ليست حياة جميع المتقاعدين في فرنسا ورديّة. بل إن هؤلاء المتحدّرين من دول المغرب العربي، يتقاضون راتباً تقاعدياً ضئيلاً، وهم عاجزون عن الاستمتاع مع عائلاتهم وأحفادهم. الأسباب كثيرة، حتى أن البعض يعترف بتحمله المسؤولية، إضافة إلى جهات أخرى. وفي المحصلة، معاناتهم مستمرة.
ومن كان راتبه ضئيلاً طوال فترة عمله، لا بد أن يكون راتبه التقاعدي متواضعاً. في هذا السياق، يقول مولاي علي، وهو متقاعد في الثمانين من عمره، إن راتبه التقاعدي يتجاوز 500 يورو (نحو 600 دولار) بقليل. وعن السبب، يوضح: "قدمت إلى فرنسا بعدما تجاوزت الثلاثين من العمر. لم أعثر على عمل يناسبني على الفور. في البداية، عملت بائعاً في متجر، وكان صاحبه لا يعلن لمصالح الضريبة سوى عن نصف ما يمنحني إياه"، ما يفسّر راتبه التقاعدي المتواضع في الوقت الحالي. حال مولاي علي ليس فريداً، إذ إن عمالاً كثيرين يغريهم العمل بصفة غير قانونية وغير معلنة حتى لا يدفعوا ضرائب على الدخل سنوياً، لكنّهم ينسون أن هذه الحيل لها تأثير سلبي على رواتبهم التقاعدية. ويوضح أن الراتب التقاعدي في نهاية المطاف هو استرجاع متأخر لما بذله العامل من تضحيات في العمل طوال حياته المهنية.
أما سعدية، التي تقاعدت قبل نحو أشهر، فجاءت إلى فرنسا بعدما تجاوزت الثلاثين من العمر. إلّا أن ظروفها تختلف عن مولاي علي، إذ إن الحصول على أوراق الإقامة كان سهلاً في سبعينيات القرن الماضي، في حين أن سعديّة عانت قبل أن تحصل عليها، وتطلّب الأمر "زواجاً أبيض" دفعت في مقابله ما يعادل 10 آلاف يورو (نحو 12 ألف دولار). وفي انتظار تسوية أوضاعها، عملت في معمل للنسيج في باريس، من دون الحصول على أية وثائق تثبت ذلك. تعترف سعدية: "كنت أعمل عشر ساعات يومياً، وفي نهاية الشهر، أحصل على راتبي". ولم تتمكن من العمل بصفة قانونية إلا بعدما أصبحت أوراق إقامتها في جيبها.
وعن راتبها التقاعدي المتواضع، تقول: "أخبرني الموظف بأنني لم أعمل إلا خلال عشرين عاماً". وبالفعل، أحصل الآن على نحو 400 يورو (نحو 478 دولاراً).
الحالات كثيرة. هنا تعلّق صدقية: "اجتهد في الصغر ترتاح في الكبر". لكن المعاناة تزداد حين يكتشف بعضهم أن الراتب التقاعدي ضئيل، وقد بددوا ثروات طائلة في حياتهم. موحند، من أصول جزائرية، يقول: "كنتُ أدير مقهى ومطعماً في إحدى البلدات الفرنسية، وكنت أتقاضى الملايين، ما جعلني أشتري أغلى السيارات في ذلك الوقت". يضيف: "كنت أخفي أرباحي عن قسم الضرائب، ولم أموّل تقاعدي بشكل صحيح. والنتيجة أنني أقيم في بيت صغير وأتقاضى راتباً بائساً".
تجاوز موحند الثمانين من عمره، ويعيش لوحده إذ إنه لم يتزوج. يقول: "هل تصدق أنّني لم أستطع توفير مبلغ خمسة آلاف يورو لأداء مناسك الحج". أمّا علاّوة (82 عاماً) فكان يملك أيضاً مقهيَيْن وفندقين في مدينة مونتروي في ضاحية باريس. أما اليوم، فراتبه التقاعدي لا يتجاوز 600 يورو (نحو 700 دولار). يقول: "كل شيء ذهب مع الريح. لست أدري كيف ضاع كل شيء. بدأت أفقد ثروتي شيئاً فشيئاً. كنتُ أفسر الأمر بإنفاقي دونما حساب، إضافة إلى عمال ومساعدين يختلسون أموالي". صحيح أنه كان يصرّح عن بعض أرباحه للضرائب، لكن راتبه التقاعدي لم يتجاوز في النهاية 600 يورو. ورغم تجاوزه الثمانين، ما زال يعمل في بعض المقاهي. "أتجاوز عزلتي من خلال العمل في المقاهي، وأستطيع توفير بعض الهدايا لأحفادي".
ويعد الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للمتقاعدين الذين قدموا إلى فرنسا من دون عائلاتهم. هؤلاء يعيشون في عزلة على عكس آخرين تلقّفوا قرار الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان في عام 1974، بلَمّ شمل عائلاتهم. وماذا عن آخرين لم يعملوا في حياتهم؟ كلّ شخص يصل إلى سن التقاعد يحصل على مساعدة التضامن المخصصة للمسنين، والتي تقدر بنحو 803 يورو للشخص الواحد شهرياً. لكن يجب توفر شرطين، هما عدم البقاء خارح فرنسا لأكثر من 183 يوماً، إضافة إلى الإقامة الدائمة في البلاد. وبما أنّ مبلغ 803 يورو (نحو 950 دولاراً)، هو الحد الأدنى للتقاعد، كما تراه الدولة، فإن من يحصل على تقاعد أقلّ يستطيع أن يطرق أبواب صناديق اجتماعية أخرى حتى يصل تقاعده إلى هذا المستوى، إلّا في حال كان يملك عقارات وأملاكا. لهذا السبب، يتعجب فرنسيون، بكثير من المرارة والألم، من حصول أشخاص لم يعملوا طوال حياتهم، على راتب تقاعدي أكبر من آخرين عملوا طوال حياتهم.
حياة هؤلاء المتقاعدين المغاربة صعبة، إذ إن التقاعد لم يمنحهم ما يمنحه للفرنسيين، الذين ينصرفون إلى تربية أحفادهم والاعتناء بحدائقهم إضافة إلى العمل الخيري. هؤلاء المتقاعدون الذين رفضوا إحضار عائلاتهم إلى فرنسا، يجدون أنفسهم في أوضاع إنسانية قاسية.
مبروك الجزائري، الذي تقاعد قبل أربع سنوات، يعترف أن ارتياده الدائم لمسجد الحيّ يوفر عليه شراء المواد الغذائية. ويقول متقاعدون فرنسيون بعد الاطلاع على معاناة زملائهم المغاربة: "يجب أن يتغير الوضع". وهذا ما قيل أيضاً حيال قدماء المحاربين المغاربة والأفارقة في الجيش الفرنسي، الذين كانوا يحصلون على رواتب متواضعة بالمقارنة مع رفاقهم الفرنسيين، ليتغير الواقع في عهد الرئيس جاك شيراك. ويحمّل مبروك، حاله حال آخرين، فرنسا مسؤولية ما يجري. ويسأل: "هل من الإنسانية ألّا أبقى في بلادي أكثر من ستة أشهر"؟ كذلك، يرى أن بلاد المغرب العربي مسؤولة أيضاً "لأنها لم تدافع بشكل جدي عن مواطنيها. وربّما هو ذنبي لأنني لم أحصل على الجنسية الفرنسية".
إلى ذلك، تشير جمعيات حقوقية في فرنسا إلى أنها عجزت عن جعل الدولة الفرنسية تسمح لهؤلاء العيش مع أهلهم ما بقي من سنوات العمر. وترى أن حياة هؤلاء المتقاعدين من دول المغرب العربي تشبه الجحيم، إذ إن التقاعد لم يمنحهم ما يمنح للفرنسيين.