لم أكن أعرف زياد أبو عبسي إلا بالصوت، عن طريق "الكاسيت"، من خلال أدواره في مسرحيات زياد الرحباني، عندما التقينا بعد إصرار من أصدقاء مشتركين.
كان الوقت مساء. فتح باب المنزل الذي يعيش فيه وحيداً في منطقة الشويفات بالبيجاما. وبعدما دخل الأصدقاء تباعاً عرّفت عن نفسي، فعانقني وقبّلني بحرارة فاجأتني، وسحبني من يدي إلى داخل المنزل. وعندما ناديته بأستاذ ردّ: "فوت بلا طق حنك". فضحك الأصدقاء الذين كانوا يعرفونه جيداً، وكان أستاذهم في مادة المسرح في الجامعة اللبنانية الأميركية. ولا أعرف لماذا صرت أناديه "معلم" أسوةً بهم.
جلسنا وجلس على الكنبة الكبيرة التي يحبها، نصف ممدد، ورفع ورقةً بيضاء كان قد كتب عليها حواراً قصيراً قبيل وصولنا راح يقرأه علينا وهو يداعب لحيته الكثّة، فترتفع نبرة صوته وتنخفض بحسب مسار الحوار، قبل أن يضعها جانباً فوق تلّة الكتب المكدسة دائماً فوق طاولة غرفة الجلوس، ويطلب من أحدنا إعداد القهوة. كان اللقاء الأول "همشرياً" تماماً.
يغيب زياد ونغيب وتمرّ فترات طويلة ثم يتصل فجأة داعياً إلى لقاء مسائي جديد: "أبو الزوز، اشتقتلكن. متى نأكل بيتزا معاً؟". يحدث هذا دون مراعاة لحرمة سكري أو خطر ضغط، ودون اعتبار للأدوية الكثيرة التي يتناولها. نلتقي فنتناقش بكتاب جديد، أو فيلم معروض في السينما، أو فكرة.
لم يكن زياد فظاً، لكنه كان ناقداً قاسياً. ولم يكن تقليدياً، بل ينظر باهتمام إلى من يغرّدون خارج سرب المألوف. يغضب إذا سلك أحد تلامذته – وهم كثر- مساراً ضيقاً في السياسة أو في الحياة، فيشتمهم من دون أن يقطع حبل الحب تجاههم.
كان آلة قراءة ونقاش متحركة وودودة. رجل ضخم البنية بابتسامة طفل. يضيع فتلقاه في مكتبة بيسان في الحمراء، أو تجده يسأل عن مجموعة من الكتب بالإنكليزية تركها له صديق في كافيتريا إذاعة "صوت الشعب" في وطى المصيطبة. وقد يقرأ أكثر من كتاب في اليوم الواحد إلى أن نهاه طبيب العيون عن ذلك، من دون أن يمتثل، على ما أخبرني الأصدقاء.
اقــرأ أيضاً
دعاني مرةً إلى مكتبته، وكانت مجاورة لغرفة الجلوس التي جعل منها غرفة عمليات لأفكاره وكتاباته. كانت الغرفة أشبه بمخزن للكتب أكثر مما هي مكتبة. رفوف كثيرة ترتفع من الأرض إلى السقف على مساحة الجدران الأربعة، تتراصف فوقها كتب الفلسفة والمسرح والروايات والسياسة. كانت الكتب ملاذ زياد عندما يكون بعيداً عن الناس وعن الخشبة. الخشبة نفسها التي لا يليق به إلا أن يقف فوقها لا أن يغفو بين جدرانها.
كان الوقت مساء. فتح باب المنزل الذي يعيش فيه وحيداً في منطقة الشويفات بالبيجاما. وبعدما دخل الأصدقاء تباعاً عرّفت عن نفسي، فعانقني وقبّلني بحرارة فاجأتني، وسحبني من يدي إلى داخل المنزل. وعندما ناديته بأستاذ ردّ: "فوت بلا طق حنك". فضحك الأصدقاء الذين كانوا يعرفونه جيداً، وكان أستاذهم في مادة المسرح في الجامعة اللبنانية الأميركية. ولا أعرف لماذا صرت أناديه "معلم" أسوةً بهم.
جلسنا وجلس على الكنبة الكبيرة التي يحبها، نصف ممدد، ورفع ورقةً بيضاء كان قد كتب عليها حواراً قصيراً قبيل وصولنا راح يقرأه علينا وهو يداعب لحيته الكثّة، فترتفع نبرة صوته وتنخفض بحسب مسار الحوار، قبل أن يضعها جانباً فوق تلّة الكتب المكدسة دائماً فوق طاولة غرفة الجلوس، ويطلب من أحدنا إعداد القهوة. كان اللقاء الأول "همشرياً" تماماً.
يغيب زياد ونغيب وتمرّ فترات طويلة ثم يتصل فجأة داعياً إلى لقاء مسائي جديد: "أبو الزوز، اشتقتلكن. متى نأكل بيتزا معاً؟". يحدث هذا دون مراعاة لحرمة سكري أو خطر ضغط، ودون اعتبار للأدوية الكثيرة التي يتناولها. نلتقي فنتناقش بكتاب جديد، أو فيلم معروض في السينما، أو فكرة.
لم يكن زياد فظاً، لكنه كان ناقداً قاسياً. ولم يكن تقليدياً، بل ينظر باهتمام إلى من يغرّدون خارج سرب المألوف. يغضب إذا سلك أحد تلامذته – وهم كثر- مساراً ضيقاً في السياسة أو في الحياة، فيشتمهم من دون أن يقطع حبل الحب تجاههم.
كان آلة قراءة ونقاش متحركة وودودة. رجل ضخم البنية بابتسامة طفل. يضيع فتلقاه في مكتبة بيسان في الحمراء، أو تجده يسأل عن مجموعة من الكتب بالإنكليزية تركها له صديق في كافيتريا إذاعة "صوت الشعب" في وطى المصيطبة. وقد يقرأ أكثر من كتاب في اليوم الواحد إلى أن نهاه طبيب العيون عن ذلك، من دون أن يمتثل، على ما أخبرني الأصدقاء.
دعاني مرةً إلى مكتبته، وكانت مجاورة لغرفة الجلوس التي جعل منها غرفة عمليات لأفكاره وكتاباته. كانت الغرفة أشبه بمخزن للكتب أكثر مما هي مكتبة. رفوف كثيرة ترتفع من الأرض إلى السقف على مساحة الجدران الأربعة، تتراصف فوقها كتب الفلسفة والمسرح والروايات والسياسة. كانت الكتب ملاذ زياد عندما يكون بعيداً عن الناس وعن الخشبة. الخشبة نفسها التي لا يليق به إلا أن يقف فوقها لا أن يغفو بين جدرانها.