التحديات التي يواجهها المهاجرون عموماً، أينما وجدوا حول العالم، كثيرة تختلف طبيعتها. وفي الولايات المتحدة الأميركية، يبدو أنّ المهاجر مضطر إلى المواجهة الدائمة، الأمر الذي يتطلب أحياناً مساندة نفسية متخصصة.
يعاني كثيرون من أبناء الجاليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، شأنهم شأن سواهم من المهاجرين، ضغوطاً نفسية واجتماعية وسياسية مختلفة تزيد من حجم التحديات التي يعيشونها. وقلّما يتمّ الالتفات إلى معاناتهم وتبعاتها النفسية عليهم وعلى أولادهم، لا سيّما المراهقين منهم. وتشرح المتخصصة في علم النفس لما خوري لـ"العربي الجديد" أنّ هؤلاء "يعانون من جرّاء العنصرية والتمييز، وضغوطهم النفسية لا تقلّ عن تلك التي يخبرها غيرهم من الأقليات (أميركيون من أصول أفريقية ولاتينية) وإن اختلفت السياقات مع اختلاف الخلفيات والثقافات". وتعيده خوري إلى "عدم التركيز على المهاجرين من أصول عربية في الدراسات والبحوث إلى أنّ نسبة عالية منهم تحقق نتائج جيّدة على مستوى التعليم، الأمر الذي يجعلها غير مرئية أو غير لافتة للانتباه في السياق".
وتشدّد خوري على "إهمال يتعرّض له الشباب من أصول عربية أو مسلمة من جهة البحوث أو تخصيص الأموال لمشاريع تدعم جالياتهم، في الوقت الذي يركز فيه الإعلام الأميركي على الشرق الأوسط وعلى العرب والمسلمين بطريقة ترسّخ صوراً نمطية سلبية عن ثقافة هؤلاء، الأمر الذي يزيد الضغط النفسي الذي يتعرضون له". وخوري التي تعمل في إطار مشاريع مختلفة مع مؤسسات من قبيل المركز العربي الأميركي لدعم العائلات، هي من أصول فلسطينية وقد انتقلت إلى الولايات المتحدة قبل نحو ثلاثة عقود واستقرت في نيويورك حيث تدير عيادتها الخاصة وتُعدّ البحوث حول المهاجرين من أصول عربية ومسلمة وتعمل مع شباب من تلك الأصول في المدارس الأميركية.
اكتئاب وغير ذلك
تشير دراسات عدّة حول الصحة النفسية للمراهقين عموماً والمتحدّرين من أصول مهاجرة خصوصاً إلى أنّ عدداً غير قليل منهم يعاني ضغوطاً نفسية عادية تتعلق بمراحل نموّهم كمراهقين. لكنّ ثمّة ضغوطاً إضافية تتعلق بالهجرة، لا سيّما التمييز والاعتداءات والتنميط من قبل مجتمع الأغلبية في الولايات المتحدة. وتوضح خوري في هذا السياق أنّ "ذلك يأتي بالإضافة إلى احتياجات هؤلاء اليومية كالتأقلم مع اللغة والبيئة الجديدتَين والحنين إلى أصدقاء وأقارب في البلد الأصلي. كذلك ثمّة أشخاص منهم خبروا صدمات حروب ويحملون ذكريات أليمة يحاولون التعايش معها. وهو ما يجعلهم عرضة للإصابة باضطرابات نفسية كالاكتئاب وغيره".
تضيف خوري أنّ "الأمور تزداد تعقيداً في حالة المهاجرين العرب تحديداً، بسبب سياسات الولايات المتحدة الخارجية في الشرق الأوسط والعلاقة المعقّدة مع بلدانه. ولأنّ أخبار الشرق الأوسط والعالم العربي التي تتصدّر وسائل الإعلام الغربية والأميركية تسطّح في أحيان كثيرة ما يحدث ولا تعرض نظرة نقدية إلى سياسات الولايات المتحدة بما فيها دعمها لسياسة الاحتلال الإسرائيلي واحتلالها العراق (2003) ودعمها للأنظمة الدكتاتورية العربية التي أدّت إلى هروب هؤلاء المهاجرين من بلدانهم في معظم الأحيان". وتؤكد خوري أنّ "كل ذلك يجعل العلاقة معقدة، خصوصاً بالنسبة إلى الأجيال المولودة في الولايات المتحدة. ويزيد من تلك الضغوطات التشكيك المستمر الذي يعبّر عنه مجتمع الأغلبية، خصوصاً الفئات اليمينية فيه، حول انتماء الأميركيين من أصول عربية ومسلمة إلى المجتمع الأميركي". وتشير إلى أنّ "التشكيك بولاء أبناء الأقليات لا يقتصر على العرب والمسلمين، لكنّه علنيّ ضدّهم وعلى نطاق أوسع".
"طبيب مجانين"؟
وتزداد الأعباء النفسية التي توجب اللجوء إلى خدمات المتخصصين النفسيين. ربّما الأجيال المولودة في الولايات المتحدة لا تمانع ذلك، غير أنّ الأمر يُعَدّ من التابوهات لدى شرائح واسعة من المولودين في البلدان العربية والمسلمة. يُذكر أنّ ثمّة أشخاصاً قد يُجبَرون على متابعة علاج نفسي للتعامل مع مشكلات عنف أسري أو إهمال أطفال، على خلفيّة أحكام قضائية صادرة بذلك أو استناداً إلى توجيه من قبل السلطات المختصة بحماية الأطفال من العنف ومن تنكيل الأهل في حال ثبت تعرّضهم له.
سمر من أصول مصرية تعيش في نيويورك وتتلقى خدمات اجتماعية ونفسية في أحد مراكز الخدمات الأسرية، تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "أوضاعي المادية لا تسمح لي بتحمّل تكاليف أيّ علاج نفسي، وبصراحة لم يخطر في بالي قط أن أذهب إلى متخصص نفسي، لكنّني أُجبرت على ذلك بسبب مشكلات وعنف تعرّضت له من زوجي، وقد حُوّلت القضية إلى قسم حماية الأطفال في نيويورك بعد شكاوى من الطبيب والمدرسة". تضيف سمر أنّه "في البداية، شعرت بخجل شديد وبأنّني أعاني من خلل ما. فأنا تعرضت للتعنيف من قبل زوجي ورحت أستخدم العنف مع أولادي". وتتابع: "لكنّني مع الوقت وجدت أنّ العلاج والجلسات سمحا لي بأن أفضفض عن مشاكلي بطريقة لم ألجأ إليها حتى مع أهلي. هم يعيشون في مصر، وعلى الرغم من أنّهم يعرفون عن بعض مشكلاتي فإنّني لا أريد إقلاقهم عليّ. وصارت الجلسات تريحني نفسياً، خصوصاً أنّ المتخصص النفسي من مصر ويفهمني". وتلفت سمر إلى أنّها عندما ذكرت لأهلها أنّها تتلقى علاجاً نفسياً "شعروا بقلق شديد. وسألني أبي: ماذا تقصدين بذلك؟ تقصدين طبيب مجانين؟". وتضحك مردفة "بصراحة لا يهمني ما يفكّر به الآخرون. هذه الجلسات ساعدتني على التعامل مع الأطفال والعنف ومنغّصات الحياة بصورة أفضل".
"الحساسية السياسية"
في سياق متصل، يلفت الباحث كاوم ماكينزي من جامعة تورنتو في أكثر من دراسة ومقابلة إعلامية معه حول الصحة النفسية والاكتئاب، إلى أنّ العلاقة بين المعالج النفسي ومتلقي العلاج تؤدّي دوراً في التوصّل إلى تقدّم ملموس في ذلك العلاج، مشدداً على أنّ العلاقة لا تنحصر بمعرفة النظريات النفسية والاجتماعية فحسب بل تتعلق كذلك بحساسية المتخصص النفسي والاجتماعي واطلاعه على ثقافة الشخص الذي يتلقى العلاج بما في ذلك الحساسية السياسية. يضيف أنّه في حال كان الشخص الذي يتلقى العلاج يعاني كذلك من اضطهاد سياسي وتمييز على أساس دينه أو قوميته أو انتمائه الجندري، كالنساء، فإنّه من الضروري أن يعي المتخصّص ذلك على أقل تقدير، ومن الضروري أن يكون قد طوّر حساسية تجاه تلك المواضيع ومعرفة تأثيرها على الأوضاع النفسية والاضطرابات المختلفة.
من جهتها، تقول خوري إنّ "أشخاصاً كثيرين يقصدونني للعلاج يتحدّرون من أصول عربية أو مسلمة أو مهاجرة، لأنّهم يفضّلون اللجوء إلى معالج من الأقليات. بذلك لا يضطرون إلى الشرح عن أنفسهم كثيراً ولا عن الأعباء النفسية أو الاضطرابات التي يعانونها، فضلاً عن الآراء المسبقة التي قد يحملها المتخصص في حال كان ينتمي إلى مجتمع الأغلبية أو إلى الفئة التي تضطهد من ينتمي إليهم متلقي العلاج". وتؤكد خوري كذلك أنّ "العنصرية والتمييز الجندري وغيرهما إلى جانب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، من شأنها أن تزيد من القلق والتوتّر ومن الضغوطات النفسية عموماً، وبالتالي تزيد من احتمال إصابة الأشخاص باضطرابات نفسية".
وتشدّد خوري على "ضرورة التمييز ما بين الاضطرابات النفسية كحالات مرضيّة وبين الضغوط النفسية التي يتعرّض لها كل شخص والتي لا تنتهي باضطرابات نفسية". وتتابع خوري أنّه "على الرغم من وجود عدد لا بأس به من المتخصصين النفسيين من أصول عربية في مناطق أميركية من قبيل نيويورك، فإنّ ثمّة تحديات أخرى تكمن في تكلفة العلاج النفسي الباهظة جداً والتي لا يغطيها التأمين الصحي إلا جزئياً، هذا في حال كان الشخص مؤمّناً. ملايين الأميركيين ما زالوا من دون تأمين صحي". وتشير خوري إلى أنّ "مراكز عدّة تقدّم خدمات اجتماعية تواجه تحديات من جهتها تتعلّق بتشغيل متخصصين نفسيين، لأنّ البدل المادي الذي تقدمه لهم في الغالب لا يساوي نصف ما يمكنهم الحصول عليه في عياداتهم الخاصة. وهذا كله يعني أنّ العائلات الفقيرة والمهاجرة والمعرّضة لضغوطات نفسية واجتماعية أكثر من غيرها بسبب اضطهادها على المستوى الاقتصادي وكذلك الاجتماعي والتعليمي، تجد صعوبة أكبر في الحصول على مساعدة لأبنائها الذين يعانون من اضطرابات نفسية وهم بأشدّ الحاجة إلى تلك المساعدة تحت طائلة دخولهم في دوّامة يصعب الخروج منها".