"أكره الحليب"
لم تقنعني نبيلة عبيد كممثلة، كما أقنعتني بدورها في فيلم "توت....توت"، فتاة مختلة عقلياً تتعرض للاغتصاب من أحد وجهاء الحي، لكن أهل الحي البسطاء يأخذون طفلها "ثمرة الاغتصاب"، ويتبركون به، ويحتضنونه مع أمه البريئة، في دعوة للمجتمع إلى عدم محاكمة الضحية، وترك الجاني بلا جزاء. ولأن تصرفهم كان خيالياً بالنسبة لما يحدث في الواقع، لم أنس الفيلم، بتفاصيل مشاهده، منذ إنتاجه في العام 1993. وقد أطلق عليه كاتبه، عصام الشماع، هذا الاسم نسبة إلى صوت مزمار بائع "غزل البنات" الذي كان يجوب الحي، وتتلهف الفتاة المختلة عقلياً (كريمة) على التهام حلواه اللذيذة، ويكون صوت مزماره كفيلاً بأن ينتزعها من عز النوم، أو يجعلها تترك الأعمال الشاقة التي كان يعهد بها أهل الحي إليها، فقد أوتيت قوة جسمانية كبيرة، إضافة إلى جمالها اللافت، لكن تلك القوة لم تمنع تعرضها للاغتصاب، لأنها، ببساطة، لم تكن تعي ماذا يريد الآخرون من جسدها، مثل أي طفلة تتعرض للاغتصاب أو التحرش من الكبار، غرباءَ كانوا أو محارم.
كلما سمعت، أو قرأت، عن حادثة تحرش، أو اغتصاب، أستعيد مشاهد الفيلم، فبراءة المغتصبة كريمة لا تفارق مخيلتي، وسخطي على الجاني مع قلة حيلة للدفاع عن بنات جنسي، تجعلني أسمع صوت مزمار بائع غزل البنات، يتردد في الفضاء " توت.....توت"، ويكاد صوته يصم أذني. وقد سمعته، قبل أيام، بعد رواج خبر محاولة اغتصاب طفلة من غزة من زوج شقيقتها، وهي ليست الحادثة الأولى، وغزة كغيرها من المناطق العربية التي تبتلى بمثل هذه الحوادث أمام قصور القوانين وحماية الجناة والتستر عليهم، وربما إنزال العقوبة على المغتصبة، لأنها الأضعف دائماً. ومثالاً، حكمت محكمة فلسطينية بالسجن المؤبد على مغتصب وقاتل فتاة بعد خمس سنوات على الحادثة، ولم يفسر تأخر القصاص من الجاني الذي اغتصب فتاة عمرها اثنا عشر عاماً، تمتّ له بصلة قرابة، وحين استبان حملها قتلها، فيما يعاد إقرار قانون زواج الجاني من المغتصبة، في دولة عربية أخرى، بهدف إغلاق ملف هذه القضايا. ويعرف من يؤخر القصاص، ويقر هذه القوانين، أنه يرتكب جريمة أخرى بحق الضحية، ولا ينفذ قصاصاً، ولا يقيم عدلاً.
قبل أن أشاهد فيلم "توت .. توت" بسنوات، عرفت فتاة تشبه كريمة، بطلة الفيلم، في الحي الذي شهد طفولتي، حيث تناوب شباب عابثون على اغتصاب فتاة مختلة عقلياً، وألقوا بها أمام بيت عائلتها، في ساعات الصباح الباكر، وقد اعتادت أن تخرج لجمع الحطب من الأحراج القريبة، واجتمع ذكور عائلتها، وقرروا قتلها، لولا أن أفتى بعضهم بحبسها في البيت، ونسيان أمرها حتى تموت.
وقبل أن أشاهد فيلم "توت.... توت"، أيضاً، كرهت الحليب البقري الطازج، وينتابني حتى اللحظة تقلصٌ في أمعائي، بمجرد أن أشم رائحته، أو أسمع صوت البائع الذي يمر في حينا كل صباح، وهو ينادي عليه مروجاً بيعه، لأنه يذكّرني بمأساة فتاةٍ، عاشت وحيدة مع أمها، وكانتا تعتاشان من بيع حليب بقرة تملكانها، حتى وفد لزيارتهما عم الفتاة من بلد عربي مجاور. وفي غفلة من الأم، اغتصب العم ابنة أخيه الصغيرة الجميلة، وحين أيقن حملها قتلها، ودفنها في حفرة عميقة بعيداً عن العمران، قبل أن يغتصبها ثانية، وأمام مرأى عيني الأم التي تبعته باكية، ولم تستطع أن تتحدث بما جرى، لكنها ظلت تهذي بالحقيقة للبقرة الوحيدة حتى ماتت، فاستولى العم على البقرة، وأصبح لديه مزرعة أبقار كبيرة، يدور أولاده وأحفاده كل صباح لبيع الحليب الذي تنتجه المزرعة في أنحاء المدينة. وكلما سمعت صوت أحدهم، أتذكر تلك الحادثة، وأصرخ من أعماقي: أكره الحليب.