للوهلة الأولى، يظهر زياد عدوان في مسرحيّته الناطقة بالإنكليزية "ردّد معي لو سمحت" Please, repeat after me، كمن يجمع كل التنميطات الثقافية السائدة في قبضة، وكحجارة النرد، يرمي بها دفعة واحدة على خشبة "المسرح الإنكليزي English Theatre" أمام الحاضرين في العاصمة الألمانية برلين؛ فمن بين ركام الحروب، وركاب اللجوء، يحلّ الحكواتي على دفعتين؛ واحدة online وتالية offline، كما تظهر المرأة المُحجّبة عارية القدمين وعابرة الجنسيَن والمرأة السافرة المُضطربة. في سلّة زياد كل ما ينتظره العربي والغربي، المُشاهد والمموّل وعاشق الفلافل من أيّ عرض مسرحي سوري في المهجر، ذلك كله، فقط، للوهلة الأولى.
بيد أن السيناريو المكتوب والمُرتجل الذي أعدّه وأخرجه زياد بنفسه، سرعان ما يكشف من وراء باقة الكليشيهات تلك عن مستويات أكثر عمقاً ومُعالجاتٍ أبلغ تعقيداً وأسئلة أشد جرأةً وإلحاحاً، لعل أبرزها ربما: هل يحقّ "للآخر" السوري أن يضَحك ويُضحِك "النحنُ"، هل يحق "للآخر" السوري أن يسخر من نفسه ومن "النحن"؟ هل يُسمح له بأن يكون الملهاة؟ أم قدره أن يظلّ المأساة؟ أن يستجرّ العطف ويستدرّ الهبات، أن يستدعي التصريحات، باسمه تُعلن أو تُدان التدخلّات، تُحمد وتُشجب الانسحابات والانكفاءات، وحوله تُعقد المشاورات ولأجله تُقام الحفلات والمُلتقيات، وكرمى له تُنصب المنّصات، والخيام! وكأن لزاماً عليه على الدوام أن يبقى نذيرَ نهاية العالم في عالمٍ لا يُبالي. لمَ لا يحق للسوري هو "الآخر" أيضاً، ولو قليلاً، ألا يُبالي؟
ضمن إطار أسلوبيّ لدِن قابل لضمّ جمع الحضور في الصالة، تُمكن عنونته بـ"واقعية سوريالية" Syrialist realism (من Syria)، ترى زياد عدوان وفريق المُمثّلين يعتمدون أسلوب الإرباك بغية اقتحام الحواجز بين المجلس والمسرح، العتبة والخشبة، بين الواقع والخيال، وبين باطن النص المكتوب وظاهر الحوار المُرتجل. كلٌّ من الارتباك كحال ماثل، والارتجال كحلّ عاجل، هي سماتُ الحياة اليومية للسوري. لعل إرباك المُشاهد، إذن، ما هو إلا دعوته لاختبار حال الشتات من الداخل النفسي العميق، إنه كمنظار واقع افتراضي ثلاثي الأبعاد تلبسه فترى الحياة من منظور المنكوب، "صندوق فُرجة" تدخله كي تتفرّج منه لا لكي تتفرّج عليه.
مَسرحةُ النصف - جودة Staged Mediocrity تبدو وسيلةً أخرى للسخرية من الذات ومن "الأخرنة" othering في الآن نفسه. كأن زياد عدوان في "ردد معي لو سمحت"، يتوازى مع زياد الرحباني في "شي فاشل"، وتلك صدفةٌ إبداعية لا تخلو من دلالة مرتبطة بالظروف التاريخية المُحيطة بكل من العملين المسرحيّين. فلبنان الحرب الأهلية عام 1983 شبيه بسورية 2012، من حيث أن أي تجسيد مُنمّق ومُتقن للواقع سيُمثّل في الحقيقة اعتداءً عليه؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه، وفاقد البصيرة بالضرورة وفي غمار كل هذا الهول يُزيّف كلاً من نفسه والحدث، إن هو ادعى الاحتراف والاتقان في زمان العبث.
توازٍ آخر، هذه المرة بين زياد عدوان والراحل ممدوح عدوان (1941 - 2004)، أبو زياد، الشاعر والناقد والكاتب المسرحي. على الرغم من كون كلّ من زياد وممدوح عدوان مسرحيّين سوريّين، إلا أن سورية ممدوح لم تعد نفسها سورية زياد. ففي حين عاصر ممدوح زمن التشكّل والتصلّب، يُعاصر زياد زمن التفسّخ والتحلّل، في حين تموضع ممدوح ضمن مشروع نقدي إزاء الدولة الوطنية الناشئة زمن الحرب الباردة والصراع العربي الإسرائيلي، يبحث زياد عن رؤية نقدية إزاء حقبة ما بعد الدولة الوطنية وسيولة العولمة في ظل العجز عن اقتناء الأدوات الفكرية سبيلاً نحو إدراك واقعٍ سياسي واجتماعي لا يزال قيد الولادة interregnum.
ملامح تلك الرؤية تتبدّى في الحدث السوري عينه، عندما بدأت شريحة وُسطى صاعدة من الشباب تشعر باغترابها عن مؤسسات الدولة القمعية عقيدةً وممارسةً، وبحدسٍ جمعي استشرفت تلك الطليعة ولادة قادمة لواقع جديد، لعلّ أولئك هم "الحالمون الصغار Young Dreamers" حاملو الأسرار لمّا أتى ذكرهم على لسان الحكواتي الذي يؤدي دوره المُمثل والمُغنّي شادي علي، حين يروي قصّته الملحمية عن أرض الأسرار، استعادةً ربما للأدب الصوفي في الحديث عن "حملة السر"، يُؤمّم زياد (من إمام)، من خلال نص الراوي، الحالمين الصغار، حاملي الأسرار ليقودوا مواجهة وجودية مع نظام الاستبداد، فيبدو المشهد كالآتي: الشعب السرّي بمواجهة الدولة السرية، الواقع الوليد بمواجهة ماضٍ في هيئة واقع بليد يحمل في جسمه منذ زمن بعيد أنزيمات تآكله.
تحتمي الدولة السريّة في خضمّ اشتباكها مع الشعب السرّي خلف مفهوم "السيادة Sovereignty"، كما يستطرد نص زياد على لسان الراقص والمُمثل عناد معروف، في واحدٍ من مونولوغاته؛ تُمسي السيادة احتكاراً للقتل وبالتالي مسوّغاً له. لكن سيولة العالم الراهن وسهولة تمدد رقعة التمرّد الشعبي وانتقالها عبر الحدود الصلبة، كل ذلك جعل من الدولة السرية في حملتها على "حَمَلة الأسرار" تنزلق نحو خيارٍ "شمشوني". القوى الكولونيالية بدورها باتت تشعر بالقلق إزاء نجاعة السيادة في تسويغ القتل، لذا، هي إما أن تهمّ بالتدخل المُباشر في النزاع أو تكتفي بالتفرّج تواطؤاً، عسى النار أن تُخمِد النار، وبالتالي تمنع انتقال الأسرار إلى عقر الدار وتبذّرها في تربة حديقتها الخلفية، لتغرق في رمال الأسرار كما غرق اللاجئون في عباب المتوسط.
خطٌ أمامي للمواجهة بين الدولة السريّة وشعب الأسرار يكمن في الصراع على امتلاك الرواية الكُبرى Grand Narrative، يتجلّى الصراع رمزياً ربما عند تمام الحبكة الدرامية من مسار العرض في مشهد عراك الراوي مع من انتحل شخصيَّته، وهو المُمثل عطالله آكِن جي Atilla Akinci، قد تكون تلك إشارةٌ إلى أن ظاهرة الوقائع الموازية Alternative Facts، أو ما بات يُعرف بزمن ما بعد الحقيقة Post Truth كانت قد بدأت أول ما بدأت مع بداية الانتفاضة السورية، حين تخندق كل طرف، معارضٍاً للنظام أو موالياً له، خلف روايتين مُتناقضتين لمسار الأحداث، من منظور نقدي تشاؤمي، يبدو العراك على "طربوش الراوي" في ظل تغييب الحقيقة، كأن به سيُحسم في نهاية الأمر لصالح القوي المُنتصر، أو المُستقوي المُستنصر بغياب العدالة الدولية أو تغييبها هي الأخرى.
تجدر كل من الإشارة والتذكرة بأن المسرحية "ردد معي لو سمحت Please, Repeat After Me" من كتابة وإخراج زياد عدوان، أداء سيلين قوق Celin Kawak، غيزَم أقماني Gizem Akmani، عطالله أكِن جي، عناد معروف، شادي علي وحسين الشطحه لي، سينوغرافيا وفوتوغرافيا تيريزا شايتسنّامر Theresa Scheitzenahmmer، تصميم الإضاءة راينر لودفيغ Reiner Ludwig، موسيقى يُمني أبو الذهب، تصميم رقصات ميّ سعيفان، غرافيك سلاف حجازي وتمام عزام. عُرض العمل أخيراً على المسرح الإنكليزي في برلين، في 22 و23 من الشهر الحالي.