"شَمال الخَط"

27 اغسطس 2019
+ الخط -
يفاجئنا الزميل الصحافي والكاتب تركي محمد رمضان باستصدار روايته الثانية "شمال الخط" الصادرة عن مؤسسة الفرقان في مدينة أورفا التركية التي كان باشر فيها قبل نحو عشر سنوات، فضلاً عن مخطوطات كان قد أنجز أغلبها لمشاريع روايات وقصص، ولم يكمل مشروعه الثقافي لأسباب صحية من جهة، ومادية لجهة عدم تمكنه من تأمين أجور طباعة روايته الحالية، ولولا مساعدة الأصدقاء والمعارف فإنّه لم يكن لها أن ترى النور، وهو الذي يُعاني الفاقة، ويعيش أزمة صحية خانقة، وجليس مخدعه غير قادر على مغادرته لأكثر من عامين!

وسبق وأن أجريت حواراً مع الكاتب رمضان في مدينة الرّقة بمناسبة صدور روايته المتميّزة "برج لينا" الصادرة عن وزارة الثقافة في نهاية التسعينيات، وحدثني عن روايته المخطوطة "شمال الخط" التي ستصدر قريباً.. وهذه الــ قريباً مضى عليها أكثر من عشر سنوات!

وقال لي إن رواية "شمال الخط" وافق عليها قرّاء وزارة الثقافة، وهم نُخبة من الروائيين المتميزين، ومنهم الروائي المعروف فوّاز حداد الذي أشاد بها، لكن رئيس الهيئة العامّة للكتاب حينها، وهو موظف إداري لم يوافق على إرسالها للمطبعة لأسباب لها علاقة بمضمون العمل الذي يتحدث عن الرَّقة في فترة الخمسينيات اجتماعياً وسياسياً.


تتحدث الرواية عن الانقلابات، وبداية تنظيم الأحزاب في الرَّقة وعهد الوحدة، وطبعاً هل يمكن ذلك دون الحديث عن المخابرات، وأساليب القمع والتسلّط، ومطاردة شباب الأحزاب من البعثيين والشيوعيين والإخوان وسواهم؟ وبعدها بقيت مخطوطة ولم يستطع طباعتها على نفقته الخاصة لحجمها الكبير آنذاك، 600 صفحة، حوالي 160 ألف كلمة، وقد اختار الكاتب صورة الغلاف للرواية "المأساة"، للفنان العالمي المبدع بيكاسو بلونها الأزرق رمزاً للوحشة والحزن والخواء! وقد اضطر إلى حذف 200 صفحة منها من مواقع مختلفة لتوفير نفقات الطباعة التي كانت من مساهمات بعض الأصدقاء الأحباب.

رواية "شمال الخط"، ليست سيرة ذاتية أو حكاية أسرية، إنما هي رواية فيها كل أشكال السريالية، والإيهام بالواقعية، والتزينية اللغوية واللفظية لم تقيدها أيديولوجيا سياسية أو تربكها قناعات مسبقة، ولو إنها انحازت للفقراء والمظلومين، ونمت وترعرعت في بيئة غريبة لكنها أليفة ذات عوالم مختلفة منسجمة ومتباينة.

تتناول الرواية حياة أسرة رقّاوية. الأب سوري من أصول تركية، والأم عربية ذات أصول حسينية "نعيمية"، أمّا الأولاد فهم متعلّقون بالوطن سورية وبفلسطين التي كان جرحها لا يزالُ ساخناً، ويقرّر الأب العودة إلى أورفا، ويحاول مع أهله وذويه أن يعبر الخط. خط الحدود "سكة القطار"، وكل ما يحيطهما مزروع بالألغام، وهو الخبير بالعبور غادياً وآتياً في الاتجاهين، وفجأة يجد نفسه يقف على لغم، وأي حركة سينفجر، وتتداعى أحداث حياته حتى منتصف الرواية وهو واقف على اللغم.

وتتخذ الرواية من خط القطار مقدمة حين صار حدوداً بين بلدين، ورواتها أسرة تروي عبر علاقاتها وتداعياتها في مرحلة هي من أكثر المراحل صخباً، مرحلة التكوين والتكوّن. مرحلة الخمسينيات في سورية وفي مدينة الرّقة، بصورة خاصة، التي أسميتها، كما يقول الكاتب: في الرواية "باب الأبواب".

نعم باب الأبواب لا يبتعد عن إسقاطات القرّاء على شخوص الرواية الذين استوحيت منهم الأحداث. أب يَعْبُر الخط أو الحدود بأسرته، يريد إلى الجانب الآخر في منطقة مزروعة بالألغام، وفجأة يتوقف على لغم، وهنا تبدأ حكايته وتداعياتها. نعم منتصب كخيال، وحوله أسرته كعصافير الضحى، لكن الولد الأصغر، هو الراوي الثاني في الرواية أو الثالث، لأن الأخ الأكبر بقي في باب الأبواب ريثما تنتهي سنته الدراسية، إذ كان في السنة الخامسة الابتدائية، وهي شهادة السرتفيكا.

الأب الذي يقف على اللغم يتذكّر الضربة التي تلقاها من غدر رجل برز له فجأةً وصار من معارفه بسبب ضعفه أمام عواطفه، والابن الأكبر متفوّق في دراسته، ولذلك هو محط تنافس الأساتذة والأحزاب على المتفوقين.

الرَّقة بشخصياتها الوهمية والأسطورية، بمجاذيبها وسياسييها، ببلدتها التي تنمو سريعاً، وبخربتها التي تمتد وتتسع بالقرى التي التحمت بها.

إنّها أنموذج لكل مدن الشمال السوري الحزين. إنّها ليست حكاية واحدة بل مجموعة حكايات. ليس لراوٍ واحد بل لعدّة رواة.. وليس بأسلوب روي واحد بل بأساليب متعدّدة للراوي، فضلاً عن أزمان مختلفة ومتداخلة وقد تأثّر الكاتب برواية "طبل الصفيح" للروائي الألماني غونتر غراس الحائزة على جائزة نوبل للآداب الأكثر شهرةً في ألمانيا، والتي تُعد واحداً من أهم الأعمال الأدبية التي كتبت بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت وإلى اليوم مثار جدل واسع في مختلف الأوساط الثقافية والسياسية والدينية، وقد جاءت رداً عنيفاً على مقولة الفيلسوف أدورنو الذي شكك في قدرة الألمان على كتابة عمل إبداعي بعد المحارق النازية، فضلاً عن رواية "بيت الأرواح" لإيزابيل اللندي. أسلوب روي فيه حداثة، وفيه تجاوز للمألوف وللطوطم والتابو، أو ما يسمى الجرأة.

وهناك فجور لا التزام في هذه الرواية بمحاذير، حيث تسقط هيبة المجتمع والدولة معاً. إنّها رواية ضد هيبة الحدود، وضد هيبة الجَمال، وضد هيبة الفقر والغنى!

تدهشك هذه الرواية في حمّام النساء، أو اللعب مع الصغيرات. لعبة العريس والعروس، أو مطاردة الشرطة ليلاً لانتزاع حمارة تركض في البراري ثم الكرَّة لإعادة انتزاعها من الشرطة، وأيضاً تصوّف خرافي ورايات متصوّفة، وأبناء جد وحلقات امتحان، ومظاهرات ووحدة وانفصال وفلسطين.

نعم انفلات العقال للراوي الصغير، أما الأخ الأكبر فهو الراوي المتزن، بينما الأب راوٍ يتحدث عن الدنيا، وقد انشغل بالنساء وغرق بالكحول، بينما الأم عادت بأولادها إلى بلدتها، وإلى حياتها الطبيعية التي أحبتها وأحبّها معها الأولاد.

"شمال الخط"، تشكيلة عجيبة استفاد مؤلفها من أشكال الروي السائدة، وجاء النص بالتقليدية والحداثية، وتميّزت اللغة بالشاعرية والسردية، والكاتب تأثّر كأغلب روائيي المرحلة بقراءاته لكبار الكتاب والمبدعين، مثل: الصحافي والروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والأديب الألماني غونتر غراس، والروائية التشيلية إيزابيل اللندي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس وغيرهم كثير. وأحب أن أشير إلى أنَّ الكاتب تركي رمضان كان في مطلع عمره قارئاً نهماً، يقرأ نحو خمس عشرة ساعة في اليوم، وكان يقرأ وهو يأكل ويشرب الشاي، أو يدخن، وكانت أمه تخافُ عليه من القراءة كي لا يصابُ بالجنون! وقد استغرق الكاتب في كتابة هذه الرواية نحو ست سنوات. يتركها ثم يعود إليها بعد روايته الأولى "برج لينا"، ونجاحها المتألق، وأراد أن يتجاوزها بروايته "شمال الخط" كل ما يمكن أن يُدهش القارئ، فكانت رواية مدهشة، وهي حقاً كذلك.
دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.