05 أكتوبر 2024
"حقق البعث كلّ آمال شعبي"
كتب الشاعر المرحوم أحمد إبراهيم عبد الله، في جريدة الكلب الساخرة التي كان يحرّرها ويصدرها المرحوم صدقي إسماعيل، وتابع إصدارها بعده غازي أبو عقل:
لا تخافوا على الطفولة شيئاً/ في بلاد حكامها أطفالُ
حقق البعث كلّ آمال شعبي/ فإذا الشعب ما له آمالُ
سقط البعث في العراق رسوباً/ وهو في الشام عنده إكمالُ.
حضرتني هذه الأبيات، بينما كنت أبحث في "غوغل" عن دستور حزب البعث، باعتبار أن السابع من إبريل/ نيسان يوم إعلان دستور حزب البعث العربي الذي أسّسه في دمشق كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار، قبل أن ينضج ويكتسي ملامحه النهائية الناضجة صاحبة السيادة، ويصبح باندماجه مع حزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني، اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1952. ما إن كتبت في مربع البحث: حزب البعث... حتى انسدلت قائمة "غوغل" فائقة اللباقة بعرضها السريع لما لديها يغنينا عن مغبّة البحث المطوّل، عدة عناوين متتالية كان فيها اثنان يثيران الضحك حدّ البكاء، وربما البكاء حدّ الضحك: دستور حزب البعث العربي الاشتراكي السوري، ودستور حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي. وللحقيقة والإنصاف، لم تكن هناك فروق أبداً بينهما، إلاّ في استهلال بسيط للنسخة العراقية، كما وردت في الموقع، يقول: افتتحت الجلسة الثانية من أعمال المؤتمر التأسيسي للحزب، استهلها القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق (رحمه الله). علماً أن عفلق لم يكن قد أشهر إسلامه كما تقول الحكاية عنه لاحقاً. يبقى هذا التفصيل ثانوياً، خصوصاً أنه الفرق الوحيد، أمّا النص الدستوري الكامل فقد كان نسخة كربونية عن بعضه، لم يفرّق بين قطرين شقيقين، اعتنقا عقيدة الحزب الذي يعرّف نفسه بأنه حزب انقلابي، فتحوّلا إلى أكبر خصمين في النصف الثاني من القرن المنصرم، بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة بانقلاب عسكري برهاناً دامغاً على انقلابيته التي ضمنها الدستور.
أمّا المبدأ الأول فجاء فيه أن "الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي"، لكن هذا الوجدان العربي فقد قواه، بسبب يقظته القسرية على مدى العقود الماضية، وبقائه بلا إغفاءة قصيرة، حتى يستعيد نشاطه وعافيته، فخارت قواه وانهار، قبل أن يدرك ذاته ويفهم ما معنى "الوجدان العربي"، من أجل أن تكون لهذه الأمة ثقافة مشتركة، لم يستطع ضمان الاشتراك فيها بين قطرين متجاورين، تبوّأ عرش السلطة في كل منهما.
وكان الحزب صريحاً بدستوره، بنسختيه السورية والعراقية، لأنه "يسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين (العرب) المساواة المطلقة أمام القانون، والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً، ويهيّئ لهم بذلك حياةً حرّةً ضمن نطاق القوانين". فماذا فعل هذا البند الضامن لحق العروبة بالمجتمعات الغنية تاريخياً بتعدديتها، خصوصاً لسورية والعراق؟ وكم من التهميش والإقصاء والنكران والعنف أيضاً مورس بحق من ينتمون إلى قومياتٍ مغايرةٍ تحت حكم "البعث" في البلدين؟ وهل الأصوات الداعية إلى الانفصال حيناً، وإلى الفيدرالية حيناً آخر، يمكن نكرانها على أصحابها وكتمها وإغفال أن سبباً رئيساً ودافعاً قوياً لها هو الخطاب الإقصائي الذي نادى به دستور "البعث"، بل ومارسته الأنظمة التي امتطته حصاناً تمّ ترويضه لخدمة مصالحها؟
وبما أن "الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته"،
كان لا بدّ من اعتبار "النسل أمانة في عنق الأسرة أولاً، والدولة ثانياً، وعليهما العمل على تكثيره والعناية بصحته وتربيته". وهذا يتطلّب أن يكون "الزواج واجباً قومياً، وعلى الدولة تشجيعه وتسهيله ومراقبته". فكيف يمكن فهم الزواج على أنه واجب قومي؟ كيف يمكن السطو على قضيةٍ شخصيةٍ، تحتاج من أجل تحققها إلى قرار ذاتي وإرادة حرة، من يستطيع أن يفرض على الفرد أمر زواجه؟ بدلاً من السعي إلى نبش المشكلات الاجتماعية التي تقيّد موضوع الزواج، وتدفعه إلى أن يكون مواكباً لتطور الحياة الاجتماعية باحتوائه ضمن قوانين مدنية، تساهم في رفع الغبن الذي يلحق الإرادة الذاتية للأفراد، بسبب الأعراف والضوابط الدينية. وأي حداثةٍ يمكن أن تواكب تطور العالم، تدعو إلى تكثير النسل في عصر التقنيات الفائقة والفاقات والمجاعات والأزمات الغذائية والحياتية التي تعاني منها الشعوب الساعية إلى أن تنهض من كبوتها، وتمشي في طريق التنمية؟ هل ما زال العالم يعيش في عصر الإقطاعات والزراعة البدائية التي تتطلب تكثير النسل، لتلبية متطلبات الأرض والحياة الزراعية؟
لست بصدد تقويم أنظمة الحكم القمعية الشمولية التي اتخذت من حزب البعث عقيدة، وفرضته القائد الأوحد للدولة والمجتمع، ولا عن ممارسات هذه الأنظمة التي نسيت، من ضمن ما نسيت وتناست، أن دستور الحزب يعلن أيضاً أن "حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة ان تنتقصها"، وأن أول شيء مارسته هذه الأنظمة هو ملء سجونها بمعتقلي الرأي، منذ سطوتها على الحكم، وشل الحياة السياسية، وتسخير منابر الإعلام والمعرفة لخدمتها، وأخيراً ملاقاة الجماهير المطالبة بهذه الحريات بطريقةٍ سلميةٍ بالرصاص على صدورها العارية، فاستولدت أكبر موجة عنف وتطرّف، حتى غرقت البلاد بمستنقعات الدماء. لكن، ما يجب قوله هو إنه آن لهذا الحزب الذي شاخ دستوره ومنطلقاته النظرية وتجربته، وتوقف عن تطوير نفسه لمواكبة تطلعات الشعوب المتغيرة مع تغيّر العالم، آن له أن يتقاعد، حتى إنه تجاوز عمر التقاعد القانوني بأعوام عديدة. قارب السبعين عاماً، ولا زال في سورية، على الأقل، مصرّاً على أن يكون القائد الوحيد للدولة والمجتمع، ويتدخل حتى في أمر الزواج، مستنداً على دوره الحامي للقومية العربية، وصار الشعب بلا آمال.
بعد سقوط بغداد واحتلالها من الأميركان وإشهار إعلان اجتثاث "البعث"، توفي أحد المؤسسين الأوائل في سورية، وعندما ذهبت إحدى قريباتي للتعزية به قالت لصاحبة العزاء: البقية بحياتك، يكفيه أنه عاش وشهد ميلاد البعث وموته.
لا تخافوا على الطفولة شيئاً/ في بلاد حكامها أطفالُ
حقق البعث كلّ آمال شعبي/ فإذا الشعب ما له آمالُ
سقط البعث في العراق رسوباً/ وهو في الشام عنده إكمالُ.
حضرتني هذه الأبيات، بينما كنت أبحث في "غوغل" عن دستور حزب البعث، باعتبار أن السابع من إبريل/ نيسان يوم إعلان دستور حزب البعث العربي الذي أسّسه في دمشق كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار، قبل أن ينضج ويكتسي ملامحه النهائية الناضجة صاحبة السيادة، ويصبح باندماجه مع حزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني، اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1952. ما إن كتبت في مربع البحث: حزب البعث... حتى انسدلت قائمة "غوغل" فائقة اللباقة بعرضها السريع لما لديها يغنينا عن مغبّة البحث المطوّل، عدة عناوين متتالية كان فيها اثنان يثيران الضحك حدّ البكاء، وربما البكاء حدّ الضحك: دستور حزب البعث العربي الاشتراكي السوري، ودستور حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي. وللحقيقة والإنصاف، لم تكن هناك فروق أبداً بينهما، إلاّ في استهلال بسيط للنسخة العراقية، كما وردت في الموقع، يقول: افتتحت الجلسة الثانية من أعمال المؤتمر التأسيسي للحزب، استهلها القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق (رحمه الله). علماً أن عفلق لم يكن قد أشهر إسلامه كما تقول الحكاية عنه لاحقاً. يبقى هذا التفصيل ثانوياً، خصوصاً أنه الفرق الوحيد، أمّا النص الدستوري الكامل فقد كان نسخة كربونية عن بعضه، لم يفرّق بين قطرين شقيقين، اعتنقا عقيدة الحزب الذي يعرّف نفسه بأنه حزب انقلابي، فتحوّلا إلى أكبر خصمين في النصف الثاني من القرن المنصرم، بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة بانقلاب عسكري برهاناً دامغاً على انقلابيته التي ضمنها الدستور.
أمّا المبدأ الأول فجاء فيه أن "الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي"، لكن هذا الوجدان العربي فقد قواه، بسبب يقظته القسرية على مدى العقود الماضية، وبقائه بلا إغفاءة قصيرة، حتى يستعيد نشاطه وعافيته، فخارت قواه وانهار، قبل أن يدرك ذاته ويفهم ما معنى "الوجدان العربي"، من أجل أن تكون لهذه الأمة ثقافة مشتركة، لم يستطع ضمان الاشتراك فيها بين قطرين متجاورين، تبوّأ عرش السلطة في كل منهما.
وكان الحزب صريحاً بدستوره، بنسختيه السورية والعراقية، لأنه "يسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين (العرب) المساواة المطلقة أمام القانون، والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً، ويهيّئ لهم بذلك حياةً حرّةً ضمن نطاق القوانين". فماذا فعل هذا البند الضامن لحق العروبة بالمجتمعات الغنية تاريخياً بتعدديتها، خصوصاً لسورية والعراق؟ وكم من التهميش والإقصاء والنكران والعنف أيضاً مورس بحق من ينتمون إلى قومياتٍ مغايرةٍ تحت حكم "البعث" في البلدين؟ وهل الأصوات الداعية إلى الانفصال حيناً، وإلى الفيدرالية حيناً آخر، يمكن نكرانها على أصحابها وكتمها وإغفال أن سبباً رئيساً ودافعاً قوياً لها هو الخطاب الإقصائي الذي نادى به دستور "البعث"، بل ومارسته الأنظمة التي امتطته حصاناً تمّ ترويضه لخدمة مصالحها؟
وبما أن "الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته"،
لست بصدد تقويم أنظمة الحكم القمعية الشمولية التي اتخذت من حزب البعث عقيدة، وفرضته القائد الأوحد للدولة والمجتمع، ولا عن ممارسات هذه الأنظمة التي نسيت، من ضمن ما نسيت وتناست، أن دستور الحزب يعلن أيضاً أن "حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة ان تنتقصها"، وأن أول شيء مارسته هذه الأنظمة هو ملء سجونها بمعتقلي الرأي، منذ سطوتها على الحكم، وشل الحياة السياسية، وتسخير منابر الإعلام والمعرفة لخدمتها، وأخيراً ملاقاة الجماهير المطالبة بهذه الحريات بطريقةٍ سلميةٍ بالرصاص على صدورها العارية، فاستولدت أكبر موجة عنف وتطرّف، حتى غرقت البلاد بمستنقعات الدماء. لكن، ما يجب قوله هو إنه آن لهذا الحزب الذي شاخ دستوره ومنطلقاته النظرية وتجربته، وتوقف عن تطوير نفسه لمواكبة تطلعات الشعوب المتغيرة مع تغيّر العالم، آن له أن يتقاعد، حتى إنه تجاوز عمر التقاعد القانوني بأعوام عديدة. قارب السبعين عاماً، ولا زال في سورية، على الأقل، مصرّاً على أن يكون القائد الوحيد للدولة والمجتمع، ويتدخل حتى في أمر الزواج، مستنداً على دوره الحامي للقومية العربية، وصار الشعب بلا آمال.
بعد سقوط بغداد واحتلالها من الأميركان وإشهار إعلان اجتثاث "البعث"، توفي أحد المؤسسين الأوائل في سورية، وعندما ذهبت إحدى قريباتي للتعزية به قالت لصاحبة العزاء: البقية بحياتك، يكفيه أنه عاش وشهد ميلاد البعث وموته.
مقالات أخرى
24 سبتمبر 2024
13 سبتمبر 2024
04 سبتمبر 2024