لعلّ تفكيك السياسة الرسمية الفلسطينية بعد انقضاء أكثر من عقدين على "تجربة المفاوضات"، يستدعي أكثر شيء تفكيك الاتجاهات السياسية المتهافتة التي تسببت بفتح عملية التحرر الوطني وتأسيس الذات وبناء الدولة على إمكانية التعايش مع الرؤية الكولونيالية للصراع، والتعامل مع الامبريالية كصديق يملك مفاتيح الحل ويساهم في تقرير مصير الشعب من فوق.
كما يستلزم التساؤل فيما إذا كانت هذه السياسة تعود إلى تجاهل الطبيعة الكولونيالية والامبريالية لدول الهيمنة الغربية وإسرائيل، أو إلى عمى سياسي، أو إلى تقاطع مصالح النخب الاقتصادية والسياسية مع مصالح دول الهيمنة؟ وفيما إذا جرى تسليم النخبة المحلية بمعادلة "استبدال شرطي أبيض بآخر أصلاني" بمعزل عن المضمون الاجتماعي والديمقراطي والإنساني للتحرر؟
وفي هذا السياق، علينا أن نرى أن القيادة الفلسطينية اكتشفت حقيقة الانحياز الأميركي لإسرائيل، وفي أكثر من مناسبة صرحت بأن هذا الانحياز لا يسمح إطلاقاً بالرهان على الوساطة والرعاية الأميركية في حل الصراع. لكن هذه القيادة استعاضت عن ذلك بالرهان على التفاهم مع دولة الاحتلال.
وفي هذا الشأن، كتب أحمد قريع (أبو علاء): "إن ما يمكن أن نأخذه على طاولة المفاوضات من الإسرائيليين أكبر وأهم ممّا يمكن أن نأخذه من الأميركيين الذين كانوا يبدون لنا في معظم الأحيان كوكلاء عن حلفائهم الإسرائيليين".
وليس هذا فقط، بل اعتقدت القيادة أن الضعف الفلسطيني سيجعل من الإسرائيليين أكثر اطمئناناً وسيتشجعون على المضيّ قدماً بالحل. في مقابل ذلك، كيف نظر الإسرائيليون للتفاوض مع نظرائهم الفلسطينيين؟
لقد تفاوضت القيادة الإسرائيلية باسم بلد يملك "حقاً تاريخياً" وباسم "شعب يهودي" عاد إلى "وطنه" ويتفاوض مع منظمة "إرهابية" ويرغب في مساعدتها للسيطرة على تجمعات سكانية وفي الاهتمام بشؤونها المدنية من خلال حكم ذاتي خاضع لسيادة الدولة المحتلة.
بكلمات أخرى، كانت إسرائيل تتفاوض حول حاجات سكان لتخفيف أعراض الاحتلال، وليس على حقوق شعب وما يعنيه ذلك من معالجة جذور المشكلة باعتبارها المنتج الدائم للأزمات الكبيرة.
وقد أسفرت هذه المفاوضات كما هو معروف عن "اتفاق أوسلو" الذي رأت فيه القيادة الفلسطينية "إنجازاً تاريخياً" و"سلام الشجعان"، وأكدت أن "السلام خيار استراتيجي"، وفي أفضل تقييم رأت فيه أنه "محصّلة منطقية لميزان قوى محلي وإقليمي ودولي فرض نفسه على الطرفين". وكان يمكن أن نعتبر هذا التشخيص صحيحاً لو استبدلت جملة "فرض نفسه على الطرفين" بجملة "فرض نفسه على الطرف الفلسطيني".
مقابل ذلك، كان أبلغ تقييم لاتفاق أوسلو لشولاميت ألوني، الوزيرة الإسرائيلية في حكومة رابين حين قالت: لو كان البريطانيون قد فرضوا على اليهود شروطاً قبل الانسحاب من فلسطين مشابهة للشروط التي يفرضها الإسرائيليون على الفلسطينيين لما قامت دولة إسرائيل.
أما الباحث الإسرائيلي ميرون بنفينستي فقد لخّص الاتفاق بالقول: "الانتصار الإسرائيلي كان مطلقاً والهزيمة الفلسطينية كانت ساحقة".
وبرأينا، فإن التنازلات الفلسطينية وما جرى على أرض الواقع وفي إطار العلاقات الدولية يدعم التقييم الإسرائيلي، ويمكن تكثيفه بالآتي: كان اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل من طرف واحد اعترافاً بدولة تستبيح أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة وتعلن أنها ضد إقامتها، مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
وشيئاً فشيئاً تبنى المجتمع الدولي وجهة النظر الإسرائيلية التي لخصت قضية فلسطين بأنها نزاع حدودي وليست نزاعاً استعمارياً بين حركة تحرر ونظام استعماري. في الحالة الثانية كان المطلوب وضع روزنامة لانسحاب المحتل، وفي الحالة الأولى ـ النزاع الحدودي ـ يصبح التفاوض حول هذا النزاع ملهاة بلا نهاية.
كان خطأ أوسلو القاتل من قبل القيادة الفلسطينية هو "عدم وقف الاستيطان" وإرجاء البت به. وهذا يفسّر عدم رؤية القيادة للاستيطان كتجسيد للأطماع الكولونيالية والنهب. واستمرار الاستيطان ومضاعفته يعني عدم تغيير العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين، ورفض التراجع عن الأطماع الكولونيالية ومنع إقامة دولة فلسطينية.
فقدان الكثير من عناصر القوة
وأصبحت حياة الشعب الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو تحت سلطة فلسطينية بالشروط الجديدة أسوأ من الحياة تحت الاحتلال، ذلك أن الاتفاق لم يقطع مع العلاقات الكولونيالية، ولم يستند المفاوض الفلسطيني إلى فكرة القطع مع تلك العلاقات كفكرة ناظمة للتحرر الفعلي من الاحتلال وللخروج من علاقات التبعية الاقتصادية. وأتى الاتفاق مكمّلاً للتحولات والعلاقات التي فرضها الاحتلال طوال 26 عاماً.
معروف أن اقتصاد السوق الحر/ رأس المال المعولم يسعى لتحقيق الربح ومراكمة الثروات فقط، والنتيجة هي إنتاج الفقر وتراكم الديون وفشل مشروع مساعدات التنمية التي تحوّلت إلى أداة نيو كولونيالية للسيطرة من طرف واحد، وإعادة تشكيل الشرائح الاجتماعية وربط مصالح أجزاء منها بالعلاقات الكولونيالية.
وكان من نتائج اتفاق باريس الاقتصادي تعميق التبعية الاقتصادية، وبناء هياكل اقتصادية مشوّهة ("سماسرة تنمية")، واعتماد الاقتصاد الفلسطيني أكثر فأكثر على المساعدات الخارجية والدول المانحة في ظل العجز المتزايد للموازنة والميزان التجاري وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتشجيع القروض والارتهان للبنوك، وتشجيع الفساد.
وأعيد إنتاج المؤسسة البيروقراطية القائمة على الواسطة والمحسوبية والشخصنة والولاء والزبائنية والفئوية والكوتا. وكلما اشتدت الأزمة السياسية ساء الوضع الاقتصادي، وكلما انكشف عجز المؤسسة عن المواجهة والصمود زادت وتائر التدخل الخارجي في الشأن الفلسطيني.
وكان من أخطر نتائج اتفاق أوسلو الذي تحوّل من حل مؤقت إلى حل دائم، والذي تضافر مع استبعاد إصلاح منظمة التحرير ومؤسساتها، انفراط العقد الوطني الاجتماعي والوحدة الوطنية في إطار الحركة السياسية بين مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ومناطق 48 فضلاً عن الضفة الغربية وقطاع غزة.
تبيّن حصيلة مرحلة المفاوضات واتفاق أوسلو أن الحركة السياسية لا تملك عناصر القوة المادية، ما عدا قوة التحمّل التي يملكها الشعب. وحتى قوة المعارضة وظّفت سلبياً ووضعت في خدمة مشروع آخر.
وخسرنا سلاح المؤسسة التي تم بناؤها بطريقة مشوّهة جعلت منها عبئاً على القرار السياسي، ولم يستخدم المال والاقتصاد (الرأسمال الفلسطيني) ولا التحالفات التاريخية التي لم تُجدّد لمصلحة الأهداف الوطنية في العملية السياسية.
وفقد الشعب الفلسطيني الكثير من عناصر قوته وأصبح في وضعية شجّعت دولة الاحتلال على تصعيد عملية تقويض مقومات تحرره واستقلاله وتقرير مصيره. ومن أبرز مظاهره التطهير العرقي في محافظة القدس والمناطق المصنّفة سي بأسلوب الإضعاف المنهجي للبنى التحتية المادية والبشرية للمجتمع الفلسطيني.
وأخيراً أعادت سلطات الاحتلال دور الإدارة المدنية التي نص اتفاق أوسلو على حلّها، هذه الخطوة لها مدلولات كبيرة، في مقدمتها إعادة حكم الشعب الفلسطيني مباشرة من قبل سلطات الاحتلال، بعد أن وضعته في بانتوستونات فصل عنصري ضمن قبضة أمنية تتحكّم في تفاصيل حياته مع بقاء سلطة مسلوبة الصلاحيات أكثر فأكثر. هكذا تتراجع دولة الاحتلال حتى عن حكم ذاتي، خشية تطوره إلى "دولة" بلا مقومات، فهذه الدولة المسخ أيضاً غير مقبولة.
تجديد العقد الوطني الاجتماعي أو الميثاق الوطني
إن أي مقارنة بين خسائر الشعب الفلسطيني الناجمة عن الاستمرار في مسار أوسلو، وبين خسائره الناجمة عن مسار وطني مستقل، سترجّح كفّة خسائر أوسلو بمستوى نوعي. فمسار أوسلو يذهب نحو تصفية القضية الفلسطينية بغطاء فلسطيني.
أما المسار المستقل فسيؤدي إلى إنهاء المقايضة غير المعلنة بين دعم مادي لسلطة ومؤسسات لا تملك أي صلاحيات أساسية، وما يترتب على ذلك من خسائر القطاعات المرتبطة بوجود السلطة، ويستطيع المسار المستقل أن يزيل الغطاء الفلسطيني عن الاحتكار الأميركي ـ الإسرائيلي للعملية السياسية ويفتح آفاقاً جديدة لإنهاء الاحتلال.
وثمة حاجة لم يعد بالإمكان تأجيلها إلى تجديد العقد الوطني الاجتماعي أو الميثاق الوطني الذي يشكل رافعة لتجديد الشرعية الفلسطينية ومؤسساتها. وتتمثل وظيفة العقد بتحديد الأهداف الوطنية المشتركة التي تلبي مصالح الشعب الوطنية والمعيشية في مختلف أماكن وجوده.
وهذه الأهداف ليست حصيلة ميزان قوى وليست توفيقاً حسابياً بين برامج التنظيمات، بل هي اشتقاق مصلحة السواد الأعظم من الشعب القابلة للتحقيق في مدى زمني منظور، والمنسجمة مع القانون الدولي والمواثيق والقرارات وقواعد الديمقراطية في إطار من التعدّد السياسي والثقافي والديني والالتزام بالحريات العامة والخاصة.
إن وضع عقد وطني واقعي وعقلاني مقبول ومقنع لأكثرية الشعب وملزم للقوى والتنظيمات وناظم لعملها وسياساتها، دون أن يكون بديلاً لبرامجها الخاصة، مهمّة من اختصاص مفكرين/ات ورجال ونساء قانون، وأكاديميين/ات وسياسيين/ات ومثقفين/ات وخبراء/ وخبيرات.
وهذا الجهد لا بُد من أن يكون مبنياً على أسس مثل تطوير علاقة الشعب مع الأرض، وتعزيز أسلوب الحياة الطبيعي، وترسيخ الثقافة الوطنية، وتحدي البقاء في مواجهة جهود التفكيك السياسي والثقافي والجسدي التي تتبعها دولة الاحتلال، وفي مواجهة محاولة حسم الصراع الذي عنوانه في هذه المرحلة انتزاع اعتراف رسمي فلسطيني بالدولة اليهودية.
لقد نجح الشعب الفلسطيني في كسر جدار الخوف الذي تحاول دولة الاحتلال إعادة بنائه باستمرار. وثمة ضرورة لكسر الروابط مع الاحتلال الكولونيالي، المترافقة مع بناء سياسة الاعتماد على الذات وتوليد الموارد من داخل المجتمع، وإعادة توجيه التعليم، وتوظيف الرأسمال الوطني في تعزيز التنمية البشرية، وإعادة بناء علاقات التحالف العربية والدولية غير الرسمية كسند أساسي للسياسة الفلسطينية البديلة.
كما أن وضع سياسة طوارئ للحفاظ على التجمعات الفلسطينية المهدّدة في سورية ولبنان والعراق وليبيا وغيرها من التهديد الوجودي الذي تتعرّض له، وإعادة اللحمة بين الشتات والوطن، تكتسبان أهمية استثنائية. إن عمليتي الإنقاذ والشتات هاتين ترتبطان بدور مختلف لمنظمة التحرير وبإعادة الاعتبار لمؤسساتها، وإعادة النظر في وجود قيادتها في الأراضي المحتلة وتحت رحمة الاحتلال.
(باحث فلسطيني / رام الله، والمقالة مقطع من كتاب يصدر قريباً)