حكاية أولى: بعد مشاهدتهم "سوس اليهودي: صعود وهبوط" (2010) للألماني أوسكار روولر (1959)، في إطار المسابقة الرسمية للدورة الـ 60 (2010) لـ "مهرجان برلين السينمائي"، يدور نقاش بين ثلاثة نقّاد عرب، يدافع أوّلهم عن الفيلم بحماسة شديدة، في مقابل هجوم شرس يشنّه ثانيهم عليه، بينما يحاول ثالثهم إيجاد توازن "منطقي" ما بين جمال الصنعة البصرية البديعة للفيلم نفسه، والفحوى الدرامية المستمرّة في تحقيق إنجازات سينمائية تتناول "المحرقة النازية" لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، مع ما يعنيه هذا من ترويج لفكرة "الضحية اليهوديّ للمجرم النازيّ" (يروي الفيلم حكاية ممثل يهودي يُجبره
جوزف غوبلز على تأدية دور اليهودي سوس في فيلم مصنوع للدعاية النازية).
جوزف غوبلز على تأدية دور اليهودي سوس في فيلم مصنوع للدعاية النازية).
حكاية ثانية: لم يفز السينمائي الأميركي ستيفن سبيلبيرغ (1946) بأي جائزة "أوسكار" خلال مساره المهنيّ، إلاّ عند إنجازه "لائحة شندلر" (1993)، الذي ـ بفضله ـ ينتزع 7 جوائز في فئات مختلفة من أصل 9 ترشيحات، أبرزها في فئتي أفضل فيلم وأفضل إخراج. السبب؟ فيلم يستند إلى قصّة صناعي مسيحي ألماني يدعى أوسكار شندلر، يُنقذ نحو 1100 يهوديّ من الترحيل إلى أفران الغاز النازية، مروية في كتاب بالعنوان نفسه للأوسترالي توماس كينيلّي (1935)، صادر في العام 1982.
هول الجريمة
حكايتان تختصران واقع صناعة سينمائية غربية، تنهل من "المحرقة" كمّاً هائلاً من الأفلام، التي تكشف غالبيتها الساحقة عن أهوال عديدة للجريمة النازية بحقّ أناس يُساقون إلى أفران الغاز لكونهم يهوداً. صناعة كهذه تغفل الضحايا الآخرين للنازية في الفترة نفسها، وتكاد تطمس كلّ ما يُمكنه أن "يُخفّف" من هول الجريمة بحقّ اليهود. صناعة لا ترى أمامها من جرائم مرتكبة ضد شعوب وأفراد بسبب كونهم شعوباً وأفراداً، ينتمون إلى دين/ طائفة/ مذهب معيّن، أو إلى إثنية ما، إلاّ اليهود، الذين يُقتلون بسبب دينهم، وهذا بحدّ ذاته جرم. لكن القرن الـ 20 معروفٌ بمحطّات دموية لا تقلّ بشاعة وهولاً وعنفاً وتصفية جسدية ومعنوية لفئات كبيرة من الناس، ضمن ما يُمكن تسميته بـ "جرائم عنصرية"، بعضها يكاد يكون "أخطر" من الجريمة النازية، إن لم يكن مثلها على الأقلّ.
صحيح أن العالم يتغيّر، وأن أفلاماً عربية وكردية وغربية تذهب إلى التفاصيل الإنسانية المخبّأة في ثنايا الجراح الكبيرة للشعوب والأفراد، مفردة لهم مساحات سينمائية تجمع بُعداً بصرياً رائعاً، بمعالجة درامية لا تخرج عن الإنسانيّ ولا تقع في البكائيات غالباً. ولعلّ "القطع" للألماني تركي الأصل، فاتح آكين، يُشكّل نموذجاً سينمائياً، باختياره أحد فصول مذابح الأرمن، محوّلاً إياها إلى ملحمة سينمائية جميلة، ومتينة الصنعة، من دون أن ننسى تلك الأفلام التي تؤكّد مكانتها البصرية والدرامية بجدارة في المشهد الدولي، منصبّة على فلسطين وناسها، وعلى معاناتهم وأحوالهم وانفعالاتهم، يصنعها فلسطينيون متمكّنون من أدوات الاشتغال السينمائي المتحرّر من كل خطابية أو ثرثرة.
اقرأ أيضًا: حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين
لن تتوقّف صناعة "أفلام المحرقة" عن تحقيق "روائع" بصرية تمرّر في طياتها ـ مباشرة أو مواربة ـ خطاباً واحداً لن تحيد عنه: اليهودي، وحده من دون غيره من البشر، هو الضحية الأولى والأخيرة للنازي، وما على أوروبا والغرب والعالم إلاّ الاستمرار في دفع ثمن جريمة أدولف هتلر وأعوانه بحقّهم "إلى أبد الآبدين". تحقيق أفلام كهذه، مهما تكن جميلة ومهمّة سينمائياً، يبقى سيفاً مسلّطاً على أوروبا والغرب والعالم، بقولها للجميع: "انظروا إلى أعمال أجدادكم وآبائكم بحقّنا. عليكم أنتم أن تدفعوا الثمن دائماً".
بالعودة إلى الحكايتين، فإن الأولى بينهما تعكس انشقاقاً في النظرة النقدية العربية إلى المسألة، بين "متطرِّفين" اثنين في نمط التفكير والمقاربة، يتواجهان بحدّة، لأن أحدهما متحمّس للسينما على حساب الرسائل الخبيثة المبثوثة في طياتها، ولأن ثانيهما منفضّ بشكل كامل عن هذه السينما تحديداً، لأن فيها رسائل خبيثة، من دون أدنى التفاتٍ إلى الجانب الفني في الصُنعة. أما السعي إلى التوفيق بين الجانبين الجمالي والدرامي، فلن يعثر على مكانٍ له في نقاش كهذا. حكاية سبيلبيرغ تكشف إحدى حقائق العمل الهوليوودي: فللسينمائي حضور اقتصادي ـ صناعي ـ تجاري كبير عبر إنجازه أفلاماً تُحقّق مئات ملايين الدولارات، لكنه لا يجد درباً إلى "أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية"، للحصول على إحدى أبرز الجوائز السينمائية في العالم، إلاّ عندما يُحقّق فيلماً عن المحرقة.
اقرأ أيضًا: السينمائي البريطاني كن لوش يقاطع أسرائيل ثقافيًا وأكاديميًا
جديد المحرقة
هذا كلّه ناتجٌ عن الضجّة الإعلامية والصحافية ـ بالإضافة إلى كتابات نقدية وفلسفية واجتماعية ـ القائمة في أوروبا، منذ الدورة الـ 68 (2015) لمهرجان "كان"، والمتجدّدة مع إطلاق العروض التجارية في أكثر من مدينة أوروبية قبل نحو أسبوعين، لفيلم "ابن شاول" (2015)، أول روائي طويل للهنغاري الشاب لازلو نيميس (1977). ضجّة مائلة إلى الإيجابي "المطلق"، معطوفة على "بركة" الفرنسي كلود لانزمان (1925)، مخرج الفيلم الوثائقي الأشهر "المحرقة" (1985)، الذي يُهاجم "لائحة شيندلر" معتبراً إياه "غير منصفٍ" بحقّ اليهود، "محيّياً" فيلم لازلو نيميس بشكل كبير. "ابن شاول" مختلف، إلى حدّ كبير، عن معظم "أفلام المحرقة"، لاختياره منحى آخر في مقاربة المسألة: رجل يهودي يُدعى شاول (تمثيل كاتب وشاعر هنغاري يُدعى غيزا روريغ)، يُفرَض عليه العمل في فرقة "سوندركوموندو"، التي يُنشئها النازيون من رجال يهود، مكلّفين إياهم بمواكبة يهود مُساقين إلى أفران الغاز في "أوشفيتز"، ويعملون على ترتيب أوراقهم وملابسهم بعد "ترحيلهم" إلى الموت، ويُنظّفون الأمكنة كلّها استعداداً لاستقبال "وفود" أخرى. الكاميرا ترافقه بتحرّكاته كلّها، ولا تُظهر الجريمة إلاّ عبر اشتغال فني على الصوت، مع لمحات سريعة وغير واضحة تماماً عن جثثٍ، أو عن أشخاص ذاهبين إلى حتفهم. فالهمّ الأساسي للمخرج كامنٌ في عدم إظهار الجريمة ومعالمها مباشرة، بل في دفع المُشاهدين إلى عيش الحالة كلّها عبر الصوت، كما عبر شاول نفسه، الذي يعثر على مراهقٍ لم يمت في أحد أفران الغاز، ويتابع بعينيه كيف أن طبيباً ـ ضابطاً نازياً يخنقه. يريد أن يدفنه بحسب التعاليم اليهودية، فيبحث عن حاخام ليتلو عليه صلاة دينية يهودية تقليدية، علماً بأنه يقول أمام زملائه إن المراهق "ابنه"، من دون إظهار أي شيء لتأكيد هذا.
لا شكّ في أن صناعة الفيلم مبهرة، لبراعة التصوير والتوليف والمعالجة المتحرّرة من الأفعال الجرمية المباشرة كما من كل بكائية فجّة، والذاهبة إلى ما هو مختلف و"أهمّ" بالنسبة إلى لازلو نيميس: محاولة تحصين ما تبقى من حسّ إنساني في ذوات أفراد يهود يعملون كـ "آلات" بأيدي النازيين، ويصطدمون بعضهم ببعض، ويحاولون ابتزاز بعضهم البعض، بحثاً عن أي سبيل ممكن للنجاة. في مقابل هذا، لا يُمكن التغاضي عن جوانب مبطّنة، لن يراها غربيون كثيرون، ربما لأنهم لا يريدون رؤيتها أو لأنهم لا يعرفون كيفية رؤيتها: اليهود الذين هم ضحايا المجرم النازي، يتحوّلون إلى أشباه النازي نفسه جاعلين أساليبه الجُرمية أدواتٍ مستخدمة بحقّ الفلسطينيين. اليهود، الذين يظهرون بأحاسيس إنسانية ما، هم أنفسهم الذين يُنجبون يهوداً لا يملكون ذرّة واحدة من أي حسّ إنساني أمام الفلسطيني. اليهود الذين يوافقون على الخضوع للنازيّ في فعل جرمي بحقّ أبناء دينهم وملّتهم، لن يكونوا سوى "أجدادٍ" ليهودٍ يمارسون أبشع أنواع العنصرية والتصفيات الجسدية والمعنوية والثقافية والإنسانية بحقّ فلسطين والفلسطينيين.
لا يُمكن التغاضي عن الجماليات السينمائية في "ابن شاول". هذا أمرٌ متعلّقٌ بنقد سينمائي يرى الجماليات، من دون أن تتوصّل هذه الأخيرة إلى حجب هول الخبث المبطّن في "أفلام المحرقة". فكما أن "سوس اليهودي: صعود وهبوط" لأوسكار روولر يمتلك براعة باهرة في مزجه جمال الصورة والاشتغال السينمائي برسائل مبطّنة لا تخلو من خبث، تتناول واقع أن اليهودي ضحية دائمة؛ وكما أن ستيفن سبيلبيرغ يُبدع في صناعة فيلمه "الشخصيّ" عن المحرقة عبر "لائحة شندلر"، جامعاً الجانبين معاً في فيلم واحد (جمال الصورة وخبث الرسائل)؛ وكما أن معظم "أفلام المحرقة" قادرة على إثارة انبهار بصري لن يمنع رؤية المخبّأ، وهو فظيع وقاس؛ هكذا يأتي "ابن شاول" ليقول، مُجدّداً، إن الدم اليهودي قابلٌ للاستغلال، وإن الضحية اليهودية ستبقى حاضرة في الوعي الغربي (الأوروبي تحديداً)، وإن جمال السينما سيُستخدم من أجل الترويج الدائم لفعل جُرميّ ارتكبه نازيون بحقّ اليهود "فقط"، ومن أجل القول الدائم بأن اليهودي "ضحية"، وإن المستوى الفني ـ التقني الجميل لن يحجب ما "بين السطور"، وهو واضح: ليس اليهود وحدهم ضحايا النازيين، وليسوا هم وحدهم ضحايا جرائم عنصرية، وليسوا هم وحدهم ضحايا التاريخ والعالم، مهما يصنعون من أفلام عن "المحرقة النازية".
(كاتب لبناني)
هول الجريمة
حكايتان تختصران واقع صناعة سينمائية غربية، تنهل من "المحرقة" كمّاً هائلاً من الأفلام، التي تكشف غالبيتها الساحقة عن أهوال عديدة للجريمة النازية بحقّ أناس يُساقون إلى أفران الغاز لكونهم يهوداً. صناعة كهذه تغفل الضحايا الآخرين للنازية في الفترة نفسها، وتكاد تطمس كلّ ما يُمكنه أن "يُخفّف" من هول الجريمة بحقّ اليهود. صناعة لا ترى أمامها من جرائم مرتكبة ضد شعوب وأفراد بسبب كونهم شعوباً وأفراداً، ينتمون إلى دين/ طائفة/ مذهب معيّن، أو إلى إثنية ما، إلاّ اليهود، الذين يُقتلون بسبب دينهم، وهذا بحدّ ذاته جرم. لكن القرن الـ 20 معروفٌ بمحطّات دموية لا تقلّ بشاعة وهولاً وعنفاً وتصفية جسدية ومعنوية لفئات كبيرة من الناس، ضمن ما يُمكن تسميته بـ "جرائم عنصرية"، بعضها يكاد يكون "أخطر" من الجريمة النازية، إن لم يكن مثلها على الأقلّ.
صحيح أن العالم يتغيّر، وأن أفلاماً عربية وكردية وغربية تذهب إلى التفاصيل الإنسانية المخبّأة في ثنايا الجراح الكبيرة للشعوب والأفراد، مفردة لهم مساحات سينمائية تجمع بُعداً بصرياً رائعاً، بمعالجة درامية لا تخرج عن الإنسانيّ ولا تقع في البكائيات غالباً. ولعلّ "القطع" للألماني تركي الأصل، فاتح آكين، يُشكّل نموذجاً سينمائياً، باختياره أحد فصول مذابح الأرمن، محوّلاً إياها إلى ملحمة سينمائية جميلة، ومتينة الصنعة، من دون أن ننسى تلك الأفلام التي تؤكّد مكانتها البصرية والدرامية بجدارة في المشهد الدولي، منصبّة على فلسطين وناسها، وعلى معاناتهم وأحوالهم وانفعالاتهم، يصنعها فلسطينيون متمكّنون من أدوات الاشتغال السينمائي المتحرّر من كل خطابية أو ثرثرة.
اقرأ أيضًا: حكايات الحرب الأهلية اللبنانية بألسنة مقاتلين مسيحيين
لن تتوقّف صناعة "أفلام المحرقة" عن تحقيق "روائع" بصرية تمرّر في طياتها ـ مباشرة أو مواربة ـ خطاباً واحداً لن تحيد عنه: اليهودي، وحده من دون غيره من البشر، هو الضحية الأولى والأخيرة للنازي، وما على أوروبا والغرب والعالم إلاّ الاستمرار في دفع ثمن جريمة أدولف هتلر وأعوانه بحقّهم "إلى أبد الآبدين". تحقيق أفلام كهذه، مهما تكن جميلة ومهمّة سينمائياً، يبقى سيفاً مسلّطاً على أوروبا والغرب والعالم، بقولها للجميع: "انظروا إلى أعمال أجدادكم وآبائكم بحقّنا. عليكم أنتم أن تدفعوا الثمن دائماً".
بالعودة إلى الحكايتين، فإن الأولى بينهما تعكس انشقاقاً في النظرة النقدية العربية إلى المسألة، بين "متطرِّفين" اثنين في نمط التفكير والمقاربة، يتواجهان بحدّة، لأن أحدهما متحمّس للسينما على حساب الرسائل الخبيثة المبثوثة في طياتها، ولأن ثانيهما منفضّ بشكل كامل عن هذه السينما تحديداً، لأن فيها رسائل خبيثة، من دون أدنى التفاتٍ إلى الجانب الفني في الصُنعة. أما السعي إلى التوفيق بين الجانبين الجمالي والدرامي، فلن يعثر على مكانٍ له في نقاش كهذا. حكاية سبيلبيرغ تكشف إحدى حقائق العمل الهوليوودي: فللسينمائي حضور اقتصادي ـ صناعي ـ تجاري كبير عبر إنجازه أفلاماً تُحقّق مئات ملايين الدولارات، لكنه لا يجد درباً إلى "أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية"، للحصول على إحدى أبرز الجوائز السينمائية في العالم، إلاّ عندما يُحقّق فيلماً عن المحرقة.
اقرأ أيضًا: السينمائي البريطاني كن لوش يقاطع أسرائيل ثقافيًا وأكاديميًا
جديد المحرقة
هذا كلّه ناتجٌ عن الضجّة الإعلامية والصحافية ـ بالإضافة إلى كتابات نقدية وفلسفية واجتماعية ـ القائمة في أوروبا، منذ الدورة الـ 68 (2015) لمهرجان "كان"، والمتجدّدة مع إطلاق العروض التجارية في أكثر من مدينة أوروبية قبل نحو أسبوعين، لفيلم "ابن شاول" (2015)، أول روائي طويل للهنغاري الشاب لازلو نيميس (1977). ضجّة مائلة إلى الإيجابي "المطلق"، معطوفة على "بركة" الفرنسي كلود لانزمان (1925)، مخرج الفيلم الوثائقي الأشهر "المحرقة" (1985)، الذي يُهاجم "لائحة شيندلر" معتبراً إياه "غير منصفٍ" بحقّ اليهود، "محيّياً" فيلم لازلو نيميس بشكل كبير. "ابن شاول" مختلف، إلى حدّ كبير، عن معظم "أفلام المحرقة"، لاختياره منحى آخر في مقاربة المسألة: رجل يهودي يُدعى شاول (تمثيل كاتب وشاعر هنغاري يُدعى غيزا روريغ)، يُفرَض عليه العمل في فرقة "سوندركوموندو"، التي يُنشئها النازيون من رجال يهود، مكلّفين إياهم بمواكبة يهود مُساقين إلى أفران الغاز في "أوشفيتز"، ويعملون على ترتيب أوراقهم وملابسهم بعد "ترحيلهم" إلى الموت، ويُنظّفون الأمكنة كلّها استعداداً لاستقبال "وفود" أخرى. الكاميرا ترافقه بتحرّكاته كلّها، ولا تُظهر الجريمة إلاّ عبر اشتغال فني على الصوت، مع لمحات سريعة وغير واضحة تماماً عن جثثٍ، أو عن أشخاص ذاهبين إلى حتفهم. فالهمّ الأساسي للمخرج كامنٌ في عدم إظهار الجريمة ومعالمها مباشرة، بل في دفع المُشاهدين إلى عيش الحالة كلّها عبر الصوت، كما عبر شاول نفسه، الذي يعثر على مراهقٍ لم يمت في أحد أفران الغاز، ويتابع بعينيه كيف أن طبيباً ـ ضابطاً نازياً يخنقه. يريد أن يدفنه بحسب التعاليم اليهودية، فيبحث عن حاخام ليتلو عليه صلاة دينية يهودية تقليدية، علماً بأنه يقول أمام زملائه إن المراهق "ابنه"، من دون إظهار أي شيء لتأكيد هذا.
لا شكّ في أن صناعة الفيلم مبهرة، لبراعة التصوير والتوليف والمعالجة المتحرّرة من الأفعال الجرمية المباشرة كما من كل بكائية فجّة، والذاهبة إلى ما هو مختلف و"أهمّ" بالنسبة إلى لازلو نيميس: محاولة تحصين ما تبقى من حسّ إنساني في ذوات أفراد يهود يعملون كـ "آلات" بأيدي النازيين، ويصطدمون بعضهم ببعض، ويحاولون ابتزاز بعضهم البعض، بحثاً عن أي سبيل ممكن للنجاة. في مقابل هذا، لا يُمكن التغاضي عن جوانب مبطّنة، لن يراها غربيون كثيرون، ربما لأنهم لا يريدون رؤيتها أو لأنهم لا يعرفون كيفية رؤيتها: اليهود الذين هم ضحايا المجرم النازي، يتحوّلون إلى أشباه النازي نفسه جاعلين أساليبه الجُرمية أدواتٍ مستخدمة بحقّ الفلسطينيين. اليهود، الذين يظهرون بأحاسيس إنسانية ما، هم أنفسهم الذين يُنجبون يهوداً لا يملكون ذرّة واحدة من أي حسّ إنساني أمام الفلسطيني. اليهود الذين يوافقون على الخضوع للنازيّ في فعل جرمي بحقّ أبناء دينهم وملّتهم، لن يكونوا سوى "أجدادٍ" ليهودٍ يمارسون أبشع أنواع العنصرية والتصفيات الجسدية والمعنوية والثقافية والإنسانية بحقّ فلسطين والفلسطينيين.
لا يُمكن التغاضي عن الجماليات السينمائية في "ابن شاول". هذا أمرٌ متعلّقٌ بنقد سينمائي يرى الجماليات، من دون أن تتوصّل هذه الأخيرة إلى حجب هول الخبث المبطّن في "أفلام المحرقة". فكما أن "سوس اليهودي: صعود وهبوط" لأوسكار روولر يمتلك براعة باهرة في مزجه جمال الصورة والاشتغال السينمائي برسائل مبطّنة لا تخلو من خبث، تتناول واقع أن اليهودي ضحية دائمة؛ وكما أن ستيفن سبيلبيرغ يُبدع في صناعة فيلمه "الشخصيّ" عن المحرقة عبر "لائحة شندلر"، جامعاً الجانبين معاً في فيلم واحد (جمال الصورة وخبث الرسائل)؛ وكما أن معظم "أفلام المحرقة" قادرة على إثارة انبهار بصري لن يمنع رؤية المخبّأ، وهو فظيع وقاس؛ هكذا يأتي "ابن شاول" ليقول، مُجدّداً، إن الدم اليهودي قابلٌ للاستغلال، وإن الضحية اليهودية ستبقى حاضرة في الوعي الغربي (الأوروبي تحديداً)، وإن جمال السينما سيُستخدم من أجل الترويج الدائم لفعل جُرميّ ارتكبه نازيون بحقّ اليهود "فقط"، ومن أجل القول الدائم بأن اليهودي "ضحية"، وإن المستوى الفني ـ التقني الجميل لن يحجب ما "بين السطور"، وهو واضح: ليس اليهود وحدهم ضحايا النازيين، وليسوا هم وحدهم ضحايا جرائم عنصرية، وليسوا هم وحدهم ضحايا التاريخ والعالم، مهما يصنعون من أفلام عن "المحرقة النازية".
(كاتب لبناني)