إذا كانت البحرين قد منحتنا شاعرًا فذًا هو قاسم حداد، فإنها قد منحتنا أيضًا فنانًا من طينة خاصة هو عبد الرحيم شريف. صحيح أن الصحراء مدعاة للبوح الشعري، واللغة فيها بمجازاتها وتجريداتها استدعاء للفراغ وللبطحاء كما للتيْه. بيد أن الخصائص نفسها في مجال التشكيل البصري مدْعاة لفورة الألوان والأشكال، كما لاستكناه المدى وغبار الصحراء.
الصحراء تثير فينا حب الصور. وربما أيضًا لهذا السبب تم تحريم التصوير. فقدرته الباهرة على أسْر الخيال والحواس لا يمكن إلا أن يحسها عبد الرحيم، ذلك الصبي ابن المنامة، وسليل مالك تاكسيات، الذي كان مغرمًا بصور اللوحات التي تزين علب الشوكولاتة.
بيد أن عبد الرحيم كان شاطرًا، قدر أن يترجم عشقه إلى ممارسة؛ فتدبر أمره لابتياع مواد الصباغة، وحاكى الأجانب الذين يعرضون لوحاتهم للبيع. ومن لوحة لأخرى، ومن منظر أو شخصية لأخرى، لم يلبث عبد الرحيم أن أتقن الموضوعات، فصار يبيع ما يرسم من لوحات، محققًا بذلك رهانه الذي بنى عليه طموحاته.
اقرأ أيضًا: منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
إنه من الفنانين القلائل من الخليج العربي الذين درسوا في مدرسة الفنون الجميلة بباريس. فعائق اللغة الفرنسية كان يقف حجر عثرة في وجه الاندماج في المجتمع الفرنسي وفنه. غير أن عبد الرحيم كان يحمل حلمًا أكثر متانة من اللغة وممارسة متجذرة في كيانه، جعلته يتابع هذا التكوين الذي أراده مكملًا لمسيره الذي حمله معه من البحرين. وحين جلس إلى طاولة الدرس هناك، سأله أستاذ الرسم بواسطة زميلة له تكلفت بالترجمة (إذ كان لا يزال حديث العهد بالبلد واللغة) ما الذي تنتظره من الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة؟ فأجاب الشاب الطموح بنوع من السذاجة: "كي أصير فنانًا وأبدأ من الصفر"، وهو يضرب بالقلم على الصفحة. فأجابه الأستاذ: "إذا كنت تريد ذلك فقد أخطأت في العنوان، لكن إذا أصررْت على ذلك فعليك أن تعرف أين تضع هذه النقطة".
وكذلك كان.
تعرفتُ إلى عبد الرحيم شريف في الشارقة إبان معرض مائة عام من الفن العربي. وقد زرته في مرسمه واصطحبت معي صديقي الناقد والكاتب الفرنسي المعروف جان كلارانس لامبير Jean Clarence Lambert، الخبير بالفن العربي. كانت الزيارة مناسبة للوقوف على عوالم الفنان وتحولاتها. وعوالمه تجعله يجترح لنفسه مكانًا خاصًا في الفن العربي، سواءً ببعده عن القضايا التقليدية للفن الخليجي (الحروفية وغيرها)، أمْ بانطلاقه من مبدأ عالمية الفن قبل محليته. وهي وجهة نظر أعسر على الإقناع، غير أنها أكثر خصوبة، من مناحٍ كثيرة، من الاختيار المعاكس الذي يتطلب ممارسة لعبة مشاكسة مع الهوية والآخر.
اقرأ أيضًا: خليل الغريب، الفنان الذي يخيط الزمن
عبد الرحيم شريف، خلافًا للكثير من الفنانين من أبناء جيله، فنان ينغمس في الألوان، يصطاد فيها نبراته ويحاور من خلالها مخيلته الفضائية. إنه بذلك يحول فقْر المرئي إلى جِنان للبصر والبصيرة، يؤوله على هوى مكنوناته ورغباته ويحوله إلى فضاء ممكن. بيد أن التلوينية هنا لا تنفصل أبدًا عن مغامرة الشكل لديه، من حيث هي رغبة في الحكي أو في سبْر الكينونة.
الرغبة في العالم تتولّد عنها الرغبة في الحكي. ولذا انتقل الفنان تدريجيًا من الافتتان الكبير بالتجريد، وتوليد المساحات وخلق لغة بصرية صامتة إلى عالم يضج بالمعاني والإفصاح وقول الأشياء في شكل تمْتمْة أو تعْتعة، يريدها أن تكون أسلوبًا وميْسَمًا لعالمه.
في هذه المراوحة بين الصمت الساكن والحكي الضاج بالحيوات والشخصيات، نعيش مع عبد الرحيم "منعطفيْن اثنيْن": الأول يتعلق بتضميد الجرح والثاني بالمرآوية التعبيرية. وهما تحولان عضدا مسلكًا أشبه بالمفارقة لديه، ويصعب أحيانًا الإمساك بتشعباته. فمن جهة تم الاهتمام بـ"الطبيعة الجامدة" وبتعبيرها الأشد رمزية؛ المزهرية المليئة بالأزهار والورود. وهذا الاهتمام ليس "ارتدادًا أو نكوصًا" يعبر عن رفض قاطع للتجريد، بقدر ما هو تعبير صامت ومتنوع عن فقدان فلذة الكبد التي تركت الجرح النرجسي غائرًا. تتناسل المزهريات بألوانها وتتعاظم لتملأ أفق الرؤية، وكأنها هناك لتغْدو بلسمًا يرغب في تحويل الحداد إلى جنة (حديقة) مهداة للقدر. الموت فقْد، والفقد غياب لا يعوض، والجرح أخدود للذكرى.
اقرأ أيضًا: كائنات عباس الصلادي العجيبة
تعتبر هذه العودة للزهور والأوراق ضربًا من الإيقاع المتناسل والحيوي. إنها شجرة الحياة ووردتها وهي تورق سموقًا، كي تغطي على ما يتوارى في الداخل. والحقيقة أن هذا المنعطف التشكيلي ليس موضوعاتيًا بحتًا، لأن آثاره سرت في كامل جسد اللوحة. هكذا صارت أعمال الفنان مرة أخرى تنفلت من التشخيصية لتنحو تدريجيًا نحو التعبيرية. وهو الأمر الذي صار يتبدى واضحًا في الاشتغال على البورتريه والوجوه.
الوجه في التشكيل ليس فقط تشخيصًا وتصويرًا للآخر، ومن خلاله للأنا، إنه أيضًا اختزال لوجود الجسدِ باعتباره صورة، وللوجه باعتباره صورةَ الصورة. بيد أن اللعبة التي يتعاطاها الفنان هنا، تميل أحيانًا إلى تحويل الوجه إلى مساحة قابلة للتقلبات والأعاصير التشكيلية، وتميل أحيانًا أخرى إلى رسم البورتريه كما لو كان بورتريهًا ذاتيًا. هذه اللعبة المرآوية، إن كان بغيتها امتلاك العالم من خلال الوجه والصورة، فإنها تجعل الفنان يخلق تباعدًا بينه وبين ذاته من جهة، وبينه وبين المرجعية والمحاكاة من جهة أخرى.
اقرأ أيضًا: الفن النظيف بدعة أخلاقية
وجوه وبورتريهات عبد الرحيم شريف مليئة بالألغاز، تشكل بمعنى ما تحولات للذات. وكأن الفنان بذلك يمحو صفة التميز بالخلقة ليلحق الوجه بالكينونة وبالإنسية. وفضاءاته تجعلنا نحس بهشاشة الوجود وقدرتنا على اختزاله إلى تفاصيل حية قلية فضائية وجسدية ورمزية.
هكذا تصوغ تجربة عبد الرحيم شريف، بإيقاعها الخاص، شعرية خاصة تنزاح عن المعروف، وتغور في الذاكرة لتجعلها منهلًا لا ينضب. إنها شعرية الألم والتأمل والحزن والمساءلة.
بيد أن عبد الرحيم كان شاطرًا، قدر أن يترجم عشقه إلى ممارسة؛ فتدبر أمره لابتياع مواد الصباغة، وحاكى الأجانب الذين يعرضون لوحاتهم للبيع. ومن لوحة لأخرى، ومن منظر أو شخصية لأخرى، لم يلبث عبد الرحيم أن أتقن الموضوعات، فصار يبيع ما يرسم من لوحات، محققًا بذلك رهانه الذي بنى عليه طموحاته.
اقرأ أيضًا: منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
إنه من الفنانين القلائل من الخليج العربي الذين درسوا في مدرسة الفنون الجميلة بباريس. فعائق اللغة الفرنسية كان يقف حجر عثرة في وجه الاندماج في المجتمع الفرنسي وفنه. غير أن عبد الرحيم كان يحمل حلمًا أكثر متانة من اللغة وممارسة متجذرة في كيانه، جعلته يتابع هذا التكوين الذي أراده مكملًا لمسيره الذي حمله معه من البحرين. وحين جلس إلى طاولة الدرس هناك، سأله أستاذ الرسم بواسطة زميلة له تكلفت بالترجمة (إذ كان لا يزال حديث العهد بالبلد واللغة) ما الذي تنتظره من الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة؟ فأجاب الشاب الطموح بنوع من السذاجة: "كي أصير فنانًا وأبدأ من الصفر"، وهو يضرب بالقلم على الصفحة. فأجابه الأستاذ: "إذا كنت تريد ذلك فقد أخطأت في العنوان، لكن إذا أصررْت على ذلك فعليك أن تعرف أين تضع هذه النقطة".
وكذلك كان.
تعرفتُ إلى عبد الرحيم شريف في الشارقة إبان معرض مائة عام من الفن العربي. وقد زرته في مرسمه واصطحبت معي صديقي الناقد والكاتب الفرنسي المعروف جان كلارانس لامبير Jean Clarence Lambert، الخبير بالفن العربي. كانت الزيارة مناسبة للوقوف على عوالم الفنان وتحولاتها. وعوالمه تجعله يجترح لنفسه مكانًا خاصًا في الفن العربي، سواءً ببعده عن القضايا التقليدية للفن الخليجي (الحروفية وغيرها)، أمْ بانطلاقه من مبدأ عالمية الفن قبل محليته. وهي وجهة نظر أعسر على الإقناع، غير أنها أكثر خصوبة، من مناحٍ كثيرة، من الاختيار المعاكس الذي يتطلب ممارسة لعبة مشاكسة مع الهوية والآخر.
اقرأ أيضًا: خليل الغريب، الفنان الذي يخيط الزمن
عبد الرحيم شريف، خلافًا للكثير من الفنانين من أبناء جيله، فنان ينغمس في الألوان، يصطاد فيها نبراته ويحاور من خلالها مخيلته الفضائية. إنه بذلك يحول فقْر المرئي إلى جِنان للبصر والبصيرة، يؤوله على هوى مكنوناته ورغباته ويحوله إلى فضاء ممكن. بيد أن التلوينية هنا لا تنفصل أبدًا عن مغامرة الشكل لديه، من حيث هي رغبة في الحكي أو في سبْر الكينونة.
الرغبة في العالم تتولّد عنها الرغبة في الحكي. ولذا انتقل الفنان تدريجيًا من الافتتان الكبير بالتجريد، وتوليد المساحات وخلق لغة بصرية صامتة إلى عالم يضج بالمعاني والإفصاح وقول الأشياء في شكل تمْتمْة أو تعْتعة، يريدها أن تكون أسلوبًا وميْسَمًا لعالمه.
في هذه المراوحة بين الصمت الساكن والحكي الضاج بالحيوات والشخصيات، نعيش مع عبد الرحيم "منعطفيْن اثنيْن": الأول يتعلق بتضميد الجرح والثاني بالمرآوية التعبيرية. وهما تحولان عضدا مسلكًا أشبه بالمفارقة لديه، ويصعب أحيانًا الإمساك بتشعباته. فمن جهة تم الاهتمام بـ"الطبيعة الجامدة" وبتعبيرها الأشد رمزية؛ المزهرية المليئة بالأزهار والورود. وهذا الاهتمام ليس "ارتدادًا أو نكوصًا" يعبر عن رفض قاطع للتجريد، بقدر ما هو تعبير صامت ومتنوع عن فقدان فلذة الكبد التي تركت الجرح النرجسي غائرًا. تتناسل المزهريات بألوانها وتتعاظم لتملأ أفق الرؤية، وكأنها هناك لتغْدو بلسمًا يرغب في تحويل الحداد إلى جنة (حديقة) مهداة للقدر. الموت فقْد، والفقد غياب لا يعوض، والجرح أخدود للذكرى.
اقرأ أيضًا: كائنات عباس الصلادي العجيبة
تعتبر هذه العودة للزهور والأوراق ضربًا من الإيقاع المتناسل والحيوي. إنها شجرة الحياة ووردتها وهي تورق سموقًا، كي تغطي على ما يتوارى في الداخل. والحقيقة أن هذا المنعطف التشكيلي ليس موضوعاتيًا بحتًا، لأن آثاره سرت في كامل جسد اللوحة. هكذا صارت أعمال الفنان مرة أخرى تنفلت من التشخيصية لتنحو تدريجيًا نحو التعبيرية. وهو الأمر الذي صار يتبدى واضحًا في الاشتغال على البورتريه والوجوه.
الوجه في التشكيل ليس فقط تشخيصًا وتصويرًا للآخر، ومن خلاله للأنا، إنه أيضًا اختزال لوجود الجسدِ باعتباره صورة، وللوجه باعتباره صورةَ الصورة. بيد أن اللعبة التي يتعاطاها الفنان هنا، تميل أحيانًا إلى تحويل الوجه إلى مساحة قابلة للتقلبات والأعاصير التشكيلية، وتميل أحيانًا أخرى إلى رسم البورتريه كما لو كان بورتريهًا ذاتيًا. هذه اللعبة المرآوية، إن كان بغيتها امتلاك العالم من خلال الوجه والصورة، فإنها تجعل الفنان يخلق تباعدًا بينه وبين ذاته من جهة، وبينه وبين المرجعية والمحاكاة من جهة أخرى.
اقرأ أيضًا: الفن النظيف بدعة أخلاقية
وجوه وبورتريهات عبد الرحيم شريف مليئة بالألغاز، تشكل بمعنى ما تحولات للذات. وكأن الفنان بذلك يمحو صفة التميز بالخلقة ليلحق الوجه بالكينونة وبالإنسية. وفضاءاته تجعلنا نحس بهشاشة الوجود وقدرتنا على اختزاله إلى تفاصيل حية قلية فضائية وجسدية ورمزية.
هكذا تصوغ تجربة عبد الرحيم شريف، بإيقاعها الخاص، شعرية خاصة تنزاح عن المعروف، وتغور في الذاكرة لتجعلها منهلًا لا ينضب. إنها شعرية الألم والتأمل والحزن والمساءلة.