تمر الكاميرا على ما سيصبح أكبر مخيمات اللاجئين السوريين، مخيم الزعتري قرب قرية صغيرة حمل المخيم اسمها في محافظة المفرق على بعد عشرة كيلومترات من الحدود السورية الأردنية.
وقتذاك، كان عمر المخيم عاماً واحداً، حين صدر الفيلم القصير. إذ تأسس في يوليو/ تموز 2012، وبدأ يكبر، مع تدفق متسارع للاجئين الفارين من الموت.
ومع مرور عدة سنوات كان الأطفال الذين التقتهم المخرجة أول مرة، يشكلون ذاكرة جديدة في المخيم "الجنة"، كما تصفه الطفلة مروة حين كان عمرها 11 عاماً، أي بعد سنتين من وصولها إلى هنا.
تعرفت المخرجة إلى العديدين، على ما يتوقع المرء من طاقم يدخل منطقة، دخولها مقيد ومحدد. لكنها اكتشفت مروة، ابنة بلدة محجة في محافظة درعا السورية. اكتشفت أنها نجمتها لفيلم، أطول. وستصادقها وتسجل كيف تكبر من الطفولة إلى المراهقة.
ترافق مروة شقيقتها آية التي تصغرها بسنتين، وشقيقها محمود الذي يصغرها بست سنوات.
هذا العام صدر فيلم حمل أيضاً اسم "أرواح صغيرة"، لكن مدته ستكون ساعة و25 دقيقة، مستخلصة من تجربة تصوير على مدار أربع سنوات، وستعتمده المخرجة بوصفه السردية الكبرى.
راهنت دينا ناصر على مروة منذ الفيلم القصير ذي التسع دقائق، ورأت فيها الطاقة التي يمكنها أن توصل فيلماً وثائقياً إلى بر النجاح.
هذا ما يمكن تسميته بجماليات الحظ في الفيلم والوثائقي. أي كاميرا تلتقي وجه مروة ستكتشف حظها في الوفرة الهائلة من الطاقة، والجمال، ولغة الجسد الموهوبة، والفصاحة بليلة الريق.
لا تفتقر الشقيقة الصغرى "آية" إلى الفصاحة العفوية وهي تروي كيف أحرق النظام دارهم ذات الطابقين، وهي تسرد بلهجة صافية "حرقوا دارنا. حرقوها شيلة"، أي حرقوها تماماً.
ولا الشقيق الأصغر "محمود" الذي يظهر في سن صغيرة تحممه أمه عارياً، ثم يكبر في مشهد آخر ويستحم وحده، مغطياً عورته بسروال.
بيد أن مروة وحدها حكاية، ووحدها الوجه الذي يمتلك مواصفات، ظهرت في تجربة قصيرة سابقة، فأمسكت المخرجة طرف الخيط، وأدركت أن نجمتها يمكن أن تتوسط الشاشة، وتُترك وحدها تروي، ويترك الفيلم للآخرين حقهم وحصصهم في الرواية، ثم يعود إلى مروة.
جميع عناصر الفيلم تسير وخطوات الفتاة، وهي تتكلم وهي كذلك صامتة. ولو ألغى المشاهد الصوت، فإنه سيعاين بمحبة طريقة مروة في السرد، من خلال اليدين والعينين الآسرتين اللتين تلونان الضوء والماء بالأخضر والعسلي.
ولطفلة تكبر في مخيم صحراوي يكبر، ذاكرة قريبة زمنياً وجغرافياً، ما بين المحرقة التي شاهدتها بعينها، وطريق الموت في سيارة السرفيس إلى المخيم "الجنة".
إن مقابل الجحيم حكماً جنة، لكن العائلة التي قررت التسلل إلى اليادودة (جنوب شرق العاصمة عمان) هربت من إكراهات الجحيم- الجنة في مخيم محمي بقوات أردنية وممول من الأمم المتحدة ومتبرعين كثر.
واليادودة لها مقابل بالاسم ذاته لقرية صغيرة قرب درعا، لكن حركة الناس والعمران يحيلان إلى المدينة درعا. هنا حيث يمكن أن تطل مروة من شباك الشقة وتهمس "سقى الله نرجع". وترجع فعلاً، لكن إلى مخيم الزعتري.
فليس بالحنين وحده يحيا الإنسان، بل بالمال الذي تحصل عليه العائلة، ولا يكفي في عمّان لشراء خضروات، بينما في المخيم يمكن ذلك، بسعر زهيد.
كانت المخرجة تغيب أشهراً، في انتظار أن تسمح لها السلطات بدخول المخيم. وتظهر تسجيلات للمكالمات بينها وبين موظفات يتبعن إجراءات بيروقراطية، ويتركنها في الفراغ إلى أن يأتي الفرج، وإذن الدخول.
في إحدى المرات وجدت البيت مقفلاً في المخيم، وهي المرة التي قررت فيها العائلة شد الرحال إلى اليادودة في عمّان.
غابت المخرجة وعادت فوجدت البيت مقفلاً، والتقت مروة وعائلتها من جديد في المخيم، وهي المرة التي ستحمل التحول المؤسف، حيث استدعي الشقيق الشاب محمد للتحقيق، وسؤاله عن انتمائه لتنظيم إسلامي متشدد، وعن شقيقه سليمان الذي التحق في البداية بالجيش الحر، ثم لم تعرف وجهته بالضبط بعد سنوات.
كانت مروة قد ناهزت الخامسة عشرة، وباتت محجبة، لأنها أصبحت كبيرة، وصغيرة وفق ما تبوح لصديقتها المخرجة دينا. كبيرة ما يستلزم الحجاب، لكن إذا خطبت قالت الأم إنها بعد صغيرة.
لا تريد مروة العودة إلى بلادها، لأنها تعيش هنا، وتثق بالمخيم، ولا تثق مطلقاً في وجودها هناك. هنا مكان صحراوي منبسط آمن، يتيح لها أن تسقط سقوطاً حراً في أي حلم ومن ذلك العودة الحالمة على لوح صفيح، على سجادة باذخة، إلى بيتها ما قبل المحرقة.
أما أن تعود مكرهة، فهو ما لم تحسب حسابه. سقطت صورتها من الإطار في غياب المخرجة التي كانت تنتظر الإذن بدخول الزعتري. حين عادت، كانت مروة مرحّلة مع عائلتها إلى سورية، ولم يعرف عنها بعد ذلك شيء.
هذه التجربة العاطفية التي يتركها الفيلم في متلقيه، سببها نهر الصور الحميمة، والمرحة، في عيون الأطفال وصور المكابدات تحت الخيام التي أمست ألواح صفيح، وصور العواصف الترابية، والوحول، وعفوية العيون الطفولية في البكاء والضحك.
لو تركت المخرجة كل هذا النهر لقال بفصاحة ما يقول. فالصور حتى لو كانت أفقية تملك طاقتها التعبيرية، فما بالك بمشاهد تصاعدت على مدار أربع سنين، وتصاعدت فيها التجربة ولغة الأطفال الذين كبروا في مخيمهم.
غير أن الفيلم اشتغل تحت ضغط التصوير النهاري، المرتبط بالأذون البيروقراطية لدخول المخيم. وكأي مخرج، تطمع دينا ناصر أن تعايش الكاميرا شخوصها، وتحديداً نجمتها مروة، فكان اللجوء إلى مشاهد مدبرة، مثل البالونات التي تملأ الغرفة ويلعب بها الأطفال، أو الطلب منهم أن يغمضوا عيونهم ثم التحدث عن حلم يقظتهم، أو تحميلهم عيدان ألعاب نارية.
كان يمكن التخلي عن هذه المشاهد، لأن شبهة الافتعال تلتقط بحساسية بالغة الدقة لدى المشاهد.
كما أن المونتاج يتحمل مسؤولية عدم وقف المبالغة إطالة مشاهد الأطفال أمام الكاميرا، حتى لا ينتقص من جمالهم.
المعايشة تحت ضغط الوقت المحدد للتصوير تمتحن بصعوبة. مشهد العائلة وهي تكلم الابن سليمان الذي بقي في سورية، وتشاهد طفله الرضيع على سكايب، نادر في الفيلم الذي كانت كاميرته في مواجهة أطفال يتحدثون إليها.
ولأن الوقت يدهمنا دائماً، لم يعد حصاد الكاميرا بين أشهر وأخرى كافياً. وحتى تبتعد المخرجة عن هاجس التصوير الأفقي، ارتأت أن تغوص أكثر في معايشة الأطفال بقيادة مروة، من خلال كاميرا منحتها إياها سراً.
تحصل المخرجة على حصاد مختلف هاوٍ من كاميرا مروة، وهذا يكسبه جماليته العفوية.
لكن السؤال المحمول على المسؤولية الاجتماعية يطرح دائماً بخصوص دورنا. ما الحد الذي نتوقف عنده حين نحصل على مواد فيلمية صورها أطفال، في غياب ذويهم؟
يمكننا أن نغامر، إلا أن المغامرة الإبداعية تترك أثراً أبعد إذا أحسن تدبيرها. أليس الوثائقي "معالجة خلاقة للواقع"؟
مروة وجماليات الحظ السيئ رسمهما القدر، والتقطهما الفيلم.
أما القطع الفجائي الذي طوّح بالفتاة الجميلة إلى داخل الحدود السورية، فقد أنهى الفيلم. سيارة السرفيس التي قطعت الحدود حاملة مروة وعائلتها إلى الزعتري وإلى قلوبنا، هي ذاتها السيارة التي قالت: أنا من يضع الخاتمة التي لن تروها وتوجعكم.