عقّدت نتائج الانتخابات البرلمانية الإيطالية الأخيرة (2013) المشهد السياسي بشكل كبير، حيث دارت المنافسة فيها بين ثلاثة تكتلات حزبية، وانتهت بنتيجة 29.55% لكتلة يسار الوسط Italia bene comune والحزب الديمقراطي الحاكم بزعامة ماتيو رينسي و29.18% لكتلة يمين الوسط "فورسا إيطاليا" بزاعمة سيلفيو بيرلوسكوني و25.56% لحركة حركة النجوم الخمس 5S التي تعتبر "اللاعب الجديد على الساحة"، بينما توزّعت بقية النسب على الأحزاب الصغرى.
لم يكتمل النصاب لأي منهم حتى يُسمح له بتشكيل الحكومة، بالرغم من محاولات بعضهم إيجاد تحالف ما، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، ودفعهم الدستور إلى تشكيل حكومة تكنوقراط (برئاسة ماتيو رينسي)، واتفقت الحكومة على خطة عمل تتعلق بإصلاحات لتغيير البنية السياسية والمؤسسية وقطع العبء الضريبي، وإصلاح سوق العمل، وتعديل القانون الانتخابي، وبعض الإصلاحات الدستورية، ووضع وخطط لتحسين الإدارة العامة.
وحتى يومنا هذا، لا يوجد تقييم واضح أو نهائي لنتائج هذه الخطة، ولكن من الواضح أنه ما من أحدٍ منهم راضٍ عن أداء حكومة رينسي، بالرغم من أنهم جميعاً مشاركون في هذه الحكومة.
في نهاية الشهر الجاري، وحتى حزيران/ يونيو المقبل، ستقام انتخابات المحافظين لأهم المقاطعات الإيطالية: روما، وميلانو، وتورينو، وكالياري "سردينيا"، وبولونيا. ويبدو أنها ستكون معركة انتخابية برلمانية مهمّة، حيث يحاول الجميع استغلال الأحداث الجارية على الساحة الإيطالية وتوظيفها سياسياً ليلحق الهزيمة بخصومه.
لا يمكن قراءة هذا المشهد الآن، بمعزل عن حادثة مقتل الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيني في مصر. فأثارت هذه الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي الإيطالية والمصرية بالتوازي مع الإعلام الإيطالي وبعض الصحف المصرية، وعاد الهدوء بعدها. تمنّت إيطاليا، قبل مصر، ألا تعكّر هذه الحادثة صفو العلاقات حفاظاً على المصالح والعقود المبرمة بين البلدين، ولم يحاول أحد التصعيد. لكن مواقع التواصل الاجتماعي المصرية أبت إلا ان تواصل حالة السخرية من النظام المصري بوضع تصوّرات لرد فعل الجانب الإيطالي.
في الوقت نفسه، نظمت مجموعة من الشباب المصريين في ميلانو مظاهرة للمطالبة بالحقيقة من أجل ريجيني، تضامناً مع الشاب الإيطالي، فرفعوا لافتات تشير إلى تكرار هذه الحالة لعدد من المصريّين تم تعذيبهم داخل السجون المصرية حتى الموت.
من جهتها، أعلنت بعض الجامعات الإيطالية عن تضامنها مع الشاب، وخرجوا للرأي العام مطالبين بالحقيقة، لتعود قضية ريجيني إلى الواجهة من جديد بتناول سياسي أكثر مباشرة، وذلك باتهام أجهزة الأمن في مصر. اضطرت الحكومة، على لسان رئيسها رينسي، إلى الخروج للإعلام بتصريحات أكثر حدّه تجاه النظام المصري، وبعدها بيوم واحد غرّد وزير خارجية إيطاليا، الذي ينتمي إلى حزب رئيس الحكومة، على تويتر بلهجة واضحة: "إن إيطاليا مصرّة على الحقيقة من أجل ريجيني".
واصلت مواقع التواصل الاجتماعي المصرية بكُتّابها وصفحاتها تناولها لحادثة ريجيني بشكل يومي، لتدفع المواقع الإخبارية إلى نشر أخبار ووضع عناوين جاذبة، مستغلة الحدث لرفع مقروئيته؛ ما أجبر الأجهزة الأمنية في مصر على تمرير بعض التصريحات للاستهلاك المحلي، والتي جرى تداولها على مواقع التواصل بتعليقات ومحاولات مستمرة لقراءة المشهد.
على المستوى الإعلامي، كان الجانب الإيطالي يحاول هو الآخر البحث عن أي أخبار تخص ريجيني، فاهتم، وبشكل يومي، بالأخبار المتداولة في الإعلام المصري، إضافة إلى التعليقات الساخرة الواردة في مواقع التواصل الاجتماعي المصرية. أما دولياً، فكانت الصحف البريطانية، ولا زالت، الأكثر اهتماماً، إضافة إلى بعض الصحف الأميركية.
حاولت بعض الرموز السياسية التأثير على والدة الشاب، باولا ريجيني، واستمالتها للخروج للناس، لكنها كانت أكثر ذكاءً، ولم تستجب للرد حتى على السيناريوهات التي خرجت للإعلام من طرف الأجهزة الأمنية في مصر، وتركت المهمة للرأي العام في بلادها.
أرسلت الحكومة الإيطالية النائب العام إلى مصر في محاولة لاحتواء الضغط الشعبي المتصاعد. وحاولت بعض الأحزاب السياسية، تحديداً "فورسا إيطاليا" وحركة 5S المزايدة على الحزب الديمقراطي PD، صاحب النصيب الأكبر في الحكومة، بتصريحات من نوع اسحبوا السفير، بل واستبقت نتائج التحقيقات بطرح سؤال: ماذا ستفعل الحكومة لتثبت أن الأجهزة الأمنية قتلت ريجيني؟
أما الأحزاب اليمينية المتطرفة، تحديداً رابطة الشمال "المعادية للأجانب والمسلمين"، فكان لها موقف يبدو مخالفاً للرأي العام؛ بحيث انحصرت تصريحاتهم في كون مصر حليفا لإيطاليا وأن عبد الفتاح السيسي ونظامه العلماني أفضل بديل لنظام الخلافة الإسلامية، وحصن ضد أسلمة الشمال الأفريقي. بل وصل بعضهم للقول إن ريجيني شخص غامض، ولماذا لا نتحقق من صحة المعلومة التي تقول إنه كان على علاقة بالمخابرات البريطانية. وفي أحد اجتماعات البلدية في مدينة تورينو، انسحب أعضاء حزب "الأخوة الإيطاليين و"رابطة الشمال" من جلسة التصويت على جدول الأعمال المقترح من رئيس البلدية اعتراضاً على رفع لافتة "الحقيقة من أجل ريجيني".
بعد حادثة قتل خمسة مصريين زُعم أنهم تشكيل عصابي متهم بقتل ريجيني، وظهور متعلقّاته الشخصية، قررت باولا ريجيني الخروج إلى الرأي العام من خلال مجلس الشيوخ، حيث كانت تجلس بجوار أحد أعضائه، لويجي مانكوني، رئيس لجنة حقوق الإنسان، وتحدثت بلغة متّزنة للغايه كأم، ولم تتورّط في الرد على أي من السيناريوهات المتداولة، ولكنها أشارت إلى أن حالة ابنها ليست فردية، بل متكرّرة في مصر.
كما سخرت من كلمة "النقابات"، في إشارة سياسية منها بأنها كافرة بالصراع السياسي مثلها مثل كثير من الإيطاليين، وهذا ما أظهر تضامناً شعبياً غير مسبوق معها، وتصاعد بالمطالبة بالحقيقة من أجل الباحث الإيطالي، لتترجم بعض وسائل الإعلام هناك هذا التضامن الشعبي بفتح ملف المختفين قسرياً والمعتقلين السياسيين في مصر.
استدعى البرلمان وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني لمناقشة التدابير الممكنة في حال تورّط أجهزة الأمن في مصر. وبدوره قال إن أقصى ما يمكن فعله هو سحب السفير الإيطالي من مصر، وإيقاف كافة الرحلات والأنشطة السياحيّة وإعلان أن مصر بلد غير آمن.
جدير بالذكر أنه حتى تاريخ كتابة هذه السطور لم تناقش الحكومة أو البرلمان الاتفاقيات المُبرمة بين البلدين، كعقد تطوير شركة إيني لحقول الغاز المصري أو عقود بيع الأسلحة لمصر. ووفقاً لبحث أجراه أليسندرو دالورد، فقد باعت إيطاليا لمصر في العشر سنوات الأخيرة أسلحة تقدّر بـ227.7 مليون يورو، ولم يتحدّث أحد عن صفقة شراء نُظُم المراقبة والتجسس مع شركة Hacking Team، وكل ما ذكر في هذا الأمر لم يتخطَّ تصريحات فردية من بعض أعضاء البرلمان للإعلام. وهذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤلات الآتية:
هل ستقف باولا ريجيني في وجه حكومة رينسي.. وهل تستطيع تعبئة الرأي العام للتضامن معها، خصوصاً بعد تهديدها بنشر صورة جثة ابنها؟
هل يستطيع الرأي العام الضغط على الحكومة من أجل توقيع عقوبات على مصر؟
هل ستغيّر حادثة ريجيني الخارطة السياسيّة في إيطاليا؟
(مصر/ إيطاليا)