"شاهد ما شافش حاجة"
أخيراً، وبعد عام على الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على غزة، تم البدء بإعادة بناء أول منزل تعرض للتدمير الكلي في منطقة الشجاعية، علماً أن عملية الإصلاح لم تتوقف للبيوت التي تضررت جزئياً، ما دعا إلى ضرورة توجه كثيرين من أصحاب البيوت إلى البنوك، لصرف مبالغ من "أونروا" لإصلاحها.
وهكذا التقيت بها، وكانت تقف في مواجهة موظف البنك، وبينهما شباك زجاجي صغير، وحيث تزاحمت حوله النساء، وقد سمعن جدالها مع الموظف، وعرفن، وهن ينتظرن دورهن، سبب الجدال، وقد بدا من لكنتهن أنهن قرويات طيبات قدمن من قراهن التي تعرضت لأبشع أنواع الإبادة والدمار، مثل قريتي خزاعة والزنة، لاستلام تعويضات مالية عن أضرار لحقت بمنازلهن، وهن يعلمن أن ما سيحصلن عليه سيكون قليلاً، ويخضع لتقديرات مزاجية متفاوتة من لجان تعاين ما تبقى من بيوتهن، وارتفع النقاش بينهن، فهن جارات أو قريبات، وكل واحدة تقسم أن بيتها تضرر أكثر من بيت جارتها، لكن اللجنة قدرت لها مبلغاً أقل من الجارة بكثير، وتردف بحسرة لتنهي حواراً لو طال سيكون بلا جدوى بقولها: اللي منهم أحسن منهم.
بعد جدال طويل، أنهاه موظف البنك الذي يبدو أنه تعاطف مع تلك العجوز التي نالت منها مصائب الزمن كثيراً، بأن طلب منها شاهديْن يوقعان على أوراقها الناقصة، بحيث تفيد شهادتهما بأنهما يعرفانها، لكي يدرج اسمها مع بياناتها ضمن قائمة طويلة من أسماء المطالبين بالتعويضات. وهنا تلفتت العجوز حولها بحثاً عن "شاهدين"، ولم يطل انتظارها لأن إثنتين من المتطوعات تقدمتا نحوها، وأخرجتا بطاقتيهما الشخصية استعداداً للتوقيع على أوراقهما، وانزاحت العجوز بتثاقل عن الشباك، بعد أن طلب منها الموظف التردد على البنك مرة كل أسبوعين، لتستعلم عن وصول مستحقاتها.
تعتبر شهادة الزور من الكبائر في الإسلام، لأنها تتسبب في ضياع الحقوق وإهدار الأموال وفناء الأرواح وطمس العدل، وقد أسهبت السينما المصرية في بيان تعامل المحاكم والجهات الرسمية مع "شهود الزور" الذين يدفع لهم مبلغ من أجل "تسيير المراكب" كما يقولون، وهم يكثرون أمام بوابات المحاكم، ويعرفهم القضاة جيداً، لكنهم يتساهلون معهم، حتى حين يدلون باليمين الكاذبة، لأنهم يرون أن القضايا التي يدلون بشهاداتهم في أثناء النظر فيها غالباً ما تكون "مطبوخة"، أي أن هناك اتفاقاً مسبقاً بين طرفي النزاع، ويكون الوجود في المحكمة نوعاً من إتمام الإجراءات الروتينية، ومن صور شهادة الزور، ما يعرف بتقديم شهادة "حلف اليمين"، وهو إثبات حالة بشهادة شهود، وبعد دفع رسوم في خزينة المحكمة، ويكثر اللجوء لهذا الإجراء الروتيني في المحاكم حالياً، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب، فمثلاً تلجأ زوجاتٌ كثيرات هجرهن أزواجهن بلا طلاق، إلى تقديم هذه الشهادة التي تفيد بأنها معلقة، وأن زوج إحداهن لا ينفق عليها، وتقدمها للمؤسسات والجمعيات الخيرية، لعلها تحصل على معونة عينية أو مادية، ويوقع عليها شهود يتم اصطيادهم من أمام بوابات المحاكم، وهم بالقطع لا يعرفون شيئاً عن الحياة العائلية للواحدة منهن، والتي كانت تحرص على إخفائها، حفاظاً على سمعة بناتها اللواتي أصبحن في سن الزواج على الأقل، في مجتمع يتوجس كثيراً من ارتباط الشاب من فتاة تربت بعيداً عن والدها.
علقت إحدى الشاهدتين على ما قامت به، وهي تضحك: "شاهد ماشافش حاجة"، فيما اقترحت عليها الشاهدة الأخرى أن تمتهن هذه المهنة التي يطلق عليها في غزة اسم "المُعَرِف". أما أنا فلفت انتباهها إلى أنه يجب عليها التنكر، في كل مرة، لكي لا يكشفها موظف البنك، كما كان يفعل الممثل المصري صلاح عبد الله، في دور شاهد الزور في فيلم "درس خصوصي"، بعد أن يتنكر تنكراً مفضوحاً ومضحكاً، يتغاضى عنه القضاة والمحامون في مقابل حصوله على مبلغ زهيد من أحد طرفي النزاع.