بدأ عشق المغربي يونس بنضريف للخط العربي منذ كان طفلاً، وبات وسيلته للتعبير عن دواخله، ويبقى حلمه أن يكتب المُصحف كاملاً هو الذي يستلهم معظم لوحاته من القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
بخطّ جميل لا تُخطئه العين، وتناغم بديع بين قوة القلم وسحر المداد، وبأحرف عربية تُترجم عظمة لغة الضاد، ينشغل الخطاط التشكيلي المغربي يونس بنضريف داخل محترفه في مدينة الدار البيضاء بوضع اللمسات الأخيرة على لوحة فنية.
يُنطِق الخطاط بنضريف بأنامله بياض الورق، ويضيء بريشته وحبره فيض نور بمخطوطات مُزخرفات ولوحات مُتقنات تزيّن جدران مساجد ومعارض، وأخرى تنتظر دورها لتكتمل وتنضم إلى إبداعات تُجسّد جماليات الخط العربي. يقول لـ"العربي الجديد": "الخطّ هو لسان الحال وتُرجمان اليد. من خلاله، يتم التعبير عن دواخل الإنسان وما يختلج في النفس البشرية. إنه سواد في بياض وينقلك من حالة إلى أخرى عبر رسوم وأشكال حرفية وهندسة روحانية، ويكفي الخطّاط شرفاً أنّ الله أقسم بالقلم".
يضيف: "يكتسي الخط العربي أهمية خاصة وقيمة تاريخية كبيرة، بوصفه أحد أهم الفنون التي أبدعتها الحضارة العربية الإسلامية، وأيضاً لاقترانه بالزخرفة العربية واستعماله في المخطوطات والكتب وتزيين المساجد والقصور، والدور الذي لعبه في الحفاظ على اللغة العربية، وهو أداة من أدوات التعبير القرآني".
افتتن بنضريف بجمالية الخط العربي منذ كان عمره لا يتجاوز الـ10 سنوات. يقول: "كنت أرافق والدي في المخيمات الصيفية في مسقط رأسي بمدينة الدار البيضاء، وهناك التقيت خطاطين كانوا يؤطرون ورشات، فشغلني الفضول المعرفي، وبدأت البحث عن أصوله وفق ما كان متاحاً آنذاك من وسائل وأدوات، فإذا بي أزيد تعلقاً بهذا الفن الأصيل".
يستذكر وهو يفتح محبرته، أنه كان أيضاً مُحبّاً للرسم والألوان منذ صغره. رسم الوجوه والحيوانات والبحار والأشجار والأنهار، إلا أن والدته شجّعته على أن يسلك طريق تعلّم الخط، ففيه مفاتيح الرزق والتيسير على عكس رسم البشر والحيوان الذي نهت الشريعة الإسلامية عنه، كما ظلت تردد على مسامعه.
يوضح: "درست فنون الطباعة والديكور والتصميم الرقمي والبرمجة، وحاولت البحث عن آفاق أوسع للاستفادة من استخدام الخط العربي في تقنية الطباعة الفنية، كما تعلّمت على يد الخطّاط المغربي عبد اللطيف تيمزت المتضلع بفنيات خطّ النسخ وقواعده، والذي بذل معي مجهوداً. سافرت بعدها إلى مصر لاستكمال دراستي، وهناك وجدت الدعم من مسعد خضير البورسعيدي أحد رواد الخط العربي في العصر الحديث، الملقب بشيخ الخطاطين المصريين، إلى أن حصلت على إجازة في الخط عام 2021".
يتابع: "أتممت إجازتي في خط الثلث الجلي، الذي يوصف بأنه أب الخطوط، فلا يعتبر الخطاط خطاطاً إلا إذا أتقنه، فمُمارسوه قلة، ويستعمل في كتابة الآيات القرآنية والزخارف في المعمار، ويعرفه أهل الاختصاص بأنه من أروع الخطوط وأصعبها كتابة وإتقاناً، وقد وضع قواعده الوزير الخطاط (ابن مقلة) إبان الدولة العباسية، وطوره وحسّنه الخطاط إبراهيم الشجري".
لا يجود الخط بأسراره إلا عبر المشيخة وإلا فإنّ الطريق يغلب سالكه، وفقاً لبنضريف الذي يؤكد أنّ هذا ما جعل الخطاطين يتداولون مقولة "الخط مخفي في تعليم الأستاذ، وقوامه في كثرة المشق"، والمقصود بالمشق كثرة التمرين إلى غاية تجويد الخط.
ولا ينفي أن رحلة التعلّم كانت شاقة، إلى أن استطاع أن ينفذ إلى عالم الخط العربي ويسبر أغوار أسراره وجماليات حروفه، فتحكم في النقاط والأحرف التي ضبط ميزانها وأشكالها، وأبدع أيضاً في خط الديواني الذي نشأ في الدولة العثمانية، وسمي كذلك لاستعماله في دواوين الملوك، ثم خط الرقعة الذي يستعمل في الكتابة العادية، وقد وضع أسسه الخطاط التركي ممتاز بك.
يواصل الفنان عمله منذ عام 1999، مستلهماً معظم لوحاته من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والسير والأشعار والحكم، بالإضافة إلى تأثره بمجريات الأحداث، ومن بينها العدوان الإسرائيلي على غزة، وقد أبدع لوحات حول الحرية والانعتاق، مؤكداً أن غزة هي الشعور المتناقض بالفخر والألم معاً، وفلسطين هي قضية كل إنسان حرّ.
ويشير إلى أن إنجاز لوحة واحدة قد يتطلب أسبوعاً ويمتد إلى سنوات بحسب نوعية الطلب وعدد الحروف المستعملة والمواد أيضاً. والمتأمل في لوحاته يلاحظ اهتمامه الكبير بخط الثلث في جل إبداعاته، وهيمنة واو القسم برسمها البارز كما فعل في لوحة "وفي السماء رزقكم" التي خط فيها آية من سورة الذاريات بإبداع ودقة مع رسم السنة الهجرية، كما حلق في لوحة ثانية بجناحي الطائر الفينيقي الذي ينبعث من رماده للدلالة على النصرة لفلسطين وشعبها مهما طالت المحنة.
ويؤكد الخطاط حرصه على تحري مصدر الحبر المستعمل في لوحاته وفي كتابات آيات من المصحف، فالطهارة ركن أساسي لصيق بهذه العملية الإبداعية، مشيراً إلى أنه خلال فترة التدريب على الخط لا يهم نوع الحبر المستعمل سواء كان يابانياً أو صينياً، علماً أن حبر الدايسو الياباني يستخرج بعد حرق جلود الحيوانات. أما بالنسبة لورق الخطاط، فهو أنواع كثيرة، "نستعمل ورقاً مشذباً ومنقى حتى يتحول إلى ناعم صالح للكتابة، بواسطة زلال البيض والشب (مركب كيميائي) والنشا، بالإضافة إلى عدة عناصر، وهي عملية معروفة لدى الخطاطين".
يرى بنضريف أن الرقمنة والتطور التكنولوجي لا يشكلان أي عائق أمام استمرارية الخط العربي، مشيراً إلى أن ما يؤثر على هذا الفن هو الأنانية وغياب الجودة والإتقان ومحاولات تبديد أصوله وجماليته وعدم مكابدة مشقة التدرب للوصول إلى مرحلة فهم رسالة الخط وامتدادها عبر الزمن.
ويروي أنه خلال ظهور الطباعة الحجرية في بداية القرن العشرين، والشروع في الاستغناء عن وظيفة الخطاطين في نسخ الكتب، خرجت احتجاجات رافضة لذوي الشأن وخصوصاً في تركيا، كما صدرت فتوى بتحريم الطباعة. أما في المغرب، فإن هذا الأمر لم يطرح أي إشكال، بل على العكس من ذلك، رحب العديد من العلماء والخطاطين بدخول هذه التكنولوجيا حينها، وكان العالم والقاضي الطيب الروداني، أول من أدخل المطبعة الحجرية إلى المغرب في عام 1864.
شارك الفنان بنضريف في عشرات المعارض الجماعية في المغرب وخارجه، بالإضافة إلى المهرجانات والملتقيات والعديد من التظاهرات و المسابقات، وتم تكريمه في مهرجان القاهرة للخط العربي، كما أنه عضو مؤسس لمجموعة من الجمعيات التي تعنى بالشأن الخطي والتشكيلي.
ويحرص بنضريف على تقاسم تجربته في الخط العربي والكتابة الاعتيادية مع مجموعة من الطلاب داخل مدارس وجمعيات، تطبيقاً لوصية الإمام علي "عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق". يقول إنه شارك بورشات الخط العربي لفائدة طلبة المدرسة العليا للهندسة المعمارية، وأيضاً لتلاميذ ويافعين ضمن دورات سابقة للمعرض الدولي للنشر والكتاب، ويكون مسروراً بزرع بذرة حب هذا الفن في النفوس، بالإضافة إلى مشاركته ضمن مركز للأشخاص ذوي الإعاقة في الدار البيضاء، فزكاة العلم إيصاله.
وهو يتمنى أن يكون سبباً في نشر الخط العربي، وأن يترك بصمته بعد مماته، ولعلها أيضاً الخلاصة التي صاغها الشاعر إيليا أبو ماضي حينما قال: "بالذكر يحيا المرء بعد مماته، فأنهض إلى الذكر الجميل وخلد فلئن ولدت ومت غير مخلد، أثراً فأنت كأنما لم تولد" .
تتميز تجربة الخطاط يونس بنضريف بصدق وروحانية كبيرة، لأنه استطاع بأسلوبه المتفرد، وطاقته المتجددة أن يخلق جسوراً من التفاعل بين الحرف والروح، ويبقى حلمه الكبير أن يكتب المُصحف كاملاً كأفضل عمل يخلد اسمه، فكما يقال إن "الخط يبقى زماناً بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا".