في بداية العام الجاري، أعلنت الإدارة الأميركية تخفيض قيمة تبرّعاتها لمصلحة وكالة أونروا، الأمر الذي رأى فيه المعنيون تهديداً لعمل الوكالة. اللاجئون الفلسطينيون في لبنان مهدّدون كذلك، وهذا هو وضعهم اليوم.
"ملعون قَبل أن يخفّض الدعم لأونروا، فكيف بعد التخفيض؟ سوف يأتي اليوم الذي يجازيه الله فيه، لا محالة". تتحدّث هالة أبو الكل (60 عاماً)، عن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وهي منهمكة في إنجاز معاملات لحفيدها الرضيع البالغ من العمر أربعة أشهر والذي يعاني من ارتفاع حاد في الحرارة في إحدى العيادات الطبية التابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في مخيّم عين الحلوة، جنوب شرق مدينة صيدا، جنوبيّ لبنان. تضيف جدّة الطفل الذي قُتل أبوه قبل أشهر في إشكال وقع في المخيم، وهي والدة لشابَين آخرَين يعانيان من مرض السكري، أنّ "بيوت الناس سوف تُخرَب. بعضنا لا يملك حتى ثمن علبة دواء لوجع الرأس. نحن شعب ضائع، ومهما قلنا أو فعلنا لن يتغيّر شيء. باعوا القدس، أطهر أرض، وسلّموها للصهاينة، والأمّة العربية ساعدتهم، فانتفضنا ولم يحصل شيء. ونستغرب إذا أوقفوا الدعم عن أونروا وشرّدوا العباد؟!".
مثل هالة، كثيرون وكثيرات تسمع قصصهم الموجعة وتكاد لا تستغربها، حين تنظر إليهم كيف يتزاحمون عند أبواب العيادات والمراكز التابعة لوكالة أونروا لتلقي الخدمات والمساعدات التي تقدّمها الوكالة لهم منذ نحو 70 عاماً. يُجمعون على أنّها منقذتهم في ظلّ الأوضاع التي يعيشونها، خصوصاً في لبنان، وعلى أنّ تقليص الدعم المقدّم لها أو التفكير في وقف أعمالها سوف يتسببان في كوارث لن ينجو منها إلّا من كان له أقارب يعملون في الخارج أو من كان حظّه جيّداً في إيجاد فرصة عمل في لبنان الذي يحرم اللاجئين من ممارسة عشرات المهن ويعاني بدوره من وضع اقتصادي صعب.
أمام مدرسة في مخيّم عين الحلوة (خليل العلي) |
الاستقرار والأمن في خطر
تفيد بيانات أونروا بأنّ عدد المسجّلين لديها في لبنان حتى ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017، هو 469 ألفاً و555 لاجئاً فلسطينياً، كثيرون منهم يقيمون خارج البلاد. الوكالة تقدّم خدمات تعليمية إلى 37 ألف تلميذ في 66 مدرسة ابتدائية وثانوية تابعة لها، بالإضافة إلى ألف تلميذ يدرسون في المعاهد المهنية والتقنية. كذلك، تقدّم خدمات صحية في 27 عيادة تابعة لها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وخارجها، تشمل الرعاية الصحية الأولية، من استشارات طبية ومعاينة ووصف أدوية وتقديم بعضها، فضلاً عن دعم الرعاية الصحية الاستشفائية في المستشفيات الخاصة والحكومية عبر تغطية التكاليف بنسبة قد تصل إلى 100 في المائة للحالات المتوسطة وإلى 60 في المائة للحالات الخاصة والصعبة. كذلك، يستفيد أكثر من 61 ألف لاجئ يعيشون تحت خط الفقر من الخدمات الاجتماعية التي تقدّمها أونروا، مع الإشارة إلى أنّها تضمّ نحو 3700 موظّف من اللاجئين أنفسهم.
يقول مدير الوكالة في منطقة صيدا، الدكتور إبراهيم الخطيب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "الاستقرار والأمن الاجتماعي في المنطقة سوف يكونان في خطر إذا توقّفت أونروا عن العمل"، مشيراً إلى أنّ ثمّة "عجزاً بنسبة 440 مليون دولار أميركي في ميزانية الوكالة، البالغة ملياراً و200 مليون دولار، وذلك منذ بداية العام الجاري". ويوضح أنّ ثمّة "أزمة حقيقية بدأت تظهر. وعلى الصعيد الإداري وبين الموظفين، بدأنا إجراءات تقشّف لا يمكن أن يتصوّرها عقل، من أجل استمرار تقديم الخدمات للاجئين من دون أيّ تغيير أو انقطاع، حتى وإن كان ذلك على حسابنا. وصرنا نطفئ مولدات الكهرباء ساعة يومياً حتى نحافظ على كمية المازوت المطلوبة لاستمرار العمل في العيادة. إلى ذلك، كان يحقّ للموظّف عند بلوغه الستين من عمره أن يطلب تمديد فترة خدمته حتى 62 عاماً، لكنّ هذا ألغي اليوم. أمّا إجراءات التعيين في المدارس والعيادات والتوظيف في المراكز، فقد صارت تجري بتقشف يراعي الأزمة".
ضغوط وشائعات
عند بوابة أحد مراكز أونروا، يقف حارس عرّف نفسه باسم أحمد، مدقّقاً في كلّ من يدخل إليه أو يخرج منه. يخبر أحمد بأنّه كان يملك مصلحة خاصة به قبل أن يقرّر قبل أعوام العمل مع أونروا، "لأنّها أكثر أماناً واستقراراً. لكنّ اليوم لم يعد ثمّة استقرار في أيّ شيء، ولم يعد اللاجئ الفلسطيني ينتظر إلا الأسوأ في ظلّ الاستهدافات المتلاحقة التي يتعرّض لها". يُذكر أنّه منذ أن بدأت أونروا إجراءاتها التقشفية، زاد الضغط على أحمد، إذ أصبح الحارس الوحيد للمركز، فالوكالة غير مستعدة اليوم لتوظيف أيّ شخص آخر ليساعده.
يتناقل اللاجئون الفلسطينيون في مخيم عين الحلوة، أكثر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين كثافة في لبنان، الأخبار والمعلومات حول أزمة أونروا الأخيرة، عبر الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي. بعض هذه المعلومات صحيح، وبعضها الآخر مجرّد شائعات تسري بين السكان بفعل القلق ويتداولونها بين بعضهم البعض بتوتّر شديد. لكنّ عدداً غير قليل منهم لا يدرك حجم هذه الأزمة وخلفياتها، أو أنّه لا يصدّق أنّ في إمكان الوكالة أن تتوقّف عن العمل أو أن تتقلّص خدماتها.
ويقصد لاجئون كثر مراكز الوكالة كالمعتاد وهمّهم الوحيد الحصول على العلاج أو المساعدة المطلوبة، غير آبهين بأيّ شيء آخر. ميّاسة، واحدة من هؤلاء، تقول في أثناء انتظار دورها لمعاينة طبية في عيادة "عين الحلوة" التي يصل عدد زائريها في بعض أيام الأسبوع إلى 430 شخصاً، إنّ "الوضع تمام. أحضر دائماً إلى هنا ولم أشعر بأي تغيّر". تضيف مستنكرة: "هل يعقل أن تغلق أونروا أبوابها؟ لا يمكن أن يحصل هذا الأمر، فذلك يعني الحكم علينا بالموت". تتوقف لبضع ثوان قبل أن تتابع: "الناس سوف يأكلون بعضهم بعضاً، ومن لديه طفل فإنّه سوف يتفرّج عليه وهو يموت. أظنّ أنّه عند بدء تلك الإجراءات، لن يبقى الشعب ساكتاً. ولذلك تبدو الأمور تحت السيطرة حتى الآن".
من جهته، يشير أحد الموظفين في الوكالة، طالباً عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إلى بدء تأثير الأزمة على العمل في المراكز، قائلاً إنّ "أونروا انتهت بحسب ما يبدو. التقليصات كبيرة جداً وبدأنا نشعر بها كموظفين. حتى الأمور الصغيرة كالأقلام والأوراق والمحارم تقلّصت كمياتها. بدلاً من عشر علب أقلام صارت تصلنا علبة واحدة. كذلك لم نعد نحصل على قوارير غاز خاصة بالمدافئ، فضلاً عن تأخير صرف الرواتب حتى منذ ما قبل الأزمة بأشهر". ويكشف الموظّف نفسه بعضاً ممّا يتداوله الموظفون أو ما يسمعونه عن الأزمة، فيقول "نسمع بسيناريوهات عدّة، منها أنّ الأمور سوف تبقى على حالها حتى آخر العام الجاري، وبعدها سوف نُنقَل إلى المراكز اللبنانية لنصبح تابعين للدولة اللبنانية. لكنّني أظنّ أنّها لن تملك القدرة على استيعاب هذا العدد الكبير من الموظفين". يضيف: "سمعنا كذلك أنّه وبحلول نهاية العام، سوف تُضَمّ أونروا إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ويُصار إلى إبرام عقود لمدّة ثلاثة أعوام. برأيي، سوف تنتهي هكذا وبالتدريج". ويتابع الموظف نفسه أنّ "الموضوع أكبر من الشائعات المتداولة، في حين أنّ الناس يظنّون أنّ هذه الأزمة سهلة ولا يدركون أنّه في حال توقّف عمل الوكالة، سوف تقع فوضى عارمة وكارثة قد ينتج عنهما إجرام. فأونروا ملتصقة تماماً بلاجئين كثيرين يعتمدون عليها منذ عام 1949، وغيابها يعني نكبة كبيرة بالنسبة إليهم".
هنا إحدى عيادات مخيّم عين الحلوة (خليل العلي) |
"تفاؤل" وواقعيّة
في السياق، يؤكد الخطيب أنّ "ثمّة أزمة حقيقية، ولا ننكر أنّ هذا الانخفاض في التمويل قد تكون له عواقب وخيمة على حياة اللاجئين الفلسطينيين اليومية في كل مجالات عمل أونروا، خصوصاً في لبنان. فالخدمات التي نقدّمها كلها على المحك إذا لم تتمكّن أونروا من تجاوز العجز في التمويل. والمهم هو كرامة هؤلاء اللاجئين والحفاظ على الاستقرار في المنطقة كذلك". ويشرح الخطيب أنّه، بالنظر إلى العجز القائم وعبر حسابات بسيطة، يظهر أنّ رواتب الموظفين سوف تكون متوفّرة حتى شهر يونيو/ حزيران المقبل، ومن بعدها فإنّ كلّ شيء هو رهن المستجدات". لكنّه يلفت قائلاً: "نحن نعمل كأنّنا نفعل إلى الأبد، مسقطين احتمال أن تغلق الوكالة أبوابها أو تنتهي. نحن مستمرّون كما في السابق ونبني اليوم مدرسة جديدة في منطقة صيدا".
ويتابع الخطيب أنّه "على الرغم من هذه الأزمة المالية غير المسبوقة والتحدي الهائل الذي لم تواجهه أونروا في تاريخها، فإنّ الوكالة لم تخفّض خدماتها للاجئين وهي تكافح من أجل تكثيف الجهود لتعويض الأموال الأميركية المقتطعة من خلال مصادر أخرى. واليوم، نستهدف الجهات المانحة غير التقليدية، فنتطلع إلى دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، ونسعى إلى الحصول على دعم من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، بالإضافة إلى الدعم الفردي الذي يقدّمه أثرياء ورجال أعمال عرب وفلسطينيون. فنحن نرفض أن نكون متشائمين، ومصممون على سدّ هذه الفجوة".
لكنّ "تفاؤل" الخطيب لا يتشاركه موظّفو أونروا، وتقول مديرة إحدى المدارس التابعة للوكالة وقد رفضت الكشف عن هويّتها، لـ"العربي الجديد"، إنّها قرّرت ترك لبنان ووظيفتها والالتحاق بابنها في لندن، "فأنا أشعر بأنّ الوضع لم يعد مطمئناً أبداً والأفق مسدود، خصوصاً في ظلّ ما يُحكى عن صفقة القرن وما يُحضَّر للفلسطينيين".
تجدر الإشارة إلى أنّ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يُعَدّون من بين أكثر الفئات السكانية ضعفاً في العالم، إذ يعانون من مشكلات خطيرة، بما في ذلك الفقر والاكتظاظ والبطالة وضعف ظروف السكن وانعدام البنى التحتية الأساسية في المخيمات التي يعيشون فيها والتي يبلغ عددها 12، فضلاً عن القيود الكثيرة المفروضة عليهم من قبل الدولة اللبنانية.
من جهة أخرى، ووسط كل ذلك التخوّف والقلق على مصير أونروا، كان للؤي، وهو من سكّان مخيم عين الحلوة، رأي آخر، فالشاب الثلاثيني يرى أنّ "توقّف عمل الوكالة هو من مصلحة الفلسطينيين وليس العكس". ويقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذه الوكالة وُجِدت أساساً لتخدير الشعب الفلسطيني يوم اقتُلعنا من أرضنا. كنّا نعيش في الخيم في فلسطين وأتينا إلى هنا، فقالوا لنا هذه أونروا ولكم معلبات ومساعدات وطبابة. وجدنا أنّ الحياة هنا مجانية، فاستقررنا وأجّلنا العودة إلى وقت لاحق". يضيف: "هي تخدّر الشعب الذي بقي في مخيمات الشتات. لو لم تكن أونروا موجودة، لكان الناس ملّوا وهجموا صوب الحدود وعادوا إلى بلادهم بالقوة. ونحن لن نعود إلى فلسطين إلا بهذه الطريقة".