لم تكن المسيرة التي تحركت من منطقة التباريس في الأشرفية باتجاه منطقة الخندق الغميق في محيط وسط بيروت، عصر اليوم السبت، بمشاركة عشرات الأمّهات والسيّدات، مسيرة عادية، فالدعوة جاءت من "تجمّع محبة" تحت شعار "الجار قبل الدار"، رفضاً لمحاولات تقسيم أو تخويف أبناء الشعب الواحد.
وجدّدت النساء خلال المسيرة التعبير عن قدرتهنّ على إسقاط الحواجز الطائفية والمذهبية، وتخطّي العوائق الحزبية والمناطقية على غرار مسيرة المحبة والسلام التي شهدتها ضواحي بيروت، قبل أيام، بين منطقتي عين الرمانة والشيّاح عقب التوترات الأمنية.
وانطلقت النساء المشاركات في المسيرة برفقة الأطفال والرجال من التباريس، على وقع النشيد الوطني، وهتافات "ما بدنا (لا نريد) طائفية. بدنا وحدة وطنية" و"صرخة واحدة قوية. ضد الحرب الأهلية"، ولافتات كُتب عليها "جاري ليس عدوّي"، و"التاريخ لن يعيد نفسه"، و"الفقر والغلاء ما بميّز (لا يميّز) بين المناطق"، و"أمّهات من أجل السلام"، ولافتة حُذفت فيها كلمة حرب لتصبح "حب. كلنا بنفس الخندق".
وعبرت المشاركات جسر الرينغ ممسكات بأيادي بعضهنّ البعض مع الأعلام اللبنانية والورود البيضاء، والجسر اشتهر خلال الحرب الأهلية باعتباره الحدّ الفاصل بين ما كان يُسمّى "شرقية" نسبة إلى المناطق المسيحية، و"غربية" نسبة إلى المناطق الإسلامية، وشهد منذ بدء الانتفاضة الحالية عدة اشتباكات، وبات خط تماس بين المنتفضين والسلطة.
عند مدخل الخندق الغميق، كانت أمّهات وأهالي المنطقة بانتظار سيّدات الأشرفية، والمشاركات والمشاركين القادمين من مختلف المناطق، وسط كلمات ترحيب وتصفيق ونثر ورود، قبل الاصطدام بحاجزٍ بشريّ من شباب المنطقة ارتأى إنهاء المسيرة عند المدخل، حرصًا على عدم تعرّض أيّ من المشاركين أو المشاركات لأي استفزاز من عناصر غير منضبطة، على حدّ قول شباب من المنطقة لـ"العربي الجديد".
غير أنّ إصرار السيدات حال دون التوقف، فكسرن الحاجز وتحدّين الصورة النمطية المأخوذة عن شباب الخندق الغميق، التي تصورهم على أنّهم "زعران" أو "بلطجيّة"، ونجحن في إقناع شباب المنطقة بفتح الطريق أمامهنّ، فعلت الزغاريد بينما كن يكملن مسيرتهنّ في شوارع الخندق، حيث لا تزال الأبنية شاهدة على شظايا المدافع والرصاص منذ الحرب الأهلية اللبنانية.
وقالت مريانا وهبة، إبنة مدينة النبطية المقيمة في التباريس منذ عام 1999، لـ"العربي الجديد": "نحن كأمّهات أقوى من الجميع، وبإمكاننا أن نمون (تكون كلمتنا مسموعة) على الكل. لن نسكت هذه المرة مثلما سكتنا قبل 30 عامًا، فما زلنا ندفع ثمن سكوتنا الذي أدى إلى الحرب الأهلية حتى اليوم. علينا أن نعيش معا، مسلمين ومسيحيّين ودروزًا".
وقالت الجدة والأم ابنة الأشرفية، كارول بابكيان، لـ"العربي الجديد": "مهما حاول الزعماء استغلال أبنائنا في حروبهم وصراعاتهم سنقف لهم بالمرصاد، وسنتحدّى كل المحاولات، ولن نسمح بأن نخسر أبناءنا في فورة غضب تحت أية حجّة".
وقالت حنان نجم من أهالي الخندق الغميق: "لا نريد الخراب للبلد، ولا نريد الحرب الأهلية، فكلنا نعاني من الفقر والجوع، ولن نقبل بأن ينجرّ أبناؤنا نحو الاقتتال. عندي أربعة أولاد، ولن أفرّط بأي منهم".
وأكدت نجاح شقير من أهالي الخندق الغميق: "لن نسمح لأحد أن يشعل الفتنة، فنحن وأبناء الأشرفية وكل لبناني أهل وشعب واحد، ومَن ينزل إلى جسر الرينغ ليفتعل المشاكل ليس منّا، وإنما يريد تأجيج الوضع".
ومع نهاية المسيرة، دعت إحدى أمهات الأشرفية أهالي الخندق الغميق باللهجة المحلية إلى "ردّة الإجر"، في إشارة إلى زيارة الأشرفية بنفس الطريقة، فمازحها العشريني مصطفى، بالقول: "يلا سكروا الطريق لنزوركم"، قبل أن يؤكد لـ"العربي الجديد"، أنّ مشاركة شباب الخندق في اشتباكات جسر الرينغ كانت رفضًا لشتم الزعماء، وأنهم متفقون على أن الجسر للجميع.