"لا يهمني ما يفعل اللاعب بالكرة، بل ما يفعله حينما يفقد الكرة". يتحدث عراب الكرة السوفييتية فاليري لوبانوفسكي عن أهمية التحركات المستمرة في كرة القدم، وكأن صانع أمجاد فريق دينامو كييف رجل سابق لعصره، لأنه عرف جيداً منذ الثمانينيات أن المستقبل في اللعبة سيكون للفراغات وكيفية التحكم فيها، لذلك حاول صناعة أجيال قادرة على التعامل مع قواعد التكتيك الجديدة، وقام بتقسيم المستطيل الأخضر إلى عدة مناطق، حتى يتم التحكّم الكامل في أكبر قدر ممكن من المساحات.
ومن فاليري إلى مارسيلو بييلسا، اللوكو الأرجنتيني الذي صنع لنفسه هالة خاصة جداً، وساهم في صقل موهبة العديد من المدربين الحاليين، وعلى رأسهم بيب جوارديولا ودييجو سيميوني. يقول بييلسا عن الحركة الكروية الخاصة بالمدافعين، "حينما لا تسجل الأهداف، لا تنظر إلى هجومك، عليك بالنظر إلى خط دفاعك، إنهم في الغالب لا يجيدون بناء الهجمة".
ويأتي كلام الثنائي التدريبي العتيق ليؤكّد قيمة الأسماء الدفاعية في تحسين المردود الهجومي الأخير لأي فريق، مع مراعاة استغلال كل متر داخل الملعب، من خلال تحريك الكرات أو استفزاز المنافسين، من أجل فتح الفراغات اللازمة لاستلام وتسليم الكرات في أضيق مربعات الملعب، في ما يُعرف تكتيكياً باسم "أنصاف المسافات" أو الـ Half Spaces.
الأنصاف
إذا قام أحدهم بتقسيم الملعب إلى ثلاثة أجزاء، ستكون النتيجة أقرب إلى جزء في العمق وجزأين على الأطراف، يمين وسط يسار، هكذا تكون أسهل وأبسط إجابة ممكنة لهذا الجانب الرياضي، وأنصاف المسافات هي الفراغات بين كل أطراف الملعب، وكل مناطق العمق عرضياً وطولياً، وبشكل أكثر يُسر، إنه الفراغ الواقع بين الظهير الأيمن وقلب الدفاع، لاعب الارتكاز وزميله في المحور، بين أي ثنائي دفاعي، وبالطبع بين لاعبي الخط الجانبي سواء الظهيرين أو الأجنحة وبين جنود الوسط سواء بالارتكاز الدفاعي أو الوسط المساند.
وتكمن قيمة ضرب هذه الفراغات الصغيرة أثناء المباريات المعقدة، خصوصاً أمام فريق يعود إلى مناطقه ويدافع من خط متأخر، لذلك تكون المساحات المتاحة أمام منافسه صغيرة وضيقة، وتحتاج دائماً إلى مزيد من العمل التكتيكي الشاق. وأبسط مثال على ذلك، الفِرق التي تلعب بطريقة 4-4-2 الضيقة، المتحولة إلى 4-4-1-1، لأنها تغلق النصف الأخير من الملعب بأربعة خطوط خلال مسافة لا تزيد على 30 مترا.
يتم كسر حدة المنافس الصلب بالتحركات المستمرة، وعلى سبيل المثال ينطلق لاعب الوسط الصريح إلى الأطراف قليلاً، حتى يستلم الكرة ويشغل اللاعب المقابل، ثم يعاود التمرير إلى لاعب الارتكاز في العمق، فيفتح زوايا أكبر للتمرير، كذلك من الممكن بناء الهجمات عن طريق الظهيرين، وذلك بتوفير الأماكن المناسبة لحصولهما على الكرة بعيداً عن الخط الجانبي المغلق، وهذا يحدث كثيراً في الموسم الحالي، مع فرق بحجم مدريد، تشيلسي، برشلونة وبايرن ميونخ.
أهداف حاضرة
يرغب المدربون الكبار في الهروب من حصار الخط الجانبي، لأن اللاعب الذي يستلم الكرات على الخط يكون أمامه خياران فقط لا ثالث لهما، إما المراوغة والتلاعب بالكرة، أو التمرير في جانب واحد فقط من الملعب لأن الجانب الآخر سيكون خارج المستطيل تماما،ً بجوار حامل الرابة، وبالتالي يعمل كل "كوتش" على خلق مكان فارغ في العمق، حتى يستلم لاعبه الكرة ويعرف كيف يتصرّف بها، وهذا يأتي فقط بتحركات الرفاق أو بتحريك الكرة لاستمالة المنافس إلى مراكز أخرى رغماً عنه.
خلال مباراة تشيلسي ومانشستر سيتي في القمة الإنجليزية الأخيرة، جاء الفرج عن طريق الظهير إيفانوفيتش، لا هازارد ولا أوسكار ولا أي لاعب آخر، عن طريق تحركات جميع لاعبي تشيلسي، من أجل أن يستلم الصربي الكرة في منطقة بعيدة عن الخط الجانبي، وهذا ما تم بالنص في هدف تشيلسي الأول، يجري ويليان على الجناح الأيمن ويحصل على الكرة، يتحول راميريز لاعب الوسط إلى نفس الطرف، مما يجعل لاعبي السيتي في تركيز أكبر على هذا الثنائي.
ومع تحركات أوسكار المستمرة خلف المدافعين، وبجوار ريمي المهاجم الصريح، ينشغل معظم لاعبي الفريق السماوي بالأسماء المتمركزة على الخط، وفي عمق منطقة الجزاء، ليتم فتح الفراغ المثالي لإيفانوفيتش في أنصاف المسافات تماماً، أي الفراغ الموجود بين الخط ومركز الملعب، ليستلم اللاعب الكرة بكل سهولة وأريحية، ويمررها رائعة داخل المربع الأخير إلى أوسكار ثم ريمي فهدف رائع ومثالي.
الكلاسيكو الأخير
في الكلاسيكو الأخير بين برشلونة وريال مدريد، تقدم الفريق الكتالوني بهدف مبكر من أقدام "الناي" البرازيلي، ليرتكب المدرب لويس إنريكي هفوة لا تغتفر ويعود فريقه بالكامل إلى مناطقه، فتتم محاصرته بشكل كامل في الثلث الأخير من الملعب، حتى احتسب الحكم ضربة جزاء ضد بيكيه، عن طريق العمل غير العادي للبرازيلي الظهير مارسيلو.
وضع أنشيلوتي رودريجز على أقصى الطرف الأيسر، مع معاونة مستمرة من لاعبي الوسط، خصوصاً مودريتش وإيسكو، لينشغل الثنائي داني ألفيش ولاعب الوسط تشافي بالأسماء المنطلقة دائماً على الخط الأيمن، وتحدث صناعة الفراغ على حافة منطقة الجزاء تقريباً للظهير القادم من الخلف إلى الأمام، يحصل مارسيلو على الأفضلية في أنصاف المسافات، ويدخل المنطقة المحرمة، ويحصل على ضربة جزاء تفتح المباراة تماما حتى النهايات.
المدافع اللغز
في نظام جوارديولا التكتيكي الخاص بـ 3-4-3، يلعب الظهير ألابا كمدافع ثالث في الخط الخلفي، مع الدفع بلام وجوتزه في الوسط رفقة تشابي ألونسو، بينما تتحصّن الأطراف بكل من روبين وبرنات، مع مد هجومي مستمر من توماس موللر وليفاندوفيسكي، هكذا هي أفضل تشكيلة ممكنة للفيلسوف في الأليانز أرينا.
يحصل الإسباني برنات على الشحنات المطلوبة على الخط الأيسر من الملعب، ويتم دعمه دائماً من ماريو جوتزه، لاعب الوسط المهاري القادر على تمرير الكرات بذكاء، رفقة اللاعب المتحرك موللر، الألماني، خالق المساحات الذي لا يقف إطلاقاً داخل الملعب، وبالتالي يتم بناء اللعب في كل جانب بنحو ثلاثة لاعبين دفعة واحدة.
هذا العدد الكبير يصنع زيادة عددية سواء على اليمين أو اليسار، ويجعل لاعبي الخصم في موقف دفاعي سيئ، ويأمل بيب في فتح الفراغ اللازم لحركة مباشرة عمودية من ألابا، المدافع الحر الذي ينطلق من دون رقابة من الدفاع إلى أقصى الهجوم، وبالتحديد في الفراغ بين ظهير المنافس وقلب دفاعه، ليتم ضرب أنصاف المسافات بآخر لاعب في رقعة بايرن التكتيكية.
ظل السحرة
يعتمد المدرب لويس إنريكي كثيراً على الظهيرين في الأداء الهجومي للبلاوجرانا هذا العام، لذلك خلال مباراة برشلونة وفياريال بالليجا، كان الثنائي ألفيش وألبا الأكثر لمساً للكرات، البرازيلي برقم 116 لمسة، والإسباني 136، ومع تحوّل ميسي إلى الجناح بعض الشيء، فإن الظهير داني أصبح يلعب في عمق الوسط أثناء الهجوم الكتالوني، وفي الجبهة الأخرى، يحتل نيمار الخط الجانبي بالطول والعرض ويترك فراغات مهمة للقصير ألبا.
وجود ألفيش بالوسط في أكثر من مناسبة أعطى الفريق ثقلا حقيقيا أثناء التحولات، وصنع ثلاثية الهجوم رفقة ميسي وراكيتتش، أما نيمار فتتم مراقبته دائماً بثنائي من اللاعبين، لذلك ينطلق ألبا في أنصاف المسافات من دون رقابة، حتى شاهدنا تمريرات متكررة من ميسي إلى الحر ألبا في معظم المباريات الأخيرة للأحمر والأزرق.
وجود ألفيش وألبا في مناطق متقدمة يُعطي كلاً من ميسي ونيمار زوايا تمرير أكبر، وخيارات عديدة تُربك المدافعين، وبالتالي زادت النجاعة الهجومية عن طريق الموضة التكتيكية الأشهر في الآونة الأخيرة، إنها الـ Half Spaces.