يُعَدّ تخصص الهندسة جاذباً بالنسبة إلى خرّيجي الثانوية العامة في قطاع غزة الحاصلين على معدّلات عالية، إذ إنه من أكثر التخصصات التي تواكب العصر في مجالات مختلفة. لكن، بعد انقضاء السنوات الجامعية الخمس، يجد هؤلاء الذين صاروا يحملون شهادات هندسة أنّ الواقع يختلف عمّا كانوا يطمحون إليه. مجتمع الغزيين المحاصر لا يتيح فرصاً كافية لهم، فيرى كثيرون أنفسهم عاطلين من العمل بينما يتوجّه آخرون إلى مجالات أخرى.
والهندسة في غزة من أكثر التخصصات تطوّراً لجهة المناهج التعليمية والمختبرات، بحسب ما تشير دائرة التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية. وجامعات القطاع تخرّج سنوياً أكثر من 500 طالب من كليات الهندسة، غير أنهم لا يجدون أكثر من 20 فرصة رسمية تحتاج إليها المؤسسات الرسمية. إذاً، اعتاد أهل القطاع أن يروا خرّيجي هندسة يعملون في مطاعم أو مقاهٍ أو متاجر لقاء أجر زهيد.
يوسف القهوجي (28 عاماً) مهندس مدني تخرّج قبل أربعة أعوام في الجامعة الإسلامية. قضى الشاب عاماً كاملاً بصفته متدرباً في إحدى شركات المقاولات الكبيرة في غزة، لكنها لم توظّفه بعد انقضاء فترة التدريب. فراح بعدها يتابع إعلانات التوظيف ويتقدم بطلبات في السياق، على الرغم من أن كلّ المعلنين كانوا يطلبون مهندسين ذوي خبرة. باءت محاولاته بالفشل، وراح قبل عامَين يعمل بائعاً في بقالة في منطقة الجلاء في مدينة غزة. يخبر القهوجي أن "الهندسة تخصص جميل في غزة وثمة تطوّر في مناهج التدريس التي تواكب التقدّم التكنولوجي في العالم، على الرغم من أننا في مجتمع محاصر. لكنّ خريجين كثيرين اليوم يعملون في مهن مختلفة لا تمت إلى الهندسة بصلة، مثلما أفعل أنا. الأمر بات طبيعياً جداً". ويتذكّر القهوجي أحد أصدقائه الذي "وصل إلى حالة من الاكتئاب الشديد دفعته إلى تمزيق شهادته الجامعية لأنها لم تعد مهمة بالنسبة إليه، بعدما قضى أعواماً عديدة وهو يبحث عن فرصة في الهندسة المعمارية من دون جدوى، وبعدما اشتغل لعام كامل عاملاً في أحد مقاهي غزة وعرف في خلال ذلك مذلّة وعدم تقدير".
يوسف القهوجي: ثمّة عدم تقدير (محمد الحجار) |
أما سعيد قدورة (29 عاماً) فهو مهندس معماري تخرّج قبل خمسة أعوام، ولم ينجح في الحصول إلا على عقد عمل مؤقت لمدة ستة أشهر في أحد المشاريع القطرية العاملة في البنى التحتية في غزة، بالتعاون مع بلديتها. وبعد عامَين من البطالة، تعلّم مهنة الحلاقة وراح يمارسها في منطقته في مخيّم جباليا شماليّ القطاع. يقول قدورة إن "ثمة أصحاب منشآت كبيرة يستغلون المهندسين الخريجين لقلّة الفرص المتاحة أمامها ولكثرة العاطلين من العمل بينهم. فيستقطبهم بعض أصحاب مكاتب الهندسة للعمل بنظام القطع وبأجرة زهيدة".
سعيد قدورة: الحلاقة أفضل من لا شيء (محمد الحجار) |
من جهته، يعمل محمد أبو دية (28 عاماً) في مطعم والده الخاص بالمأكولات الشعبية منذ ثلاثة أعوام، لأنه لم يجد أيّ فرصة عمل في مجال تخصصه. هو تخرّج قبل أربعة أعوام مهندسَ اتصالات، وقدّم طلبات عمل في شركات عديدة للاتصالات والإنترنت في غزة. لكنه لاحظ أنه في حاجة إلى وساطة قوية حتى يتمكّن من الحصول على فرصة وظيفة في تخصصه في الشركات الكبيرة. يقول أبو دية إنّ "هندسة الاتصالات من أكثر التخصصات المطلوبة في الخارج، إذ إنها تخصص يواكب حداثة الاتصالات بأنواعها. أما في قطاع غزة، فنجد المجالات محدودة في الشركات الوطنية وتحتاج إلى وساطة قوية، في حين أنّ شركات أخرى تقفل أبوابها بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية. هكذا، صرنا نقدّم النصيحة إلى كل الطلاب الجدد بعدم دراسة الهندسة حتى لا يلقوا المصير نفسه".
محمد أبو دية: مأكولا شعبية... لم لا؟ (محمد الحجار) |
يرى خريجو الهندسة أن الذين يتخصصون في مجال البرمجيات أكثر حظاً في العمل في قطاع غزة، ذلك أنّ شركات الهندسة ذات الصلة - بمعظمها - تعمل لحساب شركات خارجية لبرمجة المواقع الإلكترونية وتصميمها، لكنهم في الوقت نفسه يعملون لساعات طويلة تستنفد طاقتهم. ويأسف المهندس أحمد المبيض لأنه "لا عدل في تخصص الهندسة في غزة". ويقول إنّ "مهندس البرمجيات يعمل أكثر من 10 ساعات يومياً، وربما يعمل على مدار الساعة لحساب شركات خارجية، الأمر الذي يُعَدّ استغلالاً. لكنه لا يجرؤ على الاعتراض لأنّ مهندسين كثيرين آخرين وضعوا شهاداتهم جانباً".
في السياق، يشير مدير مكتب نقيب المهندسين في قطاع غزة، المهندس حسن المدهون، إلى أنّ "عدد المهندسين المسجلين لدى نقابة المهندسين الفلسطينيين في القطاع هو 12 ألفاً و100 مهندس، نسبة العاملين الدائمين منهم 60 في المئة إمّا في إطار وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والحكومة الفلسطينية، وإمّا في شركات ومكاتب هندسية خاصة. يُضاف إلى هؤلاء 28 في المئة من العاطلين من العمل، و12 في المئة من الذين يعملون بنظام عقود مؤقتة لا تتجاوز ستة أشهر". يضيف المدهون، أن "نسبة العاطلين من العمل على أرض الواقع أكبر من البيانات المتوفرة، لأنّ ثمة خرّيجي هندسة غير مسجّلين لدى النقابة". ويتابع أنّ "سبع جامعات في قطاع غزة تمنح شهادات في تخصصات الهندسة، بينما تستقبل النقابة سنوياً 600 مهندس يرغبون في الحصول على تراخيص عمل، علماً أنّها كانت تستقبل قبل 10 أعوام 150 طلب رخصة عمل فقط".
ويوضح المدهون أنّ "المهندسين الجدد في الوقت الحالي لا يعملون، ومن بينهم من حصل على شهادته منذ أكثر من ستة أعوام. وللأسف، تخرّج الجامعات أعداداً لا يحتاج إليها السوق، وهكذا لم تَعد شهادة المهندس توظف صاحبها". ويكمل أنّ "النقابة حاولت في خلال التواصل مع عدد من الدول الخليجية إرسال وفود من خرّيجي كليات الهندسة للعمل فيها، لكنّ تلك الدول رفضت ذلك. وهي تعمل على عقد اتفاقات مع دول مجاورة لاستيعاب خرّيجي الهندسة للعمل في سوق عملها، بينما تحاول في موازاة ذلك خفض عدد الكليات التي تدرّس تخصصات الهندسة باختلافها".