لا تتمكن تونس من معالجة نفاياتها الخطرة؛ الصناعية والإلكترونية والكيميائية والطبية وغيرها، بالشكل السليم المطابق للمعايير الدولية، وهو ما يعمّق الأزمتين البيئية والمجتمعية على حدّ سواء
يتجاوز الحجم السنوي للنفايات الخطرة في تونس 6 ملايين ونصف مليون طن، يجري التصرف فيها بطرق مختلفة وسط عجز الدولة عن معالجتها. ويتمّ التخلص من جزء منها في مصباتٍ مراقبة، أو عبر إلقائها عشوائياً في المحيط البيئي، أو برميها في البحر، وهو ما فاقم المشاكل البيئية وضاعف التهديدات على حياة المواطنين.
في تونس أحد عشر مصباً مراقباً تتصرف فيها ثلاث شركات خاصة، إذ تدير شركتان فقط عشرة مصبات، في حين لا تتوفر أرقام رسمية عن عدد المصبات العشوائية الموزعة على كامل مناطق البلاد بالقرب من المجمعات السكنية وفي المحيط البيئي وفي عمق الضواحي والأرياف التونسية، ولم تنجح الأجهزة المختصة التابعة للدولة في إغلاقها او إعادة تأهيلها على أسس علمية بحسب المعايير الدولية، بسبب ضعف الإمكانات المالية وانتشار المصبات وتعددها.
جرى منذ عام 2000 منح 196 رخصة للتصرف بالنفايات الخطرة منها 86 سارية المفعول، بينما انتهت صلاحية 20 رخصة تخص جمع ونقل النفايات نحو مركز التجميع "جرادو". وتبلغ التقديرات السنوية لحجم النفايات الخطرة، بحسب تقرير محكمة المحاسبات، نحو 80 ألف طن من النفايات المدرجة في تصنيف المنظومات (إيكو زيت، والنفايات الكهربائية، والمراكم، والحاشدات المستعملة، والمبيدات التالفة، ونفايات الأنشطة الصحية، ونفايات الفينيل متعدد الكلور ب. س. ب) و300 ألف طن من نفايات الأنشطة البترولية، و212 ألف طن من نفايات الأنشطة الصناعية، و6 آلاف طن من نفايات الفوسفوجيبس (ينتج بشكل جانبي من دون استخدامه، خلال إنتاج الحمض الفوسفوري المستخدم في صناعة الأسمدة)، و2400 طن من النفايات الطبية يجري التخلص منها عن طريق مصالح البلدية كنفايات منزلية، وتظل كمية تفوق 2000 طن من هذه النفايات مجهولة المآل.
تقدر الإحصاءات الرسمية لمحكمة المحاسبات كمية النفايات الخطرة التي يجري إلقاؤها في المحيط البيئي بـ142 ألف طن سنوياً من دون اكتراث بتداعياتها البيئية أو بتكاليف إزالتها التي تقدّر بـ670 مليون دينار تونسي (232 مليوناً و581 ألف دولار أميركي) سنوياً. وتشير المعطيات إلى محدودية التصرف بالنفايات الخطرة بسبب ضعف نسبة التغطية للكمية القابلة للتجميع على المستوى الوطني، وبسبب عوائق تنظيمية تواجه مسالك التجميع إذ تختلف طبيعة النفايات الخطرة بحسب صنفها ودرجة خطورتها.
يقول مقرر "لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام" بالبرلمان التونسي حسن العماري، لـ"العربي الجديد" إنّ كثرة المتدخلين، وضعف التنسيق، وغياب البرمجة المسبقة، وتناثر المسؤوليات بين الوزارات والهياكل والمؤسسات، ومحدودية التصرف في النفايات الخطرة، وغياب الكفاءات اللازمة لمعالجتها هي أبرز أسباب هذا الوضع.
يلفت العماري إلى وجود ثغرات تشريعية وتنظيمية، وعدم استكمال للنصوص القانونية يجعلها لا تتلاءم مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية. ويدعو إلى تعزيز الرقابة على مسالك التجميع وتوسيع تغطية القطاع الصحي بمنظومة التصرف في النفايات الصحية والحرص على استغلال مراكز المعالجة وتأمين المراقبة والمتابعة بالكفاءة المطلوبة من خلال إيجاد الصيغ الكفيلة بالتنسيق بين جميع المتدخلين لتأمين نجاح المراقبة. كذلك، يشدد العماري على ضرورة إحكام التصرف في النفايات الخطرة عبر اتباع معايير واضحة عند تأسيس منظومات التصرف في النفايات الخطرة بهدف زيادة نسب معالجتها.
بالترافق مع ذلك، تتواصل احتجاجات المواطنين بسبب رمي أطنان من النفايات الخطرة في شواطئ قابس وصفاقس وعدة مناطق أخرى. ويشير أهالي قابس إلى أنّ أطناناً من الفوسفوجيبس رميت في البحر بالرغم من قرار الحكومة في 2017 بوقف ذلك.
يعبّر أمين عام جمعية "شاطئ السلام للتنمية المستدامة" محرز الحمروني، في حديث إلى "العربي الجديد" عن استياء أهالي محافظة قابس من التأخير المسجل في معالجة الملف البيئي بقابس، مبيناً أنّ قرارات الحكومة في المجلس الوزاري المنعقد في 29 يونيو/ حزيران 2017 حول هذا الملف ما زالت عالقة بالرغم من مرور سنتين. يطالب الحمروني الحكومة بتحمل مسؤوليتها وبتأسيس لجنة تتكون من أبناء جهة قابس لمتابعة تقدم الإصلاحات وتنفيذ قرارات الحكومة. ويحذر الحمروني من أنّ الوضع البيئي بقابس ازداد تدهوراً وخطورة من جراء التكديس المتواصل لمادة الكادميوم، بمحيط المجمع الكيميائي التونسي على الرغم من الخطورة التي تمثلها هذه المادة.
ويبين الحمروني أنّ الأهالي حاولوا إيصال أصواتهم بكلّ الوسائل والسبل ولم يعد بوسعهم تحمل مزيد من الانتهاكات البيئية المخالفة لأحكام الدستور التونسي. ويدعو الحمروني الحكومة إلى وضع إدارة لمشروع المدينة الصناعية الجديدة للتواصل مع المواطنين وتوضيح كلّ الجوانب المتعلقة بها. ويلفت إلى تبعات ما يفرزه المجمع الكيميائي التونسي من أمراض خطيرة للسكان وتدهور واضح للبيئة وتهديد متواصل للحيوانات والطبيعة.
من جانب آخر، فشل البرلمان التونسي من خلال تدخله لحلّ مشكلة النفايات الخطرة، خصوصاً تفاقم مشكلة الفوسفوجيبس والنفايات التي يجري إلقاؤها في البحر، إذ صادق في أواخر يناير/ كانون الثاني 2018، على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية حول النفايات الخطرة، لكنّها بقيت حبيسة الخلاف بين الكتل، فلم تتشكل اللجنة. واكتفى البرلمان بتنظيم جلسات استماع وحوار حول ملف النفايات الخطرة من دون جدوى، لتنتهي بتسجيل مقترحات وتوصيات لا يجري الأخذ بها، كما ندد نواب جهة صفاقس وقابس وقفصة بزيادة مستوى التلوث في البحر وفي الطبيعة.
وفي هذا السياق، بيّن وزير الصناعة، سليم الفرياني، في مداخلة له أمام البرلمان التونسي، أخيراً أنّ مادة الفوسفوجيبس تعتبر مادة ثانوية تنجم عن عملية إنتاج الحمض الفوسفوري، وتحتوي على نسب من المعادن الثقيلة والحوامض وقد اعتمد المجمع الكيميائي التونسي طريقة تكديسها بالقرب من مصانعه المتواجدة في كلّ من صفاقس والصخيرة وقفصة، وفي المقابل يجري سكبها في خليج قابس. وعلى غرار ما جرى إنجازه بالنسبة لمصب الفوسفوجيبس بمنطقة تبرورة في صفاقس (تغطيته بطبقة ترابية وحزام عازل لمنع تسرب المياه الملوثة)، سيعتمد بعد إغلاق مصب مصنع "السياب" الإجراء نفسه بحسب الفرياني.
وأكد الفرياني أهمية الملف لارتباطه بحماية المحيط وصحة المواطن باعتباره ملفاً تتدخل فيه العديد من الوزارات والمؤسسات، مؤكداً حرص وزارته والمؤسسات التابعة لها على الالتزام بالقوانين المتعلقة بالبيئة في إطار رؤية تحترم الاستدامة، مشيراً إلى أنّ الحكومة أقرت برنامجاً للتأهيل البيئي في مناطق الإنتاج والتحويل، وقد أقرت في 2017 وقف رمي الفوسفوجيبس في البحر، وتبني خيار تأسيس وحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية وتكديس المادة بموقع يجري تحديده بعيداً عن التجمعات السكنية.
كذلك، شدد الوزير على ضرورة تكثيف المراقبة وتفعيل الإجراءات الردعية ضد المخالفين ومراجعة وتحديث النصوص التشريعية والتنظيمية وتعزيز البعد التوعوي في استراتيجية الحوكمة لضمان استدامة التنمية وتفعيل المسؤولية المجتمعية. وأضاف الفرياني أنّه جرى تسجيل عدة مخالفات على مستوى السلامة الصناعية وحماية البيئة والمحيط والوقاية من أخطار الحريق، وذلك إثر الزيارات الميدانية لفرق إدارة السلامة لمراقبة المؤسسات.
يعتبر مراقبون أنّ ضعف الردع القضائي والعقوبات القانونية يتسبب في تفاقم الإلقاء العشوائي للنفايات الخطرة، وتواصل مخالفة الشركات والمؤسسات القوانين، لكنّ السلطات التونسية تعزو ذلك إلى ضعف إمكاناتها المالية والبشرية، ما يدفعها إلى إبرام تعاون وشراكة مع الاتحاد الأوروبي ودول غربية بهدف تعزيز إمكاناتها في المراقبة والسلامة واستدامة التصرف البيئي. ويبلغ عدد مراقبي السلامة البيئية في مجال التصرف في النفايات الخطرة 30 مراقباً، موزعين على 24 فريقاً لا يمكنهم تغطية كامل أراضي البلاد، خصوصاً الأماكن النائية.
بدوره، يقول مدير عام البيئة وحماية المحيط بوزارة الصحة، محمد الرابحي، لـ"العربي الجديد" إنّ إحكام التصرف في النفايات الطبية، يمثل أحد المحاور الاستراتيجية ضمن خطة وزارة الصحة بمختلف مصالحها للحفاظ على السلامة والنهوض بالقطاع الصحي بالتنسيق مع مختلف الهياكل والوزارات المعنية باعتماد منهج الاستباق والوقاية والتوعية مع تبني أسلوب ردعي كلما اقتضت الضرورة. يضيف أنّ الوزارة تولي أهمية للوقاية من التعفنات المرتبطة بالعلاج والمساهمة في التحكم فيها، إذ بلغت نسبة انتشارها بالمؤسسات الاستشفائية العمومية والخاصة 7.2 في المائة. ويلفت إلى أنّ كمية النفايات الطبية في تونس ككلّ تناهز 18 ألف طن في السنة، منها 8 آلاف طن في السنة تصنف نفايات خطرة.