الدول والمدن والبلدات التي يولد فيها الفلسطينيون لها مكانة خاصة في قلوبهم، يذكرونها أينما ذهبوا. مع ذلك، فإنّ ما علّقه الأجداد حلقة في آذانهم عن بلدات أخرى هُجّروا منها قبل 68 عاماً، يرافقهم أيضاً. بلدات النكبة والخروج إلى الشتات هي الأصل دائماً.
يعلن الطفل ورد جعايصة (10 أعوام) لـ"العربي الجديد"، فوراً أنّه "من سكان مخيّم الفارعة (الضفة الغربية)، وبلدتي الأصلية هي قرية الكفرين"، جنوب شرق مدينة حيفا، شمال فلسطين المحتلة، التي احتلت وهُجّر أجداد والده منها في عام 1948. ليس هذا فحسب، فهو راح يعدّ مع أطفال حارته في المخيّم، "لافتات رسمنا عليها مفاتيح العودة وأسماء قرانا التي سرقها الاحتلال". كذلك جهّز مع أصدقائه مشاعل مضيئة، يحملونها في فعالية إحياء الذكرى الثامنة والستين للنكبة في ساحة المخيّم اليوم.
يبتسم رائد جعايصة (43 عاماً)، وهو يلحظ حماسة طفله الصغير لإحياء ذكرى النكبة. يقول لـ"العربي الجديد": "هؤلاء الأطفال هم أملنا في العودة، ونحن كما حدّثنا أجدادنا عن قريتنا كفرين، وكما أحببناها وحملناها في أذهاننا من دون أن نراها، غرسناها أيضاً في أبنائنا كي لا نقول إنّ الصغار نسوا بلادهم التي سرقها الاحتلال بعد موت الكبار، وهو ما كان قادة الاحتلال الإسرائيلي يتوقعونه". يخبر جعايصة: "كنت منذ الصغر ألازم جدي محمد شفيق في كلّ جلساته. هو كان يُعدّ مرجعاً في المخيم، يقصده زائرون كثيرون ويتبادلون أطراف الحديث معه حول قراهم وبلداتهم الفلسطينية التي هُجّروا منها. من تلك اللحظات، علقت أسماء عدد كبير من القرى في الداخل المحتلّ في ذهني، وأحببتها كما أحببت المخيّم. كانوا يتحدثون عن أراضي الروحة، وهي تشمل قرى الريحانية والكفرين بالإضافة إلى أكثر من عشرين قرية دمّرها الاحتلال الإسرائيلي خلال فترة النكبة واحتلال فلسطين".
اللافت في عائلة الجعايصة أنّها زارت قريتها كفرين مرّتَين. كانت المرة الأولى رحلة عائلية، شارك فيها 20 شخصاً، من بينهم أعمام رائد الذين قدموا من المغرب والأردن، بعدما سمحت لهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بزيارة البلاد وتمكّنوا من استصدار تصاريح من سلطة الاحتلال لزيارة الأراضي المحتلة عام 1948. يتطلع جعايصة إلى "استغلال هذه الرحلات في زيارة القرى الفلسطينية التي هجّروا منها قسراً، ومشاهدة التاريخ بأمّ العين. على الرغم من التغييرات الكبيرة التي أحدثها الاحتلال في البلاد، إلا أنّ الحجارة الفلسطينية ما زالت واقفة، تحكي لزائري القرى التي هجّر الاحتلال أهلها عمّا جرى فيها".
يدعو جعايصة كلّ من يستطيع الدخول إلى فلسطين المحتلة بأيّ طريقة، إلى زيارة قريته وغيرها، وحفظها عن ظهر قلب، والاستعانة بمن يعرف كي يدله ويحكي له عن تاريخ البلاد. يشير إلى أنّ "المعاينة أقرب إلى القلب بكثير من سماع القصص وقراءتها حتى ممّن عاش في تلك القرى لسنوات".
لم يستطع جعايصة وأفراد عائلته في الرحلة الأولى أن يحددوا قريتهم ويتعرفوا على معالمها جيداً، لكنّهم في المرة الثانية استعانوا بأحد الأقارب الذين يعيشون في قرية معاوية في قضاء أم الفحم (الداخل المحتل). وخلال رحلتهم، عرف أهالي القرية الذين أبعدوا عنها أنّ الاحتلال الإسرائيلي قسمها إلى ثلاثة أجزاء، جزء منها مزارع للأبقار، وجزء يستخدم للزراعة، والأخير مراكز تدريب عسكرية.
لم يدمّر الاحتلال كلّ القرى والبلدات الفلسطينية. بعضها دُمّر وبقي على حاله، والبعض الآخر مسحه الاحتلال بشكل كامل عن وجه الأرض، وأقام فوقه بنياناً حديثاً على شكل مستوطنات ومعسكرات. ما بقي من منازل الفلسطينيين، عاش فيه المستوطنون بعد إزالة كلّ ما يدل على أنّ الفلسطينيين كانوا يعيشون هنا من قبل. استبدلوا التاريخ الفلسطيني بتاريخ إسرائيلي مزوّر، لعلهم يستطيعون أن يمحوا جريمتهم في القتل والتهجير.
على الرغم من كلّ هذا، إلا أنّ الفلسطينيين يعلمون جيداً أين تقع قراهم، ويحفظون جيداً ما حكى لهم أجدادهم عنها، حتى وإن لم يتمكنوا من زيارتها.
يروي جعايصة عن الرحلة الثانية إلى قرية الكفرين. يقول إنّه اصطحب أطفاله الصغار وأطفال إخوته معه. وعندما وصلوا إلى القرية، عبأ الأطفال زجاجات مياه فارغة من مياه البحر القريب هناك، وملأوا أكياساً أحضروها معهم من تراب القرية، وعادوا بها إلى مخيّم الفارعة ووضعوها في منازلهم هناك، "كي تفوح رائحة تراب القرية داخل منزلهم، إلى أن يعودوا يوماً ما إلى الكفرين".