وسط الفوضى الأمنية والفلتان الإداري وضعف الرقابة في ليبيا، تعاني صحة المواطن من استهتار واضح تقف خلفه جهات مسؤولة تتبادل الاتهامات حول استيراد أدوية غير فعالة أو منتهية الصلاحية، ما يجعل البحث في القضية من الأولويات العاجلة في البلاد.
ما زالت وزارة الصحة، في حكومة الوفاق الوطني الليبية، تصدر نشرات تحذيرية من استخدام أدوية أو مكملات غذائية خاصة بالأطفال، وتأكيداتها على عدم مطابقتها مواصفات الاستهلاك، من دون أن تكشف الوزارة أو الجهات الرقابية أسباب وصول هذه المنتجات إلى الأسواق، ومن المسؤول عن وجودها بين أيدي المواطنين.
في آخر تحذيراتها، دعت الوزارة المواطنين إلى الامتناع عن استخدام حليب أطفال نوع "موديلاك" مؤكدة أنّه ملوث ببكتيريا "سالمونيلا". قبل ذلك، طالبت المواطنين، في نشرة أخرى، بـ"التوقف عن استخدام صنفين دوائيين تنتجهما شركة جلفار الإماراتية للأدوية" مطالبة بضرورة سحبهما من الصيدليات، موضحة أنّ الدواءين هما حبوب "أسبرين" من عيار 81 ملغ، وغسول الفم "زورديل" وذلك لـ"عدم التزام الشركة بتطبيق القواعد الإرشادية لمجلس الصحة بدول مجلس التعاون الخليجي". وفي يوليو/ تموز الماضي دعت الوزارة المواطنين إلى التوقف عن تناول أدوية لعلاج الأورام السرطانية تبين أنّها مزورة وغير فعالة وتؤدي إلى نتائج خطيرة.
يقرّ محمد البقار، المسؤول في إدارة الصيدليات بوزارة الصحة، بوجود أدوية منتهية الصلاحية يجري تداولها بشكل كبير في السوق، لكنّه يرمي بالكرة في ملعب الجهات الرقابية تحديداً الجمارك. يقول لـ"العربي الجديد": "إعلانات الوزارة التي تطالب المواطنين بعدم تناول أدوية معنية تأتي بناء على نشرات تصدرها منظمة الصحة العالمية". يشير إلى أنّ وقف تداول أدوية منتهية الصلاحية يمكن أن تكون خطيرة على صحة الإنسان، هو دور جهات حكومية ورقابية وليس من شأن وزارة الصحة.
لكنّ المكي الطياري، صاحب صيدلية "التعافي" في حيّ رأس حسن في طرابلس، يلقي باللوم على الوزارة ويتهمها بتوفير الأجواء المناسبة للمهربين. يقول الطياري لـ"العربي الجديد" إنّه ربما يتفهم أنّ نشرات الوزارة جاءت بناء على تحذيرات منظمة الصحة، لكن ماذا عن الأدوية المهربة المنتشرة في السوق الليبية؟ يجيب: "بكلّ تأكيد تشتريها الصيدليات لأنّ الوزارة لا توفرها عبر جهاز الإمداد المخول باستيراد الأدوية في البلاد، وبالتالي لا مناص من الشراء من الشركات الخاصة". وعن كيفية تعامل الصيدليات الخاصة مع هذه الشركات، يقول: "هي شركات مرخصة وتستورد الدواء عبر منافذ رسمية وما يصلنا منها نشتريه بعد الاطلاع على ترخيص مركز الرقابة على الأدوية والأغذية".
هذا ما ينفيه فوزي وريث، من فرع مركز الرقابة على الأغذية والأدوية بالخمس (إلى الشرق من طرابلس): "شهادة هذا الصيدلي ليست كافية في اتهام المركز، فهناك أسواق معروفة في طرابلس في حي الدريبي وفي حي باب بن غشير، أغلب تجارها يملكون ترخيصاً، لكنّهم يستوردون الأدوية بعيداً عن رقابتنا، وبالاتفاق مع الفاسدين عبر الجمارك في الموانئ أو الحدود البرية". يشير إلى أنّ أغلب أصناف الدواء الفاسد تصل إلى السوق بالتهريب، ويجري تسويقها في صيدليات معينة. يتابع وريث لـ"العربي الجديد": "دورنا يقتصر فقط على الكشف على نوع الدواء ومقارنته بالمواصفات المعتمدة لدينا بعد أن تدعونا الجمارك لإصدار رخصة له وإذا لم تتم دعوتنا فلن يكون لدينا علم فالتجاوزات كبيرة جداً". يشير إلى أنّ حملات مداهمة نفذها الحرس البلدي كشفت عن أطنان من الأدوية منتهية الصلاحية تباع في الصيدليات الخاصة.
وعلى الرغم من السجال بين الجهات المسؤولة الحكومية ومحاولات إبعاد كلّ جهة الشبهات عنها ونسبها لغيرها، يعتبر إبراهيم الرفاعي، وهو مفتش طبي بإدارة الصيدلة بوزارة الصحة، أنّ المشكلة أساساً تتمثل في قنوات استيراد الأدوية التي توسعت بفعل الانقسام الإداري المتأثر بالفوضى السياسية والأمنية، ما أدى إلى انهيار هذا القطاع تقريباً. ويقول الرفاعي إنّ حديثه إلى "العربي الجديد" عن القضية سيكون أكثر فائدة كمتخصص في مجال الأدوية وصاحب صيدلية خاصة بعيداً عن كونه مسؤولاً في الوزارة: "لدينا حكومياً جهاز الإمداد الطبي، وهو مكلف باستيراد أدوية الأمراض المستعصية واللقاحات السنوية اللازمة للمراكز الصحية الحكومية، ولدينا الشركات الخاصة المرخص لها باستيراد الأدوية للقطاع العام وفق عطاءات (مبالغ مخصصة) ممنوحة من الوزارة". لكنّ هذا التقسيم، بحسب الرفاعي غير كافٍ، معتبراً أنّه أساس لفتح باب التهريب: "العطاءات الممنوحة للشركات الخاصة غير كافية لتغطية احتياجات السوق من جميع أنواع الأدوية على مدار السنة ما يفتح الباب لقبول الصيدليات شراء الأدوية التي لا تستوردها الوزارة من شركات خاصة، أصحابها يعتمدون على التهريب عبر حدود دول الجوار". يضرب الرفاعي أمثلة عن بعض الأدوية المدعومة من حكومات بعض الدول وتكون عادة رخيصة الثمن لكنّها لا تصل في ظروف مناسبة إلى ليبيا، وغالباً ما توزع على الصيدليات في سيارات ثلاجة عادية، غير طبية، لا تتوفر فيها مواصفات التوزيع.
يتابع الرفاعي أنّ الوزارة مشاركة بشكل كبير في تشجيع عمليات التهريب: "المطلوب هو أن تُعطى تلك الشركات التي يهرّب دواؤها بشكل غير قانوني ترخيصاً وتُفتح فروع لها ليسهل التعامل معها بشكل مباشر". يتساءل: "ماذا تفعل الصيدليات بخصوص أدوية لازمة ومهمة كالمسكنات أو حبوب منع الحمل أو المضادات أو أمصال بعض الأمراض السارية والمتوطنة، وكلّها لا توفرها الوزارة؟ بكلّ تأكيد ستشتريها من المهربين ما دام الطلب عليها كبيراً".
من جهته، يلفت الطياري النظر إلى أنّ قضية اليوم عند المواطن هي سعر الدواء وليست جودته. يوضح أنّ "أدوية ضرورية وملحّة جدا كأدوية السرطان متوفرة بأسعار عالية جداً في بعض الصيدليات، وأخرى متوفرة بأسعار أقل، ما سيجبر المريض على طلب الأرخص بسبب ظروفه المالية السيئة من دون النظر في جودته". لكنّه يضيف من خلال تجربته، كونه أسس شركة خاصة لاستيراد الأدوية قبل أن يتوقف أنّه "في الإمكان مقاومة تهريب الأدوية من خلال توفيرها من قبل جهاز الإمداد الطبي ودعم اللازم منها لتخفيض أسعاره، كما أنّ إجراءات عقابية كان معمولاً فيها وتوقفت يتوجب إرجاعها، وتتمثل في معاقبة الصيدلية بحسب قوانين الرقابة السابقة لا الشركات المستوردة، وهو الإجراء الذي حدّ من تهريب الأدوية في السابق". ويلفت إلى أنّ وزارة الصحة فتحت الباب للاستيراد من أي دولة ومن أي شركة ومن المصانع الصغيرة حتى، بينما كانت في السابق لا تسمح بالاستيراد إلاّ من دول معروفة بمسؤوليتها عن شركات إنتاج الأدوية فيها.