ليس ثمة تعليق أجمل من بين التعليقات التي قيلت بعد رحيل إيف بونفوا، مما كتبته صحيفة لاكَرْوا الفرنسية: "إيف بونفوا: لقد مات الشاعر..."، فعلا، مات الشاعر إيف بونفوا، الذي كان يتصور الكثيرون، من قرائه ومحبيه، أن الموت نسيه، من كثرة انشغاله وحضوره، الذي لا يكل ولا يتعب، في المشهد الشعري والفكري الفرنسي حتى الدقائق الأخيرة التي سبقت رحيله.
عن عمر يناهز 93 سنة رحل الشاعر الفرنسي إيف بونفوا (ولد سنة 1923 في مدينة تُور، وفقد أباه في سن مبكرة، سنة 1936، وهو ما أثّر عليه بقوة إلى درجة الاعتراف: "أرى أبي يبتعد في اتجاه عمله، صامتا، سجين صمته. وأقول في نفسي، أحيانا، بأني كنتُ أريد أن أتحدث نيابة عنه")، تاركاً خلفه أكثر من مائة مُؤلَّف، بين الشعر والدراسة النقدية والمقالة وأيضا الترجمة. والذي ترجم إلى لغات العالم بأسره، ومنها لغتنا العربية، ومنحه بيت الشعر المغربي جائزة الأركانة، ودقّ اسمُهُ على جائزة نوبل، مرات، من دون طائل.
وشتان ما بين أول نصّ له، وهو "حركة وجمود دوف"، سنة 1954، اللافت والمبشّر بما سيكون عليه الرجل في ما بعد، والذي يقول عنه موريس نادو، العملاق الآخر، الذي رحل، قبل سنوات، عن عمر مائة سنة، والذي ساهم عبر مجلته "لاكانزين ليترير" ودار النشر التي تحمل الاسم نفسه، في اكتشاف العشرات من المواهب الفرنسية والأجنبية، بأنه سيأتي يوم لن يتذكر فيها أحدٌ اسمَ الفائز بجائزة الغونكور في تلك السنة، ولكننا سنتذكر حتما هذه المجموعة الشعرية.
وظل إيف بونفوا حتى الرمق الأخير يكتب الشعر، ولعله، في هذه السنة، فقط، منحنا كتابين: شعري، "الوشاح الأحمر"، ودراسات: "الشعر أو الغنوص"، بل وظل وفيّا للشعر، بحيث كرّس حياتَه له، إلى جانب الفلسفة وتاريخ الفن والترجمة، طيلة اشتغاله أستاذا مشاركا في المركز الجامعي في فانسان (ضاحية باريس)، ثمّ نيس، وأخيرا في كوليج دي فرانس.
يبحث إيف بونفوا في شعره عن المكان، وعن المعنى عبر هذا المكان. ولهذا يركّز شعره على البلد، بل وعلى البلد العميق، حيث اللجوءُ إلى الكلمات يتغذّى بمسار أنطولوجي وبمسح المَشاهد. البلد الذي يتحدث عنه إيف بونفوا، هو، في آنٍ واحد، غيرُ موجودٍ وحميميٌّ بشكل غريب، وكل كتبه ومؤلفاته تدفع نحو هذا المسعى، من أجل اللحاق به، إن أمكن، وتثبيته في الكتابة.
ولأن إيف بونفوا عاش القرن العشرين تقريبا، بكل صخبه وإبداعه وصيحاته، فكان لا بد له أن ينجذب، لبعض الوقت، إلى السريالية، لكنه عشقٌ لم يُعمّر طويلاً، وغادرها سنة 1947. وظلّ عشقه الأكبر لـ"شيوخه"، بودلير ونيرفال ومالارميه ورامبو.
يقول إيف بونفوا عن رؤيته للشعر: "صحيح أنه يوجد شعرٌ يمنحنا الانطباع بأنه يخاطب، قبل كل شيء، العقلَ، كما يفعل الفيلسوف، ويبحث عن نفسه بين الأفكار بدل الأشياء. ولكني، مع ذلك، لا أحسُّ به مختلفا عن الشعر الذي أعرّفه بتشديد نظرتنا على الأشياء البسيطة في العالَم، وهذا في حياتنا اليومية. لأن الميتافيزيقا، حتّى في أفضل الأعمال التي تتحدث عنها، ليست، أبدا، تأملا نظريا مجردا، ولكنها الشعور الأوّليّ بالوحدة، وهذه الوحدة مهما حاول سيف Scève أن يسميها بطريقة تبدو مجردة، لكنه رآها تظهر على وجه ديلي Délie، وجه امرأة حقيقية، وبول فاليري Valery، مهما حاول أن يكتب في "المقبرة البحرية" بعض المقاطع الشعرية الأكثر "فلسفية" في الشعر الحديث، فإنه توجد رغبتُهُ المثبتة على البحر الذي سيُلقي نفسَه فيه، في منتصف النهار، وفي عز الشمس. إن ما يجب أن نركّز عليه نظرنا هي قصائد تعرض أنظمة تفكير، فسلفي أو سياسي أو آخر، لم يكتبها من يعيشون في دواخلهم جدل العقل والواقع المحسوس والجسد والرغبات. لقد وُجِدَ شعراء كبار عرضوا مثل هذه الأنظمة الفلسفية، مثل الشاعر لوكريس Lucrèce، ولكنّ قصائدهم ليست شعراً، بسبب هذه الخاصية، بل بسبب ما بقي حيّا في العمق، بسبب تجربتهم المباشرة في الواقع المباشر. ليست لديّ آلهة، ولكن ما يقوله هؤلاء المتدينون عن الله، يبدو لي قابلا للتطبيق على الحياة، التي تحكي عنها الأشجار والأحجار والطرق، بقدر ما تحكي عنها الكائنات التي نحبّها".
وماذا عن العلاقة ما بين الشعري والديني؟ يرى إيف بونفوا أنه "من المفيد، في واقع الأمر، تحديد علاقة الشعري والديني، لأنه بمجرد ما يتم التطرق للأمر حتى تصدُر ردود فعل مُعارِضة، وتُهَمٌ من كل الأنواع، بينما قد لا يتعلق الأمر، في هذا التقارُب، سوى بشيء بسيط جدا، متعلق بما هو طبيعيّ ومباشر في علاقتنا بالعالَم. صحيح أن كلمة "ديني" يمكن أن تخلق سوء فهم، بسبب استخدامها من قبل الكنائس، التي يمكن لَومُها كثيرا، عبر قرون. ومن الطبيعي أن كلمة "ديني" ترنّ بشكل سيئ. وفي ما يخصني، فليس لديّ "أي دين"، كما يقال، ولا أؤمن بأي طبيعة متعالية، ولا بأي شيء آخَر ليسَ مادّة، وفكرة ربّ شخصي تبدو لي، بشكل خاص، أنها تحجُبُ، بشكل غير مفيد، العلاقة الصارمة التي يجب أن تكون لنا مع ذواتنا. على الرغم من أنك قد تتساءل عن السبب الذي يجعلني ألتجئ إلى هذه الكلمة، التي تخلق كثيرا من سوء الفهم، والتي يمكن لي أن أكون أول ضحاياها".
. "هذا الغموضُ جوهريٌّ، وهذا ما يجب الاعتراف به، حتى نُقدّر علاقاته. باختصارٍ، الشعرُ هو ما يستطيع، الآن وفي المستقبل، تحرير التعالي/التراسندنتالية من سطوة الديني، وإعادة توجيه كل هو ديني وإيماني في قلب المجتمع، حتى يصبح كائنا محبّا وراغبا في أن يرسي مع أقربائه هذه العلاقة الممتلئة، والتي هي المودّة.
آباءُ إيف بونفوا من قبيلة الشعراء والفنانين كُثُرٌ، وهو يتحدث عنهم بمحبة وجذل كبيرَين: "وأنا سعيد أن ألتقي بهؤلاء الشعراء والفنانين، بييرو ديلاّ فرانسيسكا أو بوسين أو جياكوميتي أو شكسبير أو بودلير أو رامبو، سعيدٌ بالعيش بالقرب من بعض الأعمال الكبيرة من هذا النوع، لأن هذا يمنحني الثقة والشجاعة".
ألا توجد شبهة اتهام لإيف بونفوا بأنه شاعر "ماضوي" لا يعيش زمنه؟ يجيب: "إن الشعر يخلط العصور، بطريقة أساسية، بسبب كونه يمثل حَدْس حُضورٍ دائم الوجود، يبحث عنه الشعراء بشكل دائم، وهو ما يفسّر لنا لماذا نستطيع قراءة هوميروس، اليوم، بشعور أنه قريب منّا، بغضّ النظر عن كل الاختلافات الناتجة عن تغيّر المجتمع. وأنا لا أرى سوى فوائد وميزات في الاهتمام بالعصور الأخرى، أي إجراء نهر كبير بيننا سيُخصِّبُ الحاضر، الذي يحتاج إلى ذلك. يقول رامبو Rimbaud إنه يجب على المرء أن يكون "حديثا بشكل مطلق"، أي أن يعرف كيف يتخلص من كل هشيم الأيديولوجيات، ولكن لا توجد حداثة حقيقية إلّا إذا عرفت كيف تحافظ على ثراء شِعْر الماضي. لننظر إلى السريالية، لقد أشاحت بوجهها، بشكل قاطع، عن غباء وفظاعات التاريخ الحديث، ولكن الأمر جرى عبر اكتشاف صفٍّ من فنانين وشعراء، من الماضي، بدوا لها خَيرا ممكنا. الشعرُ نهضةٌ (ولادة ثانية) أبديةٌ. والطليعة التي لا تنظر خلفَها لترى إن كان شعراءُ الماضي يقتفونها، تَهْلكُ".
من هم المقربّون من الشاعر؟ يتحدث الشاعر عن المجلة الأدبية Ephémère التي خرجت من رَحم صداقة بينه وبين أندري دو بوشيت، ثم التحق بهما لفيفٌ من الشعراء، منهم لويس-روني دي فوري وجاك دوبين ثم باول تسيلان وميشيل ليريس. ويعدد إيف بونفوا بعض هؤلاء القريبين منه، أندري فرينو وفيليب جاكوتي وبيير-ألبرت جوردان وكريستيان دورتمونت. ولكنه يشدّد على اسم بيير-ألبرت جوردان "الذي مات قبل الأوان. ولم يتمَّ الاعتراف به في كامل أهميته. وإن مؤلَفات مثل "فضائح القشّ" أو "التحية والوداع" تعتبر من أكثر الأعمال التي تنضح بالحقيقة والعمق والتأثير في الشعر الفرنسي المعاصر".
من حواراته
نقدم هنا للقارئ مقتطفات من حوار أجرته مع الشاعر مجلة "Le Monde des Religions" الفرنسية بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2011.
الشاعر رامبو كان يريد تغيير الحياة. أنت من تلاميذ رامبو، فهل غيّر الشعرُ حياتك؟
أشرتُ، من قبل، إلى جزء الحُلم الذي يوجد في الشعر. ومن العبث أن نأمل تحرير الكلمات من محتوياتها المفهومية، التي تختزل العالَم في صُوَر مجردة وناقصة، لأننا سنظل، دائما، دون ما سمّاه رامبو بالحياة الحقيقية. ولكن ما أنجزه رامبو هو تطبيق صفائه ونفاذ بصيرته على هذه الخُدَع التي سقط في فخاخها أملُهُ الأساسي. لقد انتقد طوباوياته الكثيرة وثورته الاجتماعية وخيمياء الفعل، واحدة بعد أخرى، بل وكسّرها، بسبب ما كان يحسّ به، أحيانا، من كبت
واستياء، في اكتشاف أخطائه. وإذا أردنا أن نكون من أتباع رامبو، أي أن نفهم تعاليم رامبو، فعلينا أن نتوجه نحو نفاذ بصيرة رامبو، بدل أن نفرض على أنفسنا إلزامات الامتلاء الفيزيقي والميتافيزيقي، التي تحدث عنها رامبو، مع ذلك، بشكل بليغ. هل غيَّر الشعر حياتي؟ عن طريق مساعدتي على التحرر من الفكر الطوباوي. هذا الشاعر الذي كان يريد منا أن نكون "حديثين، بشكل مطلق" طلب مني أن أصرف وجهي عن الخطاب الساذج لدى الحركات الطليعية، ابتداءً من السريالية، التي أحببتُ شعاراتِها عندما انتهت الحرب (الكونية الثانية).
العالم يهيمن عليه شعور القيامة الغامض. فهل يمنح الشّعرُ أسلحة للمقاومة، من أجل العثور على المنافذ؟
إنه السؤال الكبير، بالطبع. هل نخشى القيامة؟ لكنها أسوأ من خشية. كل العلامات موجودة، هنا، لتبرز أنه إذا لم تتخذ، فورا، القرارات الضرورية، وربما فات الأوان، فإن تَهدُّمَ المناخ وارتكاس الأراضي وتفوّق السكان على المصادر، في الماء، مثلا، والانتشار الفوضوي للصُوَر غير المسؤولة، التي تُربك العقل وتخنق الضمير وتشلّ الحركة، ستجعل البشرية، قبل نهاية هذا القرن (21) تفقد مكانها على الأرض وتتلف في حروب. وهو النقيض، تماما، للأمل الذي يتضمنه الشّعرُ، هذا التصوُّر عن الاتفاق الذي يمكن أن يوحّد ما بين نهائيَّتِنا ومكانها. وإذن هذا السؤال، نعم، بالفعل، يوجد قلق. ما العمل؟ مواصلة إبراز الخير الذي يمكن أن يتضمنه هذا الاتفاق، في هذا الاتفاق البسيط. مواصلة الأمل، مهما كان. مواصلة الاعتقاد بأن الشجرة والطريق جميلان جدا في ضوء الليل، وأن الأمر ليس عبثا، وأن علينا، دائما، مُهمّةُ إبراز هذا الشيء في وضوحه.
تربط، في كثير من الأحيان، ما بين المُقدَّس والشعر من أجل التقريب بينهما، وأيضاً من أجل تمييز أحدهما عن الآخر. فهل الشعرُ، في نظرك، هو الملاذ الأخير للمُقدَّس؟ لقد كتبت عن الفن القوطي وعن روما في زمن النهضة، كما أنك أشرفت على قاموس الميثولوجيات. فما الفضاء المقدس الذي تشعر بأنك أكثر قرباً منه؟
نعم، المقدس. صحيح أنني استخدمت هذه الكلمة، في فترة مبكرة في كتاباتي. ولكني أحتاط اليوم. ولا أحسني قادرا على استخدامها من دون مخاطر سوء فهم يمكن أن يمحو، في نظري، وبشكل كارثي، ما أريد التفكير فيه. لماذا؟ لأنّ ما كنت أعنيه بالمقدس هو، في واقع الأمر، الشيء العادي الموجود بجانبنا، معنا، الشيء الذي نتقاسم به وقتنا على الأرض والذي يريد أن نعترف به كحقيقة مطلقة، كلمة، هذه الأخيرة، هي أيضا بسيطة ولكني أعرف أنها قد تُفهَم بشكل سيئ. المقدس، هذا الكأس الذي نشرب بواسطته. المقدس، الخبز والنبيذ والبيت والمنحدر والغابة القريبة والكائنات التي نحبها والحاضرة. لا شيء دينيّ، كما ترون، لا شيء لكي نضع هذا المقدس في شراكة مع أية أنظمة اعتقاد أخرى، وحين أتحدث عن التعالي في ما يخص هذه الأشياء اليومية، فلأنه، بكل بساطة، يوجد في أدنى هذه الأشياء لا تناهي الخصائص التي تجعلها لا تنفد أمام أية مُحاولة لقولها، إنه تعالٍ بالمقارنة مع الكلام.
ولكني استنتجتُ أن هذا الاستخدام لكلمة "مقدس" لا يمكن فرضه ضد الدلالات التقليدية التي تحيل على ديانات وعلى الاعتقاد. ولم أَعُد إلى هذا الالتباس، لأن الشعر، في نظري، هو ما يلج إلى أعماق فورية ممارَسَة العالَم من أجل تشتيت كل المعتقدات وكلّ الإعلانات عن حقيقة ميتا - حسيّة. الشعرُ، إذا جاز لي محاكاة مالارميه حين يتحدث عن الموسيقى، هو ما يستعيد من الدّين ثروته، والتي هي تجربة حضور، والذي تسرقه منا الديانات والعقائد، وتُضعفُهُ على الفور. الشعر يريد تشتيت الأساطير. وآمُلُ، كما أمل مالارميه، أو ليبوباردي، أن نجعل من الأسطورة موضوع دراسة يستطيع أن يساعد الشعرَ كي يصبح مشروعُهُ أكثرَ راديكالية، وأن يصبح لائكيَّة محتدمةً.
ما الذي تقرأه من بين المؤلفين الأحياء؟
كل المؤلّفين أحياءٌ. بودلير، الذي كرَّستُ له، منذ خمسين سنة، دراسات جمعتها، مؤخراً، في كتاب، أو شكسبير، الذي ترجمت كل مسرحياته، أثناء الفترة نفسها، حيّانِ بالنسبة لي مثل أيٍّ من مُعاصرِيَّ، إضافة إلى أنّ الطبعات النقدية لكتبهما وأيضا الرسائل، في ما يخصّ بودلير، تجعلهما أكثر قرباً منّا، مقارنة بمؤلِّفي اليوم الذين لا نعرف عنهم سوى بعض الصفحات أو اللوحات. لمن أقرأ من معاصريّ؟ من الذي تتوجب عليّ قراءتُهُ؟ إنهم شعراء، من "صنّاع السلبيّ"، بالتأكيد، الذين يستخرجون الحقيقة من التمثيلات الوهمية التي غطَّتها عبر القرون؛ ولكن الذين يعرفون، أيضا، أن هذا العمل السلبي ليس له مبرر وجود إلّا من أجل أن يستعيد الإيجابيّ حقوقه، ويعلن، بحرية، عن قِيَمه، ويدعو إليه العقلَ المتصالِحَ مع الذات.
كتبتَ بأن بودلير اختار "الطريق التي تذهب إلى الموت، وأن الموت تكبُرُ في داخله مثل وعي". كيف يمكنك تفسير هذه الفكرة؟ ما هي العلاقة التي تربطك بالموت؟
عليكم أن تعرفوا أن الذي أطلقُ عليه تعبير الموت ليس هو الحدث الذي يقع تحت هذا الاسم، ولكن هو هذا الفعل الأساسي المتمثل في أن الكائن البشريّ محدودٌ في الزمن كما في المكان، وأنه، جوهريّاً، تناهٍ finitude، ولهذا السبب فهو كائن إنسانيّ، لأن هذا الشرط هو الذي يدفعه لاتخاذ خيارات وأحكام، والذي أتاح له، عبر القرون، أن يصل إلى القدرة على أن يحبّ، هذه
الدرجة الثانية لما هو واقعي. ولكن معرفة الإنسان بأنه تناهٍ ليس بالأمر السهل، وكل الأحلام موجودةٌ، هنا، من أجل نسيان هذا. بودلير شاعر كبير، لأنه، وهو الحالم مثل أي حالم آخَر، والقادر على إنجاز أحلام جميلة، اختارَ ألّا يحلم.
اقــرأ أيضاً
وشتان ما بين أول نصّ له، وهو "حركة وجمود دوف"، سنة 1954، اللافت والمبشّر بما سيكون عليه الرجل في ما بعد، والذي يقول عنه موريس نادو، العملاق الآخر، الذي رحل، قبل سنوات، عن عمر مائة سنة، والذي ساهم عبر مجلته "لاكانزين ليترير" ودار النشر التي تحمل الاسم نفسه، في اكتشاف العشرات من المواهب الفرنسية والأجنبية، بأنه سيأتي يوم لن يتذكر فيها أحدٌ اسمَ الفائز بجائزة الغونكور في تلك السنة، ولكننا سنتذكر حتما هذه المجموعة الشعرية.
وظل إيف بونفوا حتى الرمق الأخير يكتب الشعر، ولعله، في هذه السنة، فقط، منحنا كتابين: شعري، "الوشاح الأحمر"، ودراسات: "الشعر أو الغنوص"، بل وظل وفيّا للشعر، بحيث كرّس حياتَه له، إلى جانب الفلسفة وتاريخ الفن والترجمة، طيلة اشتغاله أستاذا مشاركا في المركز الجامعي في فانسان (ضاحية باريس)، ثمّ نيس، وأخيرا في كوليج دي فرانس.
يبحث إيف بونفوا في شعره عن المكان، وعن المعنى عبر هذا المكان. ولهذا يركّز شعره على البلد، بل وعلى البلد العميق، حيث اللجوءُ إلى الكلمات يتغذّى بمسار أنطولوجي وبمسح المَشاهد. البلد الذي يتحدث عنه إيف بونفوا، هو، في آنٍ واحد، غيرُ موجودٍ وحميميٌّ بشكل غريب، وكل كتبه ومؤلفاته تدفع نحو هذا المسعى، من أجل اللحاق به، إن أمكن، وتثبيته في الكتابة.
ولأن إيف بونفوا عاش القرن العشرين تقريبا، بكل صخبه وإبداعه وصيحاته، فكان لا بد له أن ينجذب، لبعض الوقت، إلى السريالية، لكنه عشقٌ لم يُعمّر طويلاً، وغادرها سنة 1947. وظلّ عشقه الأكبر لـ"شيوخه"، بودلير ونيرفال ومالارميه ورامبو.
يقول إيف بونفوا عن رؤيته للشعر: "صحيح أنه يوجد شعرٌ يمنحنا الانطباع بأنه يخاطب، قبل كل شيء، العقلَ، كما يفعل الفيلسوف، ويبحث عن نفسه بين الأفكار بدل الأشياء. ولكني، مع ذلك، لا أحسُّ به مختلفا عن الشعر الذي أعرّفه بتشديد نظرتنا على الأشياء البسيطة في العالَم، وهذا في حياتنا اليومية. لأن الميتافيزيقا، حتّى في أفضل الأعمال التي تتحدث عنها، ليست، أبدا، تأملا نظريا مجردا، ولكنها الشعور الأوّليّ بالوحدة، وهذه الوحدة مهما حاول سيف Scève أن يسميها بطريقة تبدو مجردة، لكنه رآها تظهر على وجه ديلي Délie، وجه امرأة حقيقية، وبول فاليري Valery، مهما حاول أن يكتب في "المقبرة البحرية" بعض المقاطع الشعرية الأكثر "فلسفية" في الشعر الحديث، فإنه توجد رغبتُهُ المثبتة على البحر الذي سيُلقي نفسَه فيه، في منتصف النهار، وفي عز الشمس. إن ما يجب أن نركّز عليه نظرنا هي قصائد تعرض أنظمة تفكير، فسلفي أو سياسي أو آخر، لم يكتبها من يعيشون في دواخلهم جدل العقل والواقع المحسوس والجسد والرغبات. لقد وُجِدَ شعراء كبار عرضوا مثل هذه الأنظمة الفلسفية، مثل الشاعر لوكريس Lucrèce، ولكنّ قصائدهم ليست شعراً، بسبب هذه الخاصية، بل بسبب ما بقي حيّا في العمق، بسبب تجربتهم المباشرة في الواقع المباشر. ليست لديّ آلهة، ولكن ما يقوله هؤلاء المتدينون عن الله، يبدو لي قابلا للتطبيق على الحياة، التي تحكي عنها الأشجار والأحجار والطرق، بقدر ما تحكي عنها الكائنات التي نحبّها".
وماذا عن العلاقة ما بين الشعري والديني؟ يرى إيف بونفوا أنه "من المفيد، في واقع الأمر، تحديد علاقة الشعري والديني، لأنه بمجرد ما يتم التطرق للأمر حتى تصدُر ردود فعل مُعارِضة، وتُهَمٌ من كل الأنواع، بينما قد لا يتعلق الأمر، في هذا التقارُب، سوى بشيء بسيط جدا، متعلق بما هو طبيعيّ ومباشر في علاقتنا بالعالَم. صحيح أن كلمة "ديني" يمكن أن تخلق سوء فهم، بسبب استخدامها من قبل الكنائس، التي يمكن لَومُها كثيرا، عبر قرون. ومن الطبيعي أن كلمة "ديني" ترنّ بشكل سيئ. وفي ما يخصني، فليس لديّ "أي دين"، كما يقال، ولا أؤمن بأي طبيعة متعالية، ولا بأي شيء آخَر ليسَ مادّة، وفكرة ربّ شخصي تبدو لي، بشكل خاص، أنها تحجُبُ، بشكل غير مفيد، العلاقة الصارمة التي يجب أن تكون لنا مع ذواتنا. على الرغم من أنك قد تتساءل عن السبب الذي يجعلني ألتجئ إلى هذه الكلمة، التي تخلق كثيرا من سوء الفهم، والتي يمكن لي أن أكون أول ضحاياها".
آباءُ إيف بونفوا من قبيلة الشعراء والفنانين كُثُرٌ، وهو يتحدث عنهم بمحبة وجذل كبيرَين: "وأنا سعيد أن ألتقي بهؤلاء الشعراء والفنانين، بييرو ديلاّ فرانسيسكا أو بوسين أو جياكوميتي أو شكسبير أو بودلير أو رامبو، سعيدٌ بالعيش بالقرب من بعض الأعمال الكبيرة من هذا النوع، لأن هذا يمنحني الثقة والشجاعة".
ألا توجد شبهة اتهام لإيف بونفوا بأنه شاعر "ماضوي" لا يعيش زمنه؟ يجيب: "إن الشعر يخلط العصور، بطريقة أساسية، بسبب كونه يمثل حَدْس حُضورٍ دائم الوجود، يبحث عنه الشعراء بشكل دائم، وهو ما يفسّر لنا لماذا نستطيع قراءة هوميروس، اليوم، بشعور أنه قريب منّا، بغضّ النظر عن كل الاختلافات الناتجة عن تغيّر المجتمع. وأنا لا أرى سوى فوائد وميزات في الاهتمام بالعصور الأخرى، أي إجراء نهر كبير بيننا سيُخصِّبُ الحاضر، الذي يحتاج إلى ذلك. يقول رامبو Rimbaud إنه يجب على المرء أن يكون "حديثا بشكل مطلق"، أي أن يعرف كيف يتخلص من كل هشيم الأيديولوجيات، ولكن لا توجد حداثة حقيقية إلّا إذا عرفت كيف تحافظ على ثراء شِعْر الماضي. لننظر إلى السريالية، لقد أشاحت بوجهها، بشكل قاطع، عن غباء وفظاعات التاريخ الحديث، ولكن الأمر جرى عبر اكتشاف صفٍّ من فنانين وشعراء، من الماضي، بدوا لها خَيرا ممكنا. الشعرُ نهضةٌ (ولادة ثانية) أبديةٌ. والطليعة التي لا تنظر خلفَها لترى إن كان شعراءُ الماضي يقتفونها، تَهْلكُ".
من هم المقربّون من الشاعر؟ يتحدث الشاعر عن المجلة الأدبية Ephémère التي خرجت من رَحم صداقة بينه وبين أندري دو بوشيت، ثم التحق بهما لفيفٌ من الشعراء، منهم لويس-روني دي فوري وجاك دوبين ثم باول تسيلان وميشيل ليريس. ويعدد إيف بونفوا بعض هؤلاء القريبين منه، أندري فرينو وفيليب جاكوتي وبيير-ألبرت جوردان وكريستيان دورتمونت. ولكنه يشدّد على اسم بيير-ألبرت جوردان "الذي مات قبل الأوان. ولم يتمَّ الاعتراف به في كامل أهميته. وإن مؤلَفات مثل "فضائح القشّ" أو "التحية والوداع" تعتبر من أكثر الأعمال التي تنضح بالحقيقة والعمق والتأثير في الشعر الفرنسي المعاصر".
من حواراته
نقدم هنا للقارئ مقتطفات من حوار أجرته مع الشاعر مجلة "Le Monde des Religions" الفرنسية بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2011.
الشاعر رامبو كان يريد تغيير الحياة. أنت من تلاميذ رامبو، فهل غيّر الشعرُ حياتك؟
أشرتُ، من قبل، إلى جزء الحُلم الذي يوجد في الشعر. ومن العبث أن نأمل تحرير الكلمات من محتوياتها المفهومية، التي تختزل العالَم في صُوَر مجردة وناقصة، لأننا سنظل، دائما، دون ما سمّاه رامبو بالحياة الحقيقية. ولكن ما أنجزه رامبو هو تطبيق صفائه ونفاذ بصيرته على هذه الخُدَع التي سقط في فخاخها أملُهُ الأساسي. لقد انتقد طوباوياته الكثيرة وثورته الاجتماعية وخيمياء الفعل، واحدة بعد أخرى، بل وكسّرها، بسبب ما كان يحسّ به، أحيانا، من كبت
العالم يهيمن عليه شعور القيامة الغامض. فهل يمنح الشّعرُ أسلحة للمقاومة، من أجل العثور على المنافذ؟
إنه السؤال الكبير، بالطبع. هل نخشى القيامة؟ لكنها أسوأ من خشية. كل العلامات موجودة، هنا، لتبرز أنه إذا لم تتخذ، فورا، القرارات الضرورية، وربما فات الأوان، فإن تَهدُّمَ المناخ وارتكاس الأراضي وتفوّق السكان على المصادر، في الماء، مثلا، والانتشار الفوضوي للصُوَر غير المسؤولة، التي تُربك العقل وتخنق الضمير وتشلّ الحركة، ستجعل البشرية، قبل نهاية هذا القرن (21) تفقد مكانها على الأرض وتتلف في حروب. وهو النقيض، تماما، للأمل الذي يتضمنه الشّعرُ، هذا التصوُّر عن الاتفاق الذي يمكن أن يوحّد ما بين نهائيَّتِنا ومكانها. وإذن هذا السؤال، نعم، بالفعل، يوجد قلق. ما العمل؟ مواصلة إبراز الخير الذي يمكن أن يتضمنه هذا الاتفاق، في هذا الاتفاق البسيط. مواصلة الأمل، مهما كان. مواصلة الاعتقاد بأن الشجرة والطريق جميلان جدا في ضوء الليل، وأن الأمر ليس عبثا، وأن علينا، دائما، مُهمّةُ إبراز هذا الشيء في وضوحه.
تربط، في كثير من الأحيان، ما بين المُقدَّس والشعر من أجل التقريب بينهما، وأيضاً من أجل تمييز أحدهما عن الآخر. فهل الشعرُ، في نظرك، هو الملاذ الأخير للمُقدَّس؟ لقد كتبت عن الفن القوطي وعن روما في زمن النهضة، كما أنك أشرفت على قاموس الميثولوجيات. فما الفضاء المقدس الذي تشعر بأنك أكثر قرباً منه؟
نعم، المقدس. صحيح أنني استخدمت هذه الكلمة، في فترة مبكرة في كتاباتي. ولكني أحتاط اليوم. ولا أحسني قادرا على استخدامها من دون مخاطر سوء فهم يمكن أن يمحو، في نظري، وبشكل كارثي، ما أريد التفكير فيه. لماذا؟ لأنّ ما كنت أعنيه بالمقدس هو، في واقع الأمر، الشيء العادي الموجود بجانبنا، معنا، الشيء الذي نتقاسم به وقتنا على الأرض والذي يريد أن نعترف به كحقيقة مطلقة، كلمة، هذه الأخيرة، هي أيضا بسيطة ولكني أعرف أنها قد تُفهَم بشكل سيئ. المقدس، هذا الكأس الذي نشرب بواسطته. المقدس، الخبز والنبيذ والبيت والمنحدر والغابة القريبة والكائنات التي نحبها والحاضرة. لا شيء دينيّ، كما ترون، لا شيء لكي نضع هذا المقدس في شراكة مع أية أنظمة اعتقاد أخرى، وحين أتحدث عن التعالي في ما يخص هذه الأشياء اليومية، فلأنه، بكل بساطة، يوجد في أدنى هذه الأشياء لا تناهي الخصائص التي تجعلها لا تنفد أمام أية مُحاولة لقولها، إنه تعالٍ بالمقارنة مع الكلام.
ولكني استنتجتُ أن هذا الاستخدام لكلمة "مقدس" لا يمكن فرضه ضد الدلالات التقليدية التي تحيل على ديانات وعلى الاعتقاد. ولم أَعُد إلى هذا الالتباس، لأن الشعر، في نظري، هو ما يلج إلى أعماق فورية ممارَسَة العالَم من أجل تشتيت كل المعتقدات وكلّ الإعلانات عن حقيقة ميتا - حسيّة. الشعرُ، إذا جاز لي محاكاة مالارميه حين يتحدث عن الموسيقى، هو ما يستعيد من الدّين ثروته، والتي هي تجربة حضور، والذي تسرقه منا الديانات والعقائد، وتُضعفُهُ على الفور. الشعر يريد تشتيت الأساطير. وآمُلُ، كما أمل مالارميه، أو ليبوباردي، أن نجعل من الأسطورة موضوع دراسة يستطيع أن يساعد الشعرَ كي يصبح مشروعُهُ أكثرَ راديكالية، وأن يصبح لائكيَّة محتدمةً.
ما الذي تقرأه من بين المؤلفين الأحياء؟
كل المؤلّفين أحياءٌ. بودلير، الذي كرَّستُ له، منذ خمسين سنة، دراسات جمعتها، مؤخراً، في كتاب، أو شكسبير، الذي ترجمت كل مسرحياته، أثناء الفترة نفسها، حيّانِ بالنسبة لي مثل أيٍّ من مُعاصرِيَّ، إضافة إلى أنّ الطبعات النقدية لكتبهما وأيضا الرسائل، في ما يخصّ بودلير، تجعلهما أكثر قرباً منّا، مقارنة بمؤلِّفي اليوم الذين لا نعرف عنهم سوى بعض الصفحات أو اللوحات. لمن أقرأ من معاصريّ؟ من الذي تتوجب عليّ قراءتُهُ؟ إنهم شعراء، من "صنّاع السلبيّ"، بالتأكيد، الذين يستخرجون الحقيقة من التمثيلات الوهمية التي غطَّتها عبر القرون؛ ولكن الذين يعرفون، أيضا، أن هذا العمل السلبي ليس له مبرر وجود إلّا من أجل أن يستعيد الإيجابيّ حقوقه، ويعلن، بحرية، عن قِيَمه، ويدعو إليه العقلَ المتصالِحَ مع الذات.
كتبتَ بأن بودلير اختار "الطريق التي تذهب إلى الموت، وأن الموت تكبُرُ في داخله مثل وعي". كيف يمكنك تفسير هذه الفكرة؟ ما هي العلاقة التي تربطك بالموت؟
عليكم أن تعرفوا أن الذي أطلقُ عليه تعبير الموت ليس هو الحدث الذي يقع تحت هذا الاسم، ولكن هو هذا الفعل الأساسي المتمثل في أن الكائن البشريّ محدودٌ في الزمن كما في المكان، وأنه، جوهريّاً، تناهٍ finitude، ولهذا السبب فهو كائن إنسانيّ، لأن هذا الشرط هو الذي يدفعه لاتخاذ خيارات وأحكام، والذي أتاح له، عبر القرون، أن يصل إلى القدرة على أن يحبّ، هذه
بطولة الجمال
في كل الأحوال يتعلق الأمر بفكرة، من المؤسف أن عصرنا لا يأخذها مأخذ الجد، إن لم يكن يحتقرها. كتبتُ، في ما يخصني، كتابا عنونتهُ "الجمال من اليوم الأول". أتطرق فيه إلى الأشياء التي تأتينا من الساعات الأولى للفعل البشري، وهي تتضمن طباع الجمال التي ما كان لها إلا أن تكون واعية، بل ومتعمَّدَة، بشكل حقيقي. أفعال من أجل الاستخدام اليومي تحت علامة الضرورة الفورية للبقاء أحياء. ولكن يوجد، أيضا، لهذا الجمال التي نبحث عنه، بشكل غريزي، سببٌ قابل للتأمل. إنه يمتلك البساطة الفعّالة التي تتيح للسبّاح أن يصعد مع التيار، وإنه يُحوّل الثقة، وإرادة الثقة، التي نستطيع بواسطتها مواجهة المُقاوَمَة المُلازمة لكل بيئة. وإن ما يعبّر عن نفسه بهذه الطريقة، هو بالتالي مشروعٌ ورغبة في الصراع. والجمال في هذه الأشياء الأصلية ليس تأملا، ولكنه حثّ على الحركة. ولا أراه مختلفاً في القصائد الكبرى. يبقى أن هذه الحركة مصحوبةٌ، اليوم، بعراقيل مخيفة. إن هذا الجمال الذي نحتقره هو إصرارٌ، يمكن وصفه، بالبطوليّ.