لم تكن تتوقع أن تترك مجال التدريس وتنتقل إلى العمل الميداني. من مدرّسة في إحدى المدارس الحكومية إلى سائقة تاكسي في شوارع القاهرة. ربما هي الظروف القاسية التي مرت بها "أم مي"، ما دفعها إلى اختيار مهنة رجولية بامتياز. تستقل سيارة الأجرة صباحاً، تتنقل في شوارع وأحياء مصر، لتقل الفتيات والنساء. تعتبر "أم مي" مثالاً تحدى العادات والتقاليد داخل المجتمع المصري، من أجل تأمين لقمة العيش. فالأوضاع الاقتصادية في بلد كمصر، تحتّم على الجميع العمل في ميادين مختلفة، وأعمال تخرج عن إطار المألوف.
قصة "أم مي"، لا تشبه قصص الواقع المعيشي المصري. فهي تتشارك مع المصريين في ظروفهم الصعبة، وتختلف عنهم في بحثها عن تأمين لقمة العيش.
تركها زوجها بعد صراع طويل مع المرض، مخلّفاً وراءه ثلاث فتيات صغيرات، وكمّاً كبير من الديون، وإيجار بيت، وسيارة تسير بالكاد. لم يساندها أحد، ذاقت الجوع والمهانة، كما تقول، فتركت مهنتها كمدرسة بالحصة في إحدى المدارس الحكومية، إذ إن راتبها لا يتجاوز الـ200 جنيه (28 دولاراً) شهرياً، وهو لا يكفي لشراء الأساسيات اليومية. لم يتبقّ لها سوى السيارة. فكّرت أن تبيعها وتعيش من ثمنها أشهراً قليلة، لكنها تراجعت، متسائلة ماذا سيحدث بعد نفاد النقود، ومن أين سأتدبّر أمر عائلتي واحتياجات الفتيات الصغيرات؟ تقول: " قررت البحث عن عمل مستقل، فوجدت أن استخدام السيارة والعمل عليها كسائقة تاكسي، الحل الوحيد أمامي".
مهنة مختلفة
العمل كسائقة تاكسي في بلد كمصر، أمر غير مألوف. فقد اعتدنا أن يقوم الرجال بهذه المهنة، نظراً للتحديات التي تفرض على السائقين. تقول "أم مي": "في البداية، لجأت إلى أحد السائقين ليعمل عليها ويمنحني حصة قليلة من المال، لكنه استغلّ ضعفي وقلّة حيلتي، وبدأت أشعر أكثر بالضائقة المالية، حيث تتراكم الديون، إلى أن قررت خوض غمار التجربة".
تتابع: "رفض أشقائي الأمر وقطعوا علاقتهم بي، لكني أصررت. نزلت إلى الشوارع بعد الثورة في قمة الانفلات الأمني، استعنتُ بسكين مطبخ صغيرة، وقد تعرّضت للكثير من المواقف السيئة مع الزبائن. فعلى سبيل المثال، رفض أحدهم منحي ما أستحقه من مال مقابل توصيله إلى إحدى المناطق البعيدة. وعندما اعترضت، قام بالاعتداء عليّ".
وتضيف: "كما تعرضت لمزاحمة أبناء المهنة من الرجال. حاولوا كسري بكل الطرق. عرض عليّ أحدهم الزواج، فرفضت. فأنا على قناعه بأنه لا أحد يمكنه تحمّل ثلاثة أطفال ليسوا أبناءه".
في شوارع القاهرة المزدحمة دائماً تسير "أم مي" لتنتقي زبائنها من السيدات، تقول: "وجدت أن أفضل وسيلة لتجنب المشاكل هو انتقاء السيدات والفتيات".
تقابلك بابتسامة تضاهي رغبتها في الحياة وتأمين مستقبل بناتها. رائحة مميّزة لسيارتها، وحكايات عديدة عن الحياة والشارع والسياسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمصريين تحدثك بها، فلا تشعر معها بزحام الشوارع ولا بأزمة المرور.
تقول "أم مي": "علمني زوجي قبل رحيله قيادة السيارات، وكأنه كان يعلم أن السيارة ستكون مصدر رزقي الأساسي. ولكن الأمر اختلف تماماً. فالعمل كسائقة تاكسي في مصر أمر مختلف. يجب أن نتعلّم فنون كسر القوانين والسرعة واللف في الحواري والشوارع الجانبية. فالزبون لا يريد الانتظار، وإلا النتيجة التوجه لسائق آخر". وتشير إلى أنها تعلّمت "الفصال" وحساب المسافات ودفع الرشوة و"ملاغاة" أمناء الشرطة للتهرّب من الغرامات.
تشير "أم مي" إلى أنها واجهت الكثير من الصعوبات في البداية، "فقد انتابني الخوف من أن يتعرّض لي أحد المجرمين، أو تُسرق سيارتي. ولكن بعد فترة قليلة، دفعتني الحاجة إلى المواجهة والاستمرار. تحايلت على حوادث السرقة والانفلات الأمني، كما أنني لم أتوجه إلى مناطق بعيدة عن وسط البلد وضواحيها".
تؤكد أن العمل طوال النهار ليس أمراً يسيراً في ظل وجود ثلاث فتيات صغيرات، تحتاج كل واحدة منهن إلى الرعاية والاهتمام، "فاتفقت مع سائق آخر على أن يتسلّم مني التاكسي ليلاً. أعلم جيداً أنه يسرقني، ولكن في كل الأحوال أفضّل أن أستفيد ولو قليلاً من السيارة في الليل، فمصاريف المنزل لا تنتهي"، بحسب قولها. تؤكد "أم مي" أنها باتت اليوم أقوى، "فمع الوقت تقبّل الجميع عملي كسائقة تاكسي. تعرّفت على عشرات الزبائن الذين يطلبونني بالاسم. حتى أن السائقين الرجال بدأوا يتقبّلون وجودي معهم في الموقف، وأنا اليوم أجاهد لتأمين لقمة العيش".
إقرأ أيضا: الإمبراطور ميجي.. و"زايباتسو"