قضايا الهجرة، سواء تلك المتعلقة بالمهاجرين الجدد أو بأولئك الذين استقرّوا قبل زمن في الدنمارك وغيرها من البلدان الإسكندنافية، ما زالت تثير جدالاً على أكثر من صعيد. ويُطرح اليوم موضوع "الغيتوات".
أتت الدعوة التي أطلقها رئيس وزراء الدنمارك، لارس لوكا راسموسن، في بداية العام الجاري، من أجل إنهاء ما سمّاه "المجتمعات الموازية" وتفكيك الغيتوات، لتكمل الجدال المستمر حول آليات حلّ معضلة إسكندنافية يحذّر منها خبراء، وهي تمدّد تلك التجمعات إلى خارج نطاقها.
وتسمية "غيتو" تُعَدّ طبيعية في وسائل الإعلام الدنماركية. وفي المجال التشريعي والمجتمعي في الدنمارك، وفي غيرها من دول شمال أوروبا، يجري التركيز على هؤلاء الذين هم من "خلفية غير غربية". ويُقصَد بذلك مهاجرون من خارج أوروبا، وإن كان التركيز على المسلمين، علماً أنّ نسبتهم لا تتجاوز اثنَين إلى ثلاثة في المائة. ويفيد مركز الإحصاء الدنماركي بأنّ 12.3 في المائة من سكان البلد هم من المهاجرين أو من المتحدرين من أصول مهاجرة. وخلال العقود الثلاثة الماضية، ازداد خمسة أضعاف عدد الذين هم من "خلفية غير غربية".
يعبّر الجد عبد المنعم، أو عبدول مثلما يطلق عليه في الدنمارك والسويد والنرويج حيث عاش، عن حيرته إزاء الواقع مع ارتفاع نبرة النقاش حول الغيتوات والمجتمعات الموازية. يقول لـ"العربي الجديد": "حين أتيت إلى هنا في ستينيات القرن الماضي، لم يكن الأمر بهذا السوء. كناً خليطاً من كل الجنسيات، العربية وغير العربية، وكان محيطنا الإسكندنافي يخبَر مرحلة أشبه بثورة ثقافية مع استعار حرب فيتنام. أمّا اليوم، فالجدال يعود إلى حقبة لم أعشها ولا أستطيع التعرف عليها". ويخبر عبد المنعم: "كنت أعمل لساعات طويلة متنقلاً بحسب الطلب بين الدول الثلاث، وكان الراتب أكثر من ممتاز قياساً بمداخيل ذلك الزمن. وقد عمل الآلاف منّا بكد وجهد في أحواض بناء السفن، وعلى منصات بترول في عمق بحر الشمال، وفي الغوص تحت الماء لإجراء أعمال في اللحام. لو تجمّعنا في منطقة واحدة لكنّا بنينا، إن وُجِد مخطط، دولاً من الصفر. من المزعج أن تظهر الصورة وكأنّ الناس أتوا للحصول على مساعدة للرفاهية".
وعبد المنعم ليس الوحيد الذي يشكو ممّا هو حاصل، فزميله محمود أبو صافي، الذي يعمل في السويد حالياً، منزعج كذلك. ويتحدّث لـ"العربي الجديد"، عن امتعاضه من "ذهاب النقاش بعد نصف قرن، إلى البحث عن أحادية ثقافية ومجتمعية ترى في الذين يختلفون عن الأغلبية مجرّد أشخاص من أصول إثنية أخرى، على سبيل المثال".
لكنّ السويد تبدو حذرة في إطلاق تسمية "غيتو" على تجمعات المهاجرين، بحسب ما يشير الخبير في شؤون الهجرة والدمج بيتر لارسون، في غوتيبورغ، لـ"العربي الجديد". ويعيد الأمر إلى "أمور تتعلق بثقافة الانفتاح التاريخي في بلدنا، على الرغم من أنّ البعض بات يتجرأ اليوم كما في كوبنهاغن".
"ضيوف سوق العمل"
في بداية ستينيات القرن الماضي، استُقبل الآلاف للعمل تحت مسمّى "ضيوف سوق العمل". وكانت الدنمارك تحتاج إليهم تماماً كما السويد وألمانيا. وحتى منتصف سبعينيات ذلك القرن، كانت تُمنح إقامة بمجرّد إظهار عقد عمل في مصنع أو ورشة.
ومثّل الأتراك واليوغسلافيون (حينها) وكذلك المغاربة أغلبية، وقد انضمّ إليهم عرب آخرون من الأردن وفلسطين وسورية. وبعض هؤلاء لم يهتمّ كثيراً باللغة، أو كما يقول أبو صافي "لم يهتم أصحاب الأعمال كثيراً بإجادتنا للغة الدنماركية، وبعضنا تعلمها بنفسه. كذلك لم يهتم السياسيون كثيراً لمسألة السكن، وقد انتشرت في وقت لاحق ظاهرة التكدس في مجمعات سكنية محددة، خصوصاً مع الحاجة إلى شقة أكبر لاستقبال الزوجة والأطفال".
ويبرز النقاش أوسع حول الشباب اليوم، الذين ولدوا أو كبروا في الدنمارك، وإليهم انضم آلاف من أبناء اللاجئين من خلال لمّ الشمل. وعلى الرغم من أنّ القوانين تصنّفهم "مواطنين"، فإنّ الجدال حول التسمية "من أصول إثنية أخرى" يبقى ملازماً لكل نقاش حول "سياسة الدمج".
خوف من انتشار "المجتمعات الموازية"
التعقيدات التي عاشها المهاجرون الأوائل في مجتمعات محلية وارتفاع نسب البطالة والأعمال الجنائية الصادرة عن فئة صغيرة، من الأمور التي استغلها منذ منتصف الثمانينيات اليمين القومي عبر "الحزب التقدمي" الذي تحوّل لاحقاً إلى واحد من أكبر الأحزاب وأكثرها تأثيراً تحت اسم "حزب الشعب الدنماركي". وقد دفع اليمين القومي من خلال مساومات مع الليبراليين والمحافظين، إلى تشديد القوانين، خصوصا تلك المتعلقة بـ"لم الشمل". بالتالي، تقول فلسفة المعسكرَين إنه من غير الممكن لمن هو غير مندمج في الأصل أن يحضر زوجة وأطفالاً ويساهم في دمجهم، إذ إنّهم سوف يكونون جزءاً من المجتمع الهامشي والموازي في البلد. وهذه الفلسفة كانت قد طرحتها مؤسسة الحزب، بيا كيرسغوورد، قبل أن تصير سياسة رسمية للبلد اليوم، وتُطرح استناداً إليها مشاريع قوانين صارمة في البرلمان.
تجدر الإشارة إلى أنّ شروط لمّ الشمل كانت قد شدّدت قبل نحو 15 عاماً، ومنها أن يبلغ الزوجان من العمر 24 عاماً، وأن يضع المقيم ضمانة مالية لرعاية الزوجة الوافدة وتلبية شرط اللغة ودخول سوق العمل للإقامة الدائمة. واليوم، يتفق على هذه الشروط اليمين واليسار والوسط.
المثال السويدي
من جهة أخرى، يأخذ الدنماركيون من الواقع السويدي أمثلة لعدم التساهل والتسامح، عبر تحويل الضواحي لتكون مثل حال ضواحي الجيران السويديين. فحين تعصف المشاكل، وأكثرها مرتبط بصراع عصابات أفرادها شبان من أصول مهاجرة في ضواحي كوبنهاغن، تقفز مقاربات المشرّعين والمتخصصين في قضايا الدمج للتذكير بأنّه "يجب ألا يُسمح بتطور الغيتو إلى مناطق خارجة عن القانون". ويستعين هؤلاء بتقارير للشرطة السويدية، تعترف فيها بأنّها تعمل "في ظل شروط مجتمعات محلية تتوارث عدم التعاون مع الشرطة والوقوف خارج القانون السويدي، بل وتجري تربية الأطفال على ذلك"، بحسب ما جاء في تقرير للشرطة السويدية في يونيو/ حزيران 2017.
وتقرّ الشرطة السويدية بواقعها، موضحة أنّ "الرشق بالحجارة الذي يستهدف دوريات الشرطة في الضواحي تفاقم أكثر خلال السنوات الماضية". وحين حاولت "العربي الجديد"، الحصول على تعليق الشرطة المحلية في مالمو وغوتيبورغ حول الأسباب التي تجعل العلاقة متوترة بهذا الشكل، جرت إحالتنا إلى التقرير المشار إليه آنفاً، مع الإشارة إلى أنّه "يشرح الموقف الذي نأمل أن يتغيّر لأجل مصلحة الأطفال واليافعين في مجتمعهم السويدي".
بالنسبة إلى لارسون، فإنّ "الواقع الذي تعكسه التقارير الرسمية عن تلك المناطق وتصنيفها بأنّها أكثر عرضة اجتماعياً يرتبطان أساساً بمقاييس تتعلق بالعمل والدراسة. فالبطالة المرتفعة وانخفاض استكمال الدراسة (40 في المائة يتركون الدراسة، بحسب ما جاء في تقرير الشرطة المشار إليه آنفاً) وفرز الشباب المولودين في تلك المناطق بعيداً عن المجتمع لدرجة أنّهم يشعرون بالغربة عن السويد بداخلها، كلها عوامل تُضاف إلى تناقض بين جيل الآباء والأبناء لتساهم في خلق الشعور بالتهميش".
التربية في الغيتوات
في الثامن من فبراير/ شباط المنصرم، ومع استمرار الجدال حول مبادرة الدنمارك لتفكيك مناطق سكنية مكتظة بالمهاجرين، ألقت دراسة تحليلية متخصصة صادرة عن وزارة الاقتصاد والداخلية بعنوان "التربية في مناطق الغيتو"، مزيداً من الضوء على واقع القاطنين في تلك التجمعات السكنية. وفي السياق، يعبّر وزير الاقتصاد والداخلية، سيمون إميل أميتزبول، عن "فزع من هذه النتائج". وتبيّن الدراسة أنّ "الأهالي بغالبيتهم، ستّة من كل 10، في مناطق الغيتو هم خارج سوق العمل"، موضحة أنّه في الغيتوات الكبيرة حول البلد "نجد أنّ اثنَين من كل ثلاثة من أهالي الأطفال من دون مؤهلات تعليم للعمل".
ويبدو أنّ ما يفزع أميتزبول (حزب تحالف الليبراليين)، يقلق المتخصصين في قضايا الهجرة والدمج. فتشرح المتخصصة في متابعة التحصيل العلمي للمراهقين من أصل غير دنماركي في مدينة آرهوس حيث يصنّف تجمع غيلروب غيتو، ميتا أبيلغورد، لـ"العربي الجديد"، أنّ "هذا الواقع الذي يبدو صادماً للبعض ليس جديداً بل هو نتيجة لتراكم لسنوات. ولم يتحرّك كثيرون إلا مع انطلاق الحديث عن ضرورة تفكيك التجمعات وتوزيع قاطنيها، علماً أنّ هذه الخطة لن تحلّ شيئاً طالما أنّنا أمام أجيال دُفعت إلى الهامش".
ويخرج أميتزبول بنتيجة تقول: "يبدو أنّ القاعدة في هذه التجمعات هي أن يكون الأهل عاطلين من العمل وبلا مؤهلات، بدلاً من أن يكون ذلك استثناءً كما في بقيّة المجتمع". تجدر الإشارة إلى أنّ اليسار وفي أكثر من مناسبة، حذّر من "انتشار الفقر والإهمال في التجمعات السكنية وترك الشباب يعيشون واقعاً مختلفاً عن الآخرين". في الواقع، ما تظهره الدراسة الأخيرة عن الغيتوات هو "مشكلة عميقة في بلدنا بسبب تعاظم المجتمعات الموازية والعواقب الوخيمة على الأطفال". وما يقلق أبيلغورد هو "افتقار الأطفال إلى القدوة في البيت".
وتحاول "العربي الجديد" استطلاع رأي بعض من سكان تلك التجمعات، فينقسمون إلى فئتين. بالنسبة إلى الشاب خليل، الذي يملك عملاً ثابتاً منذ سنوات، فإنّ "التركيز الدائم على مشكلة الغيتو مقصودة، لأنّ السياسيين رفضوا في الأساس التدخّل منذ عقود لمنع التمييز في حقنا، سواء لجهة العمل أو الاختلاط بالمجتمع الأوسع. وقد مورست منذ 20 عاماً، سياسات عنصرية في حقّ الذين أرادوا مثلاً الانتقال إلى المدينة والعيش كالدنماركيين، بحجة أنّهم مفتعلو مشاكل". ويرى خليل أنّ "تحميل الأهل المسؤولية ثم الظهور كمصدومين من نتائج الدراسة هذه، كذبة جديدة في بلد لا يمكنه أن يفوّت تفاصيل خطيرة تراكمت على مدى عقود".
أمام رفض خليل تحميل الأهل أيّ مسؤولية، يجد قاسم أنّه "لا بدّ من المصارحة من أجل الأجيال الصغيرة. يحتاج الأمر إلى مناقشة بين المهاجرين أنفسهم: هل بالفعل كانت ثمّة قدوة لجيلنا؟ الأهل عاشوا على مساعدات مالية، وكان من السهل رؤيتهم لذويهم وهم يحصلون على معاش البلدية في بداية كل شهر، الأمر الذي يعني أنّك تكبر على فكرة سهولة مجيء المال". يضيف قاسم أنّ "الطفل من أبناء جيلنا واجه مصاعب نفسية ودراسية، فهو لطالما كان محاصراً بتناقضات البيت والشارع وبالخوف عليه من الذوبان. فنتجت بالتالي لامبالاة إزاء الدراسة والعمل، إلى جانب طرح أسئلة حول فائدة العمل والتعليم طالما أنّ الناس يقولون إنّ المعاش جيّد على الرغم من أنّه لا يكفي للعيش مثل بقية الدنماركيين". ويتابع أنّ "بعض الأهل كانوا يدّخرون جزءاً كبيراً من المعاش للسفر إلى لبنان (أو أيّ من بلدانهم الأصلية) أو شراء شقة هناك. أظنّ أنّ ذلك إلى جانب شيوع العنصرية والتمييز في توظيف من يُدعى قاسم أو محمد، أدّى إلى مشكلة عميقة لدى جيلنا".
والجدال حول دراسة تحليلية رسمية إلى جانب نقاش مقترح راسموسن تفكيك الغيتوات، يكشفان أنّ الجدال هو حول جيل شاب من "خلفية غير غربية" كبر في تلك المناطق خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، وحول تجمعات سكنية من عمارات إسمنتية بُنيت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على أطراف المدن الكبيرة، خصوصاً في منطقة فولسموسه في أودنسه وغيلروب في آرهوس وتينبيرغ في كوبنهاغن. وتشير الدراسة نفسها إلى أنّ أبناء المهاجرين في الضواحي من "خلفية غير غربية" يمثّلون نسبة 80 في المائة للفئة العمرية 0 - 14 عاماً اليوم، و70 في المائة للفئة 15 - 24 عاماً، مع ما لا يقلّ عن 22 ألف شخص يقطنون في المناطق الثلاث المشار إليها.
مآخذ
في السياق، ثمّة مآخذ يتحدّث عنها تربويون لـ"العربي الجديد"، في منطقة غيلروب، منهم دنماركيون وآخرون من أصول عربية. وهؤلاء ينتقدون صراحة "ظهور ذلك النقاش المستند إلى خلاصات من دون أخذ المقدّمات بعين الاعتبار. فتقول المتخصصة في الشؤون التربوية بيرغيتا سورنسن، إنّ "السياسيين المحليين (في البلدية) وفي البرلمان ركزواً طويلاً على صرف المليارات على تجميل بنية المنطقة والعمارات من الخارج، في حين أنّه من غير المفهوم سبب تحويل الأطفال مزدوجي اللغة إلى روضات مكتظة". وينتقد عضو في مجلس إدارة في غيلروب، فضّل عدم الكشف عن هويته، ما سمّاه "هدر الأموال على تجميل المنطقة لرفع بدلات السكن وتطفيش السكان من أصل مهاجر". وتشير سورنسن إلى دراسة شملت معظم مدارس الدنمارك الرسمية، بيّنت أنّ "في المنطقة مشكلة وهي تأخّر الصغار في الدراسة، وبعضهم بسبب اللغة، بالمقارنة مع أقرانهم في المدارس الدنماركية".
من جهته، يؤيّد المربّي والناشط من أصل مهاجر زكي سيفاني، ما تطرحه سورنسن، لكنّه يشير كذلك إلى أنّ "الجيل الذي عاش في بيئة الغيتو ترعرع على فزع الأهل ممّا كانوا يرددونه عن التزام بالعلاقات فقط مع من هم من البلد الأصلي. وأحياناً يقولون صراحة للطفل ألا يتعاطى في المدرسة مع الدنماركيين، الأمر الذي يخلق تشويهاً يدفع ثمنه بعض الذين رفضوا المشاركة في جلسات علاج للمضيّ في حياتهم". وحين نسأل عن "طبيعة هذا العلاج"، يخبر قاسم بأنّه شارك في "جلسات علاج مع غيري، فتحدثنا عن الماضي وكيف كبرنا في هذا الجوّ، وقد استمع إلينا متخصصون. أنا اليوم أكثر انسجاماً مع نفسي لأجل طفلي الصغير، فليس من المعقول أن أبقى أدور في الحلقة ذاتها وأشدّ كذلك طفلي ليرث الأسلوب ذاته".