19 أكتوبر 2019
"سَكَنةُ المريخ البرونزيّون"
نشر الكاتب البولندي ستانسوف ستراسبورغر، في العام 2010، تحقيقا بعنوان "كلنا ألمان أليس كذلك؟.. دروس حول النازيّة" في مجلة شهرية بولندية للمرأة، تناول ردود أفعال طلاب ألمان يافعين بشأن التاريخ النازيّ قبل الحرب العالمية الثانية، الموغل في القسوة والبشاعة والإجرام، وعن أهمية التذكير الدائم به بالنسبة لجيل شابٍّ لم يعد قادراً أو معنيّاً بالتكفير عمّا قام به أجدادهم أو أجداد أجدادهم. وقد أورد كاتب التحقيق وصفا لرسم كاريكاتوري موجود في منهاج التاريخ المقرّر على التلاميذ حينها: "جدُّ ضخم الجسم يجلس على كرسي، ويوحي بأنه لا يطيق أي اعتراضٍ على ما يقول. يقف أمامه حفيده، وهو نحيفٌ صغير الجسم، يرفع رأسه إلى الأعلى بكبرياء، وقد ظهر على وجهه الخوف، لكنه يضع يديه في جيبه. يقول الجد: وفي تلك الأثناء سنة 1933، ظهر في بلادنا (سَكَنةُ المريخ البرونزيّون)، وكانت أعدادهم كبيرة جداً. كانوا يبطشون بالناس وينهبون في كلِّ مكان حيثما وُجدوا. مرَّ بعض الوقت. وفي 1945 اختفى كلّ (سَكَنة المريخ البرونزيّين)، ولا أحد يعرف، حتى يومنا هذا من أين جاؤوا وماذا جرى لهم".
هم (سَكَنةُ المريخ البرونزيّون) إذاً، ولم يكونوا ألماناً أو حتى بشرا يقطنون هذه الأرض ويتوالدون، ولا أحد يحمل جيناتهم ليكفّر عن ذنبهم علانية. وعلى الرغم من أن كل الإحصائيات، حسب ستراسبورغر، تقول إنّ "عدد الألمان الذين كانوا على استعداد لمقاومة النازية يتراوح بين 20 إلى 40 ألفا فقط"، إلا أن معظم الألمان الذين التقاهم ستراسبورغر في حياته، ونلتقي بهم في كل مكان في ألمانيا وما حولها، يدّعون أنهم أبناء هؤلاء! ومن حقاً يستطيع تكذيبهم، أو نفي ذلك بعد مرور أكثر من ثمانين سنة؟
ربما لن يخطئ اليوم رسّام كاريكاتير سوري، إذا ردّ على تلك اللوحة بأخرى، تقول إن (سَكَنة المريخ البرونزيّين) عادوا إلى الأرض، لكنهم هذه المرة حطّوا بمركباتهم في سورية، وهم كثيرون جدا ويبطشون بالناس وينهبون في كل مكان حيثما وُجدوا، وعندما تنتهي الحرب سيغادرون إلى المريخ، ولن يعرف أحدٌ من أين جاؤوا، وماذا جرى لهم.
وحدهم من سنعرف تواريخ اعتقالهم وموتهم وتهجيرهم هم المدنيون؛ الضحايا الحقيقيون لكل الحروب. وربما وكي لا ننسى، سنصنع، نحن السوريين الناجين، "أحجار عثرة" أو "مطبّات" كالتي يصنعها الفنان الألماني غونتر ديمينغ، بناءً على طلب أسر الضحايا، على شكل لوحات نحاسية (10× 10سم) يحفر عليها لقبَ الضحية وتاريخ ولادتها ومكان الولادة، إضافة إلى تاريخ الوفاة ومكانها وطريقتها إذا كانت معروفة. وربما نضعها على واجهات البيوت، وليس على الأرصفة كما يفعل الألمان، كي لا ندوسها بأقدامنا وتتآكل مع الزمن.
ليست المقارنة صحيحة تماماً، وأن كثيرين ممن يساهمون اليوم في المقتلة السورية ليسوا سوريين، إلا أن المقاربة تصحّ مع أعداد كبيرة جداً من السوريين الذين ساهموا، بشكل مباشر أو غير مباشر، تحت راية نظام الأسد، أو تحت الرايات السوداء المختلفة، في استمرار الموت المجاني على كل الخريطة السورية بمجازر اختلفت دوافع منفذيها، كما تنوّع شكل السلاح المستخدم فيها، وتشابهت جميعها بلون الدم المُراق ورائحته السورية. قد نتفاءل لنقول إن القادة العسكريين وأمراء الحرب والمحرّضين على القتل أو مصدّري الأوامر سيحاسبون يوماً، لكنّ كثيرين ممن هم في مستوياتٍ أدنى من المسؤولية (كما حصل في ألمانيا) سيخبئون رؤوسهم تحت ذيولهم ويلوذون بالإنكار، بل ربما بالتكفير عما فعله "الآخرون".
الموجع اليوم أن بعض (سَكَنة المريخ البرونزيّين) الذين يدمّرون سورية منذ 2011 أو ما قبلها، لم ينتظروا نهاية الحرب كي يغادروها، بل اكتفوا بما أنجزوه خلال سنوات، وهبطوا في بلدان العالم كله، لكنهم فقط خلعوا أجسادهم الفضائية، واكتسوا بأجسادٍ تقدّم نفسها سورية، وتتحدث في كل دول الشتات واللجوء، وعلى منابر سياسية أو ثقافية، عن رحلات لجوء محفوفة بالمخاطر هربا من (سَكَنة المريخ البرونزيّين) الذين يغتصبون سورية.
هم (سَكَنةُ المريخ البرونزيّون) إذاً، ولم يكونوا ألماناً أو حتى بشرا يقطنون هذه الأرض ويتوالدون، ولا أحد يحمل جيناتهم ليكفّر عن ذنبهم علانية. وعلى الرغم من أن كل الإحصائيات، حسب ستراسبورغر، تقول إنّ "عدد الألمان الذين كانوا على استعداد لمقاومة النازية يتراوح بين 20 إلى 40 ألفا فقط"، إلا أن معظم الألمان الذين التقاهم ستراسبورغر في حياته، ونلتقي بهم في كل مكان في ألمانيا وما حولها، يدّعون أنهم أبناء هؤلاء! ومن حقاً يستطيع تكذيبهم، أو نفي ذلك بعد مرور أكثر من ثمانين سنة؟
ربما لن يخطئ اليوم رسّام كاريكاتير سوري، إذا ردّ على تلك اللوحة بأخرى، تقول إن (سَكَنة المريخ البرونزيّين) عادوا إلى الأرض، لكنهم هذه المرة حطّوا بمركباتهم في سورية، وهم كثيرون جدا ويبطشون بالناس وينهبون في كل مكان حيثما وُجدوا، وعندما تنتهي الحرب سيغادرون إلى المريخ، ولن يعرف أحدٌ من أين جاؤوا، وماذا جرى لهم.
وحدهم من سنعرف تواريخ اعتقالهم وموتهم وتهجيرهم هم المدنيون؛ الضحايا الحقيقيون لكل الحروب. وربما وكي لا ننسى، سنصنع، نحن السوريين الناجين، "أحجار عثرة" أو "مطبّات" كالتي يصنعها الفنان الألماني غونتر ديمينغ، بناءً على طلب أسر الضحايا، على شكل لوحات نحاسية (10× 10سم) يحفر عليها لقبَ الضحية وتاريخ ولادتها ومكان الولادة، إضافة إلى تاريخ الوفاة ومكانها وطريقتها إذا كانت معروفة. وربما نضعها على واجهات البيوت، وليس على الأرصفة كما يفعل الألمان، كي لا ندوسها بأقدامنا وتتآكل مع الزمن.
ليست المقارنة صحيحة تماماً، وأن كثيرين ممن يساهمون اليوم في المقتلة السورية ليسوا سوريين، إلا أن المقاربة تصحّ مع أعداد كبيرة جداً من السوريين الذين ساهموا، بشكل مباشر أو غير مباشر، تحت راية نظام الأسد، أو تحت الرايات السوداء المختلفة، في استمرار الموت المجاني على كل الخريطة السورية بمجازر اختلفت دوافع منفذيها، كما تنوّع شكل السلاح المستخدم فيها، وتشابهت جميعها بلون الدم المُراق ورائحته السورية. قد نتفاءل لنقول إن القادة العسكريين وأمراء الحرب والمحرّضين على القتل أو مصدّري الأوامر سيحاسبون يوماً، لكنّ كثيرين ممن هم في مستوياتٍ أدنى من المسؤولية (كما حصل في ألمانيا) سيخبئون رؤوسهم تحت ذيولهم ويلوذون بالإنكار، بل ربما بالتكفير عما فعله "الآخرون".
الموجع اليوم أن بعض (سَكَنة المريخ البرونزيّين) الذين يدمّرون سورية منذ 2011 أو ما قبلها، لم ينتظروا نهاية الحرب كي يغادروها، بل اكتفوا بما أنجزوه خلال سنوات، وهبطوا في بلدان العالم كله، لكنهم فقط خلعوا أجسادهم الفضائية، واكتسوا بأجسادٍ تقدّم نفسها سورية، وتتحدث في كل دول الشتات واللجوء، وعلى منابر سياسية أو ثقافية، عن رحلات لجوء محفوفة بالمخاطر هربا من (سَكَنة المريخ البرونزيّين) الذين يغتصبون سورية.