قبل أشهر، في مايو/ أيار الماضي، وبينما كان أفراد من عائلة أبو القاسم الشريف يستقلون مركبة توك توك التي تُعرَف في السودان باسم الركشة، بمنطقة شرق النيل (شرقي الخرطوم)، اصطدمت سيارة بهم، لتُصاب العائلة بفاجعة كبرى. توفي في خلال حادثة السير تلك خمسة من أفرادها، بينهم طفلتان الأولى دون العامَين والثانية في الخامسة من عمرها. وفي ما يتعلّق بالسيارة، فقد توفي أحد الأشخاص الذين كانوا بداخلها.
تلك الحادثة ما هي سوى نموذج لحوادث الموت في شوارع السودان التي تحصد أرواحا كثيرة، ومنها ما يفني تقريباً عائلات بأكملها. يُذكر أنّ مدير شرطة الاحتياطي المركزي السوداني، الفريق هاشم محمد نور، لقي حتفه مع وزوجته وابنته إثر حادثة على أحد الطرقات السريعة بولاية الجزيرة، وسط البلاد. في السياق نفسه، قضى عدد من المشاهير في حوادث سير، من أمثال الشاعر محمد الحسن حميد، والمغنّي نادر خضر، ومدرّب نادي المريخ الرياضي صديق العمدة، والداعية محمد سيد حاج، والمداح الصافي النور. ومن السياسيين، نذكر وزير الزراعة الأسبق مجذوب الخليفة، وأمين عام حزب الأمة عمر نور الدائم، والقيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد إسماعيل الأزهري.
سودانيون كثيرون لقوا حتفهم في حوادث سير، غير أنّ الآلاف نجوا منها. من بين هؤلاء الناجين، أشخاص أصيبوا بإعاقات دائمة، من أمثال سهيلة المعتصم (27 عاماً) التي تعيش حالياً في مدينة عطبرة (شمال). تروي المعتصم ما جرى: "في 30 مايو/ أيار من عام 2008، عند الساعة الثالثة من بعد منتصف الليل، كنت أستقلّ وخالي وابنته سيارة ونتوجّه من بورتسودان (شمال شرق) إلى الخرطوم عبر طريق التحدي. كان السائق يقود بسرعة كبيرة، وفجأة ظهر مطبّ صناعي عند منطقة الجيلي (شمالي الخرطوم)، ففقد السيطرة على السيارة، الأمر الذي أدى إلى انقلابها أكثر من مرّة". تضيف: "على الأثر، دخلت في غيبوبة لم أستفق منها إلا بعد شهر و14 يوماً. صُدِمت حينها بوفاة خالي وابنته. واليوم، بعد إصابتي بكسور في العمود الفقري، أعاني إعاقة حركية دائمة أثّرت على كلّ حياتي". لكنّها، على الرغم من ذلك، تحدّت إعاقتها وواصلت دراستها حتى تخرّجت من الجامعة. وتأمل المعتصم أن تهتم الدولة بموضوع الطرقات وإنارتها، في حين ترجو السائقين الالتزام بالسرعة المطلوبة حتى لا تخلّف حوادث السير مزيداً من القتلى وذوي الإعاقات الحركية.
من جهته، تعرّض المهندس حسام عبد الله (35 عاماً) في العام الماضي، إلى حادثة سير في منطقة الأبيض (غرب) فأصيب بكسور في العمود الفقري. يخبر أنّه اضطر إلى البقاء في الفراش بأمر من الطبيب لمدّة ستّة أشهر. يضيف أنّ "التقرير النهائي بيّن وجود عجز بنسبة 25 في المائة، الأمر الذي تسبب في حرماني من مواصلة العمل الميداني في مجال الإشراف على مشاريع هندسية، والاكتفاء بالعمل من داخل المكتب".
أمّا الصديق بادي (33 عاماً) فقد كان يقود قبل عام ونصف باصاً من الخرطوم إلى عطبرة، وبسبب تجاوز خاطئ أتت به إحدى السيارات في الاتجاه المعاكس، كانت الحادثة. يقول: "أصبت بكسور في رجلَيّ، في مواقع متفرقة، ولم أشفَ حتى اليوم. نتيجة ذلك، صرت عاطلاً من العمل"، مشيراً إلى أنّ "قيادة المركبات هي كلّ ما أمتهن".
تفيد جهات معنيّة بأنّ حوادث السير هي السبب الأول للوفاة في السودان، نتيجة الإصابات التي تطاول غالباً الجمجمة والبطن والصدر، بينما يساهم التأخّر في الإسعاف والعلاج في زيادة معدلات الوفيات. وبحسب بيانات حديثة لشرطة المرور السودانية نُشرت قبل أيام، فقد سُجّل وقوع تسعة آلاف و823 حادثة سير في خلال العام الجاري، مع انخفاض بنسبة 10.4 في المائة بالمقارنة مع العام الماضي. وأوضحت البيانات أنّ ألفاً و314 حادثة من تلك الحوادث تسببت في موت أشخاص، في حين لفتت إلى انخفاض في عدد الحوادث الخطرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ أكبر عدد حوادث سير على طرقات سريعة يُسجَّل على طريق الخرطوم مدني، لذا بات يُعرَف بين السودانيين بأنّه "طريق الموت"، يليه طريق التحدي وطريق شريان الشمال. أمّا أبرز أسباب حوادث السير في البلاد، فهي بحسب المعنيين رداءة الطرقات، لا سيّما ضيقها وعدم إنارتها، إلى جانب السرعة الزائدة التي لا تتناسب ومساحة الطريق. يُذكر أنّ الإهمال في القيادة ينتشر أكثر بين الشباب. يُضاف إلى ذلك انشغال السائقين في التحدّث بالهواتف المحمولة، وكذلك تعاطي الخمور والمخدّرات. وفي الآونة الأخيرة، راحت جهات معنية تتحدث عن رداءة إطارات السيارات، لأنّ عدداً كبيراً من الحوادث وقع بعد انفجار إطار أو آخر. وقد أشارت الجهات نفسها إلى أنّ ثمّة إطارات مستوردة من الخارج غير مطابقة للمواصفات والمقاييس.
في السياق، يرى المدير الأسبق لشرطة المرور، الفريق شرطة الطيب عبد الجليل، أنّ "رداءة الطرقات في السودان لا يدانيها مثال في البلدان الأخرى"، مشيراً إلى أنّ "الطرقات لا تُصمَّم بالأسلوب الصحيح، ولا تراعي المعايير الهندسية الدولية. كذلك فإنّ تصميم الطرقات وإنشاءها لا يعتمد مطلقاً على الكثافة المرورية في منطقة محددة، بالتالي فإنّ حوادث السير المميتة تقع بمعظمها نتيجة ذلك، فضلاً عن انتشار المساكن والمؤسسات الخدمية على جانبَي الطرقات، وهو الأمر الذي يضاعف المخاطر". يضيف عبد الجليل لـ"العربي الجديد" أنّ "ثمّة ضعفاً كبيراً في الثقافة المرورية ليس بين عامة الناس فحسب، بل في وسط السياسيين وأعضاء المجالس التشريعية والقضاة ووكلاء النيابات وغيرهم. وكوادر الشرطة المنوط بها تنفيذ القانون، هم كذلك". ويتابع أنّ "القوانين ليست كافية في البلاد في مجال السلامة المرورية، لكنّها لن تكون ذات إفادة ما لم يتمّ الالتزام بمعايير الطرقات ونشر الثقافة المرورية بين الناس، وتوفير الإسعافات اللازمة على طول الطرقات السريع".