كنت أحد المعترضين في مقال تجنّبت فيه انتقاد "هتك الخصوصيات" –ربما يتّسق ذلك مع توقي الدائم للفضيحة بوصفها تجلّي المعنى-، لاعتقادي أن الكشف عن رسائل حب بعد رحيل صاحبها ومن دون إبراز ردود الطرف الآخر سببان كافيان للاعتراض، حينها.
لكني بتّ أنظر اليوم إلى موقفي ذلك باعتباره مقاربة أخلاقية تفترض "ثوابت" لا وجاهة لها في تلقّي الإبداع الذي هو تكثيف خروجنا عن الواقع وإحداثياته، أو عند دراسة المبدعين حيث خصوصياتهم وزلاّت ألسنتهم وحياتهم السرية التي هي نص موازٍ يُقدَّر دارسوه ولا يُلام فضولي لتلصّصه عليه.
بعد نشر "دفوعي" عن غسّان باغتتني زميلة في الصحيفة حيث أعمل، بردٍّ من غادة تشكرني على مقالي وتضيف بأنه "يوضّح لها أكثر كيف يُفكّر مجتمعنا". كانت عبارة مستفزّة لمتشكّك مثلي بوظائف الصحافة وأدوارها، وتذكّرت على الفور توصيفاً لصاحب "القبعة والنبي" استللته من رسائله إليها يقول فيه: "أعمل في الصحافة كما كان يعمل العبيد العرايا في التجديف".
خلال السنوات اللاحقة، تأمّلت كنفاني أكثر على ضوء رسائلها وفي سياق شهادات تُروى عنه، لأتلمّس في أكثر من أثر له رفضاً جذرياً لمسلّمات عديدة، ربما في مقدّمتها استنكاره أن يتحوّل إلى أيقونة تحجب رؤيته، إذ آمن أن للمثقف الملتزم بقضايا نضاله حياةً كاملةً؛ بقوته وضعفه وصوابه وخطاياه وأيام كدّ وعمل وليالي سهرٍ وأنس.
كان صادقاً ومُخلصاً في كلّ تناقضاته، ومتجاوزاً لفصامات مجتمع يُبطن خلاف ما يُعلن، وطالما اعتقدت أن شجاعته تؤهّله للاعتراف لو أنه عاش أطول من أعوامه الستة والثلاثين، وهي قراءة قد تُجاور غيرها في احتمالات خيرُ من يدّل عليها رسائله.
مياهٌ كثيرة جرت تحت الجسر، حتى ظهرت منذ أيام رسائل أنسي الحاج إلى غادة التي سبقت في تسلسلها الزمني رسائل غسّان بسنوات ثلاث، وعادت الضجّة إياها لقرّاء ونقّاد يستهجنون "خرق الحُرمات"، ويعيدون أسئلة - كانت تستبدّ بي في زمن ماضٍ - عن توقيت النشر، خاصة بعد موت كاتبها، وكلّها ملاحظات تؤشّر على مخاوف تتّصل بفقدان صورة "الآباء" أو أيقونات لرموزٍ - للدقّة - نخاف أن نقع على أفعالهم وسلوكياتهم في الحب أو غيره من الانفعالات التي تقع في دائرة المحرّم في مجتمعاتنا.
أول ردّة فعل لجموع الخائفين تبدأ بالإنكار ثم تدخل في خانة التبرير التي لا حدود لها؛ التذرّع بحماية الخصوصية ثم اتهام الطرف الآخر باتهامات غير صحيحة أو خارج موضوع النقاش، كلّ ذلك ابتعاداً عن مواجهة إحدى حقائق بشريّتنا والتصالح معها.
غير أن الحال بالنسبة لـ أنسي تشي ببعض الاختلاف، حيث عشقه عابر ولم يستدع بوحاً وتداعيات في رسائله التي أظهرت اندفاعاً وهياماً سرعان ما خبا بسبب صدّ غادة - عدم الردّ عليه -، خلافاً لغسّان الذي تحدّث بفيض عن ضعفه الإنساني ومرضه (النقرس) ورؤيته الصريحة للصحافة والثقافة والسياسة والنضال وأناس عايشوه.
"رسائل" حُجبت زمناً ثم عادت إلينا، ولا خيار إلاّ بتأمّلها كنصوص موازية لكتّابها تكشف جوانب من حياتهم ودوافع الكتابة عندهم للخروج من دوّامة الإنكار.