلها إلى بقايا وحطام هش لشيءٍ كان يحتمي به رجلٌ مثلي وابنه الصغير. رأيت هذا كله وها أنا أراه.
أقلمتُ نفسي على ركوب الباص. صِرتُ أخرج مبكراً، وأقف قرب محطّة التحلية وأنتظر. عرفت من إبراهيم أن الباصات تنتهي طريقها هناك، وتبدأ بالعودة إلى وسط البلد من هناك. اليوم انتظرتُ ربع ساعة حتى جاء باص. يوم أمس، انتظرت نصف ساعة. لا يهمّ. بالنسبة لي، هذا أفضل من ركوب العربات خلف الشاحنات، وأفضل من أن أقف في العربة تهزّني الطريق، وتمزّق مفاصلي. خرجتُ هذا الصباح ووقفت، وجاء الباص. هذا يوم جميل بالنسبة لي أن أجلس على كرسي في الباص. صحيحٌ أن الباص مكتظّ والواقفون في الممرّ أكثر من الجالسين، وأجسادهم تضرب جسدك في كل مرّة يسرع فيها الباص أو يبطئ، ولكن على الأقل أنت تجلس على كرسي، وتشاهد الطريق من نافذة عربة، كأنك تسافر بشكل طبيعي من مكان إلى آخر، في زمنٍ غير زمن الحرب. 
في الطريق، توقف الباص قبالة المسجد الذي استهدفته الطائرات يوم أمس قرب المستشفى الكويتي. كان المواطنون ما زالوا ينبشون تحت الأنقاض، بحثاً عن ناجين أو أموات حتى يخرجوهم. كان المسجد قد تحوّل إلى ركام، وكذلك البيوت المجاورة والمقابلة. على جانب الطريق الآخر، كانت عربة فولكس فاغن محطّمة أيضاً، وقد سقطت عليها قطعة باطون كبيرة، عربة حمار مقلوبة أيضاً. كان المشهد جزءاً من مشهد غزة الكبير، وكان ذلك كله جزءاً وتفصيلاً من تفاصيل الحرب البشعة التي تأخذ أعمارَنا نحو ظلمة العمر المقبل.

قصّة المساعدات قلقٌ لا ينتهي، وأزمة لا تتوقف. ثمّة حاجةٌ متنامية لا تنتهي، وثمّة قصفٌ لا ينقص، بل يزيد

في الهلال، جاء الشباب من معبر رفح، حيث يشرفون على إدخال شاحنات المساعدات. عرفنا منهم أن القصف قبل قليل استهدف عاملين في المعبر، وأن مجموعة منهم استُشهدوا بعد أن استهدفت سيارتهم طائرة حربية، وقتلتهم بدم بارد. قصّة المساعدات قلق لا ينتهي، وأزمة لا تتوقف. ثمّة حاجةٌ متنامية لا تنتهي، وثمّة قصف لا ينقص، بل يزيد. ومع ذلك، ساهم إدخال بعض البضائع في ظهور بعض السلع في السوق، مثل "شيبس" الأطفال و"أندومي" (قلت لنفسي سأشتري لياسر مجموعة منهما حين أعود)، والعصائر، وحتى علب البيبسي والكوكاكولا (بخجل). تذكّرت الشاب الذي احتضن علبة البيبسي في الحافلة يوم أمس كمن يحضن عزيزاً وجده بعد ضياع. 
مذابح مستمرّة في الشمال وغزّة، واستهدافات مكثفة لمناطق مختلفة هناك. مئات الشهداء يومياً، ويوماً بعد آخر تتغير ملامح المدينة والمخيم، أو تتغير معالم ما بقي منهما. يقال إن الجيش لم يترك بيتاً واحداً في بعض المناطق. تركزت الاستهدافات آخر يومين في منطقة تل الزعتر، حيث يتم قصف البيوت وهدمها على من فيها إن بقي فيها أحد. مع انقطاع الاتصالات، لم نتمكّن من التواصل مع أحد من هناك، لينمو قلقنا أكثر وتظل راحة البال معلقة، حتى تنتهي الحرب نهائيا.
يسألني ياسر عن العودة إلى البيت. أقول هنا البيت. يقصد أن يرى أمه. أقول قريباً. لا أعرف هذه القريباً متى تكون، لكنه يكتفي مني باليقين الذي لا أملكه.
يزداد القصف في رفح يوماً بعد آخر. اليقين أن رفح قد تكون هدف الحرب البرية المقبلة بعد خانيونس. ما حدث في الشمال وغزّة وبعد ذلك حدث في خانيونس ها هو يحدُث هنا في رفح. يبدأ الأمر بتكثيف القصف وتسخين الجبهة في المنطقة، تحضيراً للعملية الواسعة. لا يكاد يمر يوم لا يتم استهداف مناطق شرق رفح وغربها وجنوبها بشكل مستمر. تتعرّض جميع الأحياء والجهات المختلفة في المحافظة للقصف يومياً، ويومياً يرتقي عشرات الشهداء هنا. الحرب تنفخ قربتها وتعصف بنا ريحُها، وتشتد قسوة وقوعها علينا يوماً بعد آخر، ونحن ننتظر. ننتظر أن تنتهي، أو ننتظر أن تنتهي لأنها يجب أن تنتهي.

الصورة
ينتظرون الطعام
فلسطينيون ينتظرون الحصول على طعام في مخيم للاجئين في رفح (23/12/2023/فرانس برس)

(22 ديسمبر)
رأيتُ الأطفال في الطريق يصعدون صناديق أرجوحة تعلو وتهبط بهم، وسمعت ضحكاتهم وصراخهم، ورأيت فرحهم وهم يلهون في الصباح. كانت الشمس مختبئة خلف الغيم، وصناديق الأرجوحة تواصل حمل أجسادهم البضّة وتصعد بها وتهبط. نحن نحبّ الحياة رغم الموت. كان الموت يحيط بنا، وكانت الأرجوحة بصناديقها تسخر منه، وتقول له هو من يجب أن يموت، أما نحن فسنظلّ نحب الحياة، ونسعى خلفها، ونمسك بها ونفرح معها، رغم الدموع. ... كان الفرح ينتشر في النواحي، وكانت الصناديق تنشر ضحكاتِهم وصراخهم بعيداً، وتنثره فوق الخيام المبللة بالندى في هذا الصباح المختلف. وقفتُ ملياً أنظر إليهم وأنا أفكّر أن أي قوة يمكن أن تقنع الطفل أنه ليس طفلاً؟ لا قوّة على وجه الأرض يمكن أن تغيّر كيمياء الطفولة، كما لا يمكن تغيير فطرة الإنسان. مجموعة أخرى من الصبية يجلسون على الأرض، يرسمون ألعاباً فوق الرمل البارد، فيما آخرون يلعبون لعبة "الغمّاية"، فيختبئون خلف الخلف، وفي الممرات الصغيرة بينها، وحين يلقي الباحث القبض على المختبئ يملأ الدنيا فرحاً، وتتصاعد ضحكته مع الضحكة الهابطة من شفاه طفل آخر، يحمله صندوق الأرجوحة نحو السماء. كان هذا صباحا يليق بكل هذا الحب الذي ينتشر في مكانٍ تحوّل ساكنوه من حياتهم إلى نزوح مؤقت رغماً عنهم. أمضيت عشرين دقيقة، وأنا أتأمل كل هذه الطفولة التي تريد الحرب أن تقضي عليها، ولن تقدر. 
مساء أمس، وعند المغيب تماماً، بدت السماء غريبة. كانت الجهة الجنوبية الغربية ملوّنة بالأحمر بشكل كامل، كأن تنينا كان يفح ناره على المدينة، أو كان بركاناً يرمي بحممه من علوّ شاهقٍ على المدينة. بدت السماء غاضبة كأنها تُسقط ناراً. كانت السماء مبلّطة بقطع حمراء كبيرة. وقفتُ أصوّر المشهد الذي يحمل الكثير من الغضب والكثير من الكآبة والقلق. كان شابّان ينظران إلى حمار يتمرّغ على الأرض أمام خيمةٍ، مستمتعاً بوقت الراحة المستقطع الذي يحظى به في نهاية النهار. كان النصف الآخر من السماء غائماً قليلاً، وكان القمرُ شاحباً، ولكن واضحاً لم يكتمل بدرُه. شابّة صغيرة تشير إلى أختها الطفلة إلى القمر، وتقول كم يبدو جميلاً. نظرتُ إلى السماء، تارّة أنظر إلى السماء الحمراء الملتهبة، وتارّة أخرى أنظر إلى السماء الغائمة، وإلى القمر الذي يجاهد حتى لا تبتلعه غيمة. كان الشارع المفضي إلى الخيام مليئاً بالعائدين من تعب النهار إلى جوف الخيام الباردة مثل الشارع، وكان الليل قد بدأ يلفّ عباءته على النواحي، بعد أن التقطت الشمس آخر أنفاسها، ويخرج بعض الرجال من المسجد بعد أن صلوا المغرب. كان المشهد كئيباً، وكنت أشعر بانقباض وحزنٍ مدفون في صدري. سرتُ وحيداً نحو الخيام، وأنا أنظر إلى السماء كأني أسألها عمّ تخبّئ لنا، أو أتعجب من هذا الغضب الذي رمى به القدر مصيرنا. لا سماء صافية ولا غد باسم. قسوة لا تُحتمل.

لا تعرف إن كان ثمّة يوم آخر في الغد. ليس الغد دوماً يوماً آخر، لأنه قد يأتي ولا تكون موجوداً

على جدران مدرسة إيواء قرب مخيّم يبنا في رفح، كتب شاب "لو أنا رئيس دولة لحطّيت ضحكتك نشيد وطني". فكّرت في هذا العاشق الذي سيُصبح دكتاتوراً من أجل معشوقته، ويفرض على الناس سماع ضحكتها على الطلعة وعلى النزلة، وفكّرت في تلك الضحكة التي تجعل شاباً يحلم أن يصبح رئيساً فقط، حتى يجعل منها نشيداً وطنياً. وفكّرت في تلك اللحظة التي سمع فيها تلك الضحكة أول مرة حين "شلع" قلبه الحب، ووجد نفسه حائراً كيف يعبّر لها عن هذه المشاعر، فتمنّى لو صار رئيساً ليجعل تلك الضحكة نشيداً وطنياً. كان أحد مشاريعي في السابق قبل قرابة عشر سنوات أن أنشر كتاباً أضع فيه مئات الشعارات التي صوّرتها عن جدران المخيّم (جباليا)، خصوصا جدران المدارس والأماكن العامة والطرقات الواسعة، وبعضها كان في الأزقة. ما زلتُ أتذكّر ذلك الشعار الحكمة الغاضبة الذي كان يقول "نحن نتقدّم إلى الخلف". بيد أن حلمي بنشر الكتاب تبخّر مع ضياع الصور مع ضياع جوّالي إلى أين أخذتني الحياة بعيداً، وكدت أنسى الأمر. وكلما استوقفني شعارٌ أعدتُ تذكير نفسي بمشروعي المؤجّل. في الطريق إلى البيت في الصفطاوي على طريق البحر، ثمّة شعار يقول "الحشيش نبات بس الحكومة بتحب المشاكل". كل شعار من تلك يحمل معه حكمة وسخرية ومفارقة ودعابة، وكل واحد منها يقول أكثر مما تقول كتبٌ كثيرة عن الحياة. 
صحوتُ عند الرابعة والنصف فجراً. لم أفعل شيئاً غير أن أحاول العودة إلى النوم، ولكن من دون فائدة. أمسكت هاتفي، وبدأت أحاول الاتصال بالأهل في الشمال، وبعيشة في دير البلح، وببعض الأصدقاء. كانت كل محاولاتي عبثاً، إذ لم أتمكّن من أن أتصل بأحد. كانت الخطوط والاتصالات مقطوعة ومتوقّفة خلال اليومين الماضيين، عادت الشبكة أمس بعد الثامنة مساءً. كنّا في الخيمة، كما في كل ليلة حين رنّ هاتف سوّاح فجأة. فصحنا مرة واحدة "أجت الشبكة". وكانت فرحة عارمة، لأنها تعني أننا سنتمكّن من التواصل مع من نحبّ وسنعود جزءاً غير منسي من العالم. عند السادسة والنصف، تمكّنت من الحديث مع مأمون، وكانت تلك أول مرّة أحادثه فيها منذ أسابيع. أخبرني أنه في الطريق إلى معبر رفح، يوصل ابنه إبراهيم إلى المعبر ليلتحق بجامعته في القاهرة. إبراهيم في سنته الأخيرة في كلية الطب، وجاء لزيارة العائلة قبل الحرب بأيام، ووجد نفسه حبيس جدران الحرب الصلبة، طوال كل تلك المدة. قال مأمون إنه سيحاول أن يدخل لمصر مع إبراهيم بضعة أيام، حتى يتأكد أن أمور ابنه على خير ما يُرام. سألته عن العائلة والأهل، قال: كلهم بخير. ... سألته إن كانوا يفكّرون في الخروج من خانيونس. قال: ربما. أعرف هذا الشعور وأعرف هذا القلق وعدم اليقين، لأنني عشتُه في الشمال، حين ترى الموت يقترب، وتقنع نفسك أنه ما زال بعيداً وأن بإمكانك أن تتجاهل وجوده يوما آخر، وأنت لا تعرف إن كان ثمّة يوم آخر في الغد. ليس الغد دوماً يوماً آخر، لأنه قد يأتي ولا تكون موجوداً. كان القلق يطغى على صوته، وكان عدم اليقين يأكل كل محاولاته للتماسك.

الصورة
يبكي طفلته
يحتضن جثة طفلته الشهيدة بقصف إسرائيلي في دير البلح (23/12/2023/الأناضول)

إبراهيم مثل العشرات الذين جاؤوا لزيارة عوائلهم، وتأخّروا في السفر، فوجدوا أنفسهم مهدّدين بخسارة عام دراسي. بجانب عشرات آخرين من الطلبة الجدد الذين سجّلوا للجامعات في الخارج، ولم يتمكّنوا من المغادرة لبدء حياتهم الجامعية. عانى قطاع التعليم العالي في غزّة مثل بقية القطاعات، وستكون معاناته مضاعفة، إذا ما أضيفت إليها معاناة قطاع التعليم العام. تدمّرت 19 جامعة ومؤسسة تعليم عالي جزئيا أو كاملة خلال الحرب. خسرت الجامعات الكبرى، مثل الأزهر والإسلامية والقدس المفتوحة، الكثير من مبانيها الرئيسية، بجانب فروعها وكلياتها جنوب مدينة غزّة. قرابة ثمانية وثمانين ألف طالب وطالبة جامعيين لم يلتحقوا بجامعاتهم. مؤكّد أن إعادة إطلاق العام الجامعي لو انتهت الحرب اليوم ستستغرق أسابيع بسبب ما تهدم من مرافق الجامعات، وما تكبّدته من خسائر. حتى التعليم عن بعد لن يكون حلاً إذا ما عرفنا أن معظم الطلاب تركوا بيوتهم من دون أن يأخذوا حواسيبهم الشخصية، وأن كثيرا منها وقع ضحية القصف، مثل بقية العفش والأثاث في البيوت. الواقع أكثر مرارة من كل التصوّرات التي يمكن أن نخلقها لتجاوزه. 
يضغط الجيش على بلدة جباليا ويقصف بعنف الأماكن التي يوجد الناس فيها. هاتفتني هناء تقول إن شخصا يبدو أنه قريب لزوج أختي أسماء قصفوا البيت عليه. البيت في بلدة النزلة. آخر ما كنتُ أريد أن أسمعه أن يكون هذا البيت هو ذاته الذي لجأت إليه أختي أسماء وعائلتها. ففي آخر مكالمةٍ، أخبرتني أنها موجودة في النزلة عند عمّ زوجها. تحدّثتُ مع إبراهيم، وقلت لنحاول أن نتواصل مع أي شخص من هناك، حتى نطمئن عليها. أخبرني إبراهيم بمزيدٍ من الأخبار السيئة عن الجيران والأصدقاء في الحارة. وفي كل مرةٍ أقول له لعلها مجرّد إشاعات. بعد ساعةٍ، ستعود لي هناء عبر الهاتف، وتخبرني أنها تمكّنت من الحديث مع "سلف" أسماء الذي قال لها إن أسماء وعائلتها بخير، حيث إنهم يقيمون في المنزل المجاور للمنزل المستهدف. محاصرون هناك، لكنهم بخير. عم زوج أسماء، سعيد شامخ الدبس استشهد وبعض أفراد عائلته. سألتَه عن خالتي فاطمة، وهي حماة أسماء، فأخبرها أنها بخير أيضاً. الوضع صعب، وهم بالعافية ينجون من الموت. قال لهناء إنه اضطر لإنهاء المكالمة معها بعد سقوط قذائف الدبابات بجوارهم، وهو يسير في الشارع. لا أمان ولا أمن ولا سلامة تامّة. الكل يظل مصيره معلقا على قشّة معلقة في سترة الغيب.

لا أمان ولا أمن ولا سلامة تامّة. الكل يظل مصيره معلقا على قشّة معلقة في سترة الغيب

سمعتُ في الليل قصفاً عنيفاً. رأيتُ السماء تضيء ثم دوّى الانفجار. لم أعرف إذا كنت أحلم أم أنني رأيت اللهب وسمعت الصوت. كثيراً ما يتداخل الواقع مع الحلم، ولكثرة ذلك لا يعود مهمّاً أن تتأكد، فأنت تقع مثل واقعك في براثن كابوس مستمرّ لا تفلت. لم يعد صوتُ القصف المستمرّ يلفت الانتباه، فقط نتائج القصف إذا اقتربت منك تصبح حقيقيةً. ما عدا ذلك، تظل مجرد أخبار. اليوم، المزيد من الأخبار المؤلمة عن القتل المستمرّ في كل مكان، وعن الألم الذي ينتشر في كل جهة، مثل سماء رفح الغاضبة مساء أمس. في الخيمة، أخبرني فرج المزيد من الأخبار السيئة عن أصدقاء قتلوا في اليومين الأخيرين في الحارة. جارنا وصديق الطفولة رائد نصار وعائلته وأخوه خالد وعائلته كلهم قتلوا. قلتُ بألم "لم يبقَ أحدٌ في الحارة"، لم تعد الحارة حارة شكلاً ولا مضموناً، رحلت ورحل كثيرون من أهلها. تغيّر كل شيء، وتبدّلت كل التفاصيل. بعد أن غادر فرج، شعرتُ بمرارة من معرفة كل تلك الأخبار. صرتُ أخشى أن أفتح "فيسبوك" أو "واتساب" أو أن أقرأ الرسائل النصّية، خشية أن تحمل المزيد من تلك الأخبار، كما صرت حين يجنّ الليل، ونبدأ جلستنا الليلية، أخاف حين يقول فرج: هل سمعت أخبار الحارة؟ الأخبار عادة سيئة فلا أخبار جيّدة في الحرب، إلا الخبر الوحيد الذي لا يصل: أنها انتهت.

قضايا وناس
التحديثات الحية