في الوقت الذي تعرب فيه إحدى الفتيات عن فرحها بأن الجو سيكون اليوم صحواً ودافئاً، وأنها ستمارس هواياتها في حصة التربية الرياضية، تجيبها الأخرى: "لا تفرحي كثيراً، فمعلمتنا حين يكون الجو ماطراً بارداً، تمنعنا من الخروج إلى الساحة لأنها تخاف علينا من البرد ومضاعفاته، وحين يكون الجو مشمساً تخشى علينا من ضربات الشمس، لذا لن نمارس أي نشاط في الحالتين، "ريّحي حالك"! فمعلمتنا ستختلق مبررات في جميع الحالات لحرماننا من هذه الحصة.
هذه القصة، ذكّرتني بحديث دار بيني وبين طلبة، ترددت أمامي حكايات عن مشاغباتهم داخل الحصة الصفية لأحد المعلمين، فقمت بلومهم ونصحهم وإرشادهم، فاستمعوا لي جيداً، وسمعت منهم ما قد لا يصدر إلا عن خبراء أو مرشدين تربويين. قال لي أحدهم: كلامك على عيني وراسي يا أستاذ، ولكن قل لي: ماذا نفعل عندما لا يحترمنا المعلم، ويمطرنا بألفاظ وأوصاف نخجل أن نرددها؟! وفوق هذا وذاك يضحك علينا!
أجبت الطالب مستغرباً: كيف؟ قال: "هل رأيت من قبل أستاذ رياضيات يشرح الدرس وهو جالس عَلى الكرسي؟ ألا يجدر به أن يستخدم السبورة والوسائل التعليمية المساندة لتوضيح القوانين والمسائل الحسابية؟!
هذان الموقفان، يدلّان بما لا يدع مجالا للشك أن طلبتنا أذكى مما نتصوّر، وأن واجبنا يحتّم علينا أن نسمعهم جيداً، وأن نستوعبهم، ونتفهّم احتياجاتهم، عندها سنجدهم يحبوننا ويحترموننا أكثر، ويحبّون مدارسهم أيضاً فتصبح صديقةً لهم بالفعل والقول، ويقبلون على دراستهم، ونظّل في عيونهم خير قدوة، فهل نفعل؟!
تلميذ ينعت نفسه بالـ"الحمار"
في هذا السياق، يقول المعلم المتميز جودت جميل صيصان، أحد الذين نافسوا على جائزة أفضل معلم على مستوى العالم لهذا العام: لي قصة نجاح تمت عن طريق الرياضة لطالب كان ضعيف التقدير لذاته ولقدراته، ويكمل كل عام بأربع مواد، ويتم "تنجيحه" بواحدة لكيلا يرسب بسبب تجاوز نسبة الرسوب.
ويضيف "عندما دخلت عليه للمرة الأولى صُعقت لأنه ينعت نفسه "بالحمار" عندما وجهت له سؤالاً في المادة، وحين سألته عن السبب، أجاب: الكل، في البيت والمدرسة وحتى أصحابي ينعتونني بنفس الوصف.
طلبت منه أن أجلس معه بعد الحصة، وسألته بعيداً عن الدراسة عن هواياته فأخبرني أنه يحب الجمباز، وعندما سألته هل معلم التربية الرياضية يعلم بذلك؟ قال: لا فقمت بإخبار المعلم بنفسي عن هوايته. وبعد فترة دعاني لمشاهدة ما أنجزه، وإذا به الأول في الجمباز على مستوى المديرية، ثم أخبرني عن مواهبه في الدبكة والتمثيل، وحصل على المركز الأول على مستوى المديرية في النشاطين، وانعكس ذلك على تحصيله الدراسي وقد تخرّج من التوجيهي بمعدل 77 وذهب للدراسة في أميركا.
يؤكد صيصان أن الطالب ذكي، ولديه القدرة على التمييز بين الغث والسمين مما يعطيه له أستاذه، وهو قادر على أن يقيّم معلمه وقادر على معرفة مواطن الضعف والقوة لديه، وعلى التربويين أن يدركوا هذه الحقيقة.
حصص جافة مميتة
رائد حامد مسؤول الإعلام والتوعية في هيئة تطوير مهنة التعليم في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، يقول من جهته: للأسف طالما نادينا، أيام كنا معلمين، وحتى اليوم، وكوننا أيضاً أولياء أمور، بأهمية حصص الرياضة والفن، كحصص تفريغية، وحصص يمكن للطالب أن يتفتق فيها عن مواهبه وميوله وإبداعاته، فلا نقبر طلابنا بحصص جافّة فقط، ولتكن على حواف الحصص العلمية حصص تفريغية، ولا يستقيم الوزن بإهمال الحركات مهما صغر حجمها، وهذا حال طلبتنا مع هذه الحصص، فلا نستخفّ فيها ولا بتأثيرها، هي بالنسبة إليهم حصص مقدسة؛ لأنها تعني الكثير، ومن هنا على الجهات المسؤولة في المدرسة والمديرية التشديد على حق الطالب في هذه الحصص.
ويعتقد أن الحديث عن إنصاف المعلم جيد، ولكنني أطالب بالعدالة لا بالمساواة، فمن الإجحاف أن نساوي بين معلم ومعلم، لأن الأداء مختلف، والانتماء للمهنة مختلف، والقدرة على التأثير والبناء في الأجيال مختلفة كذلك. فالمعلم الذي يشرح حصة الرياضيات وهو على كرسيه، لا يعقل أن يكون معلماً ناجحاً بكل المقاييس؛ لأنه يدرك أن الرموز والأرقام من الذهنية البحتة التي يستعصي على الطلبة فهمها وهضمها من دون تصويرها وتصورها بالعين أولاً، ثم فهمها وتحليلها. الطالب بحاجة لأن يُحترم لأنه إنسان وصاحب حاجة، فالكلمة الطيبة قد تترك فيه أثراً لا ينمحي العمر كله، فالمعلم القدوة أقدر على استيعاب طالبه وجعله مقرباً منه ومحباً له، فهذا ما يريده طالبنا، العلم بثوب الترغيب والاحترام".