"ليتوانيا الجديدة" لكوبينيس: جنون القرارات العظيمة

11 ديسمبر 2019
"ليتوانيا الجديدة" للخلاص من الاستعمار الجديد (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
انطلاقا من فكرة مجنونة، تستند إلى حقيقة واقعية، صنع الليتواني كاروليس كوبينيس (1987)، أول أفلامه الروائية، "ليتوانيا الجديدة"، المشارك في مسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، وفي المسابقة الدولية للدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، والفائز بجائزة أحسن صورة، من "مهرجان أثينا السينمائي الدولي" في دورته الـ25 (18 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2019). 

عبر تلك الفكرة المجنونة، يطرح كوبينيس رؤيته للحاضر الليتواني، مقارنا إياه بالماضي القريب للبلد، ومتجنّبا ـ في كتابته السيناريو ـ عدم الافتتان بها، بحدّ ذاتها. إخراجيا، آثر ألا ينساق خلفها بمفردها، ما من شأنه تقويض كلّ توازن فني ممكن للفيلم، وإضعاف أهميته ومغزاه، وجعله محض نكتة مُثيرة لسخرية الجميع ودهشتهم.

تجنّب كوبينيس الافتتان بالفكرة، ويقظته إزاء المسألة، جعلاه يُدخِل ـ إلى جانب الفكرة الرئيسية ـ خيطا دراميا آخر، ليس لخلق توازن فني فحسب، بل لتقوية البناء السردي، وإضفاء لمسة فلسفية، تُعمِّق مستوى الفيلم، وتوازي بين الفكرتين الإنسانية والمحورية. والمُشاهدة تُبيِّن أنّ الفيلم يطرح قضيتين تاريخية وإنسانية، تشتبكان مع مشكلة شخصية، ذات أبعاد إشكالية كبيرة.
هذا المزيج كلّه بات مركز الثقل الرئيسي. وإلى الفكرة الرئيسية والخيط الدرامي المتوازي معها، هناك جماليات أخرى، كاختيار الأسود والأبيض، والكادر/ الإطار ضيّق الأبعاد، على نحو ملحوظ للغاية، واستخدام الكاميرا الثابتة، وتوظيف الصمت، وحذف الكثير ممّا هو زائد، وترك مساحات للتأمّل والتفكير. والأهمّ، الاختيار الجيد للبطلين، وإدارتهما بشكلٍ مُرضٍ جدا.

تدور الأحداث أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، بعد 20 عاما على استقلال ليتوانيا عن الحكم البولندي. رغم الاحتفال، هناك مخاوف حدودية بعد إطلاق نار على الحدود البولندية، أدّى إلى مصرع أحد الجنود البولنديين. من ناحية أخرى، لا تزال بولندا تحتل العاصمة التاريخية لليتوانيا، فيلنيوس، ومفاوضات استعادتها مُتعثرة. في كاوناس، عاصمة ليتوانيا آنذاك، تتحدّث الأخبار عن اندلاع وشيك لحرب عالمية ثانية، ما أثار مخاوف من احتلال روسيا أو ألمانيا لما تبقى من ليتوانيا.

في غمرة هذا الرعب، المنقول سينمائيا إلى الشاشة من دون مباشرة، لإدخال المُشاهدين في أجواء الحرب، يظهر فيليكساس غروديس (أليكساس كازانافيسيوس)، أستاذ الجغرافيا والتاريخ الطبيعي في جامعة ليتوانيا، ومؤسّس "الجمعية الجغرافية الليتوانية"، والمهموم بمشكلة قلّة الكثافة السكانية، والانهيار التام، والاستسلام الوشيك للبلد، ما يعني اختفاء الثقافة الليتوانية وضياعها تدريجيا. يتحدّث مرارا عن نظرية "البالون الممتلئ هواء"، مقارنة بـ"البالون الممتلئ رملا"، وكيف أنّ الأول يسهل ثقبه أو تمزيقه، على نقيض الثاني.



هناك فكرة أخرى: الفراغ يجذب الامتلاء. في محاضراته، يتناول أفريقيا، التي يراها تشبه ليتوانيا، جغرافيا، وإنْ تكن الحدود القديمة لليتوانيا مُقعّرة قليلاً، مقارنة بأفريقيا. يرى أنّه لولا الفضاء والمساحات الشاغرة وقلّة عدد السكان في أفريقيا، لما كان للمُستعمر والمستعمرات أي وجود. لذا، فالفراغ هو العدو الأول للبلد. أثناء حديثه مع رئيس الوزراء، لإقناعه بفكرته، يسأله عن مساحة الشقة الضخمة التي يقطنها مع زوجته وابنته فقط، وماذا لو اكتشف بقية السكّان في البناية أن مساحات شققهم أضيق منها، وعائلاتهم أكثر عددا، منبّها إياه أيضا إلى عدم إحكام مزلاج شقّته.

يُدرك رئيس الوزراء، يوناس سيرفوس (فيدوتاس مارتينايتس)، خطورة ما يتحدّث عنه غروديس، خصوصا بعد كلامه عن الكثافة السكانية لليتوانيا، مقارنة بدول مكتظة مجاورة لها. عرض غروديس فكرته على رئيس الوزراء، وعلى غيره من مسؤولي الحكم أيضا، لكنّ أحدا لم يقبلها، نظرا إلى جنونها، وإلى عاملي التكلفة والوقت. بعد تركه رئاسة الوزارة، بسبب مشكلة في القلب جرّاء ضغوط العمل، صار سيرفوس مديرًا لـ"البنك المركزي الليتواني"، وبات لديه وقت لدراسة الفكرة، لا سيما أنّه بات يعلم بما تملكه ليتوانيا من ذهب، أيّ أنّها ليست دولة فقيرة، ما يعني أنّ ما يحول دون التنفيذ ليس المال أبدا.

تتلخّص فكرة غروديس، بعد دراسته إياها أعواما طويلة، في شراء ليتوانيا أرضا في البرازيل أو أنغولا أو كيبيك أو ألاسكا. يقول لسيرفوس: "إنّها فكرة مجنونة. لكنّ كل فكرة مجنونة بدأت بقرار عقلانيّ، والعكس صحيح. كلّ قرار عظيم بدأ بفكرة مجنونة". يتحمّس سيرفوس للفكرة، فيطلعه غروديس على الدراسات الطويلة والمُعمّقة، ونتائج الزيارات التي قام بها إلى تلك البقاع، التي اعتبرها الأنسب من النواحي كلّها. "ليتوانيا الجديدة" تلك ضمانة لاستمرار البلد، في حال استُعمِرت الأراضي الليتوانية من الروس أو الألمان. ولأن سيرفوس الوحيد الذي أنصت إلى فكرته بصدق، يغوص معه قليلا في تفاصيل التنفيذ، ومدى جدّية المشروع وجدواه.

إنسانيا ونفسيا، يظهر وجه آخر لفيليكساس غروديس: شخصية وطنية مهووسة بفكرتها، ومتحمّسة بشدّة لتنفيذها في أقرب وقت. في المقابل، يعاني مشاكل أسرية، تبدو للبعض عادية وتافهة، مقارنة بالأخطار المحيطة بالدولة، أو بالهموم المُنشغل بها، كإقامة ابنة شقيقه في بيته لمتابعة دراستها في العاصمة، ما يؤدّي إلى توتّر وغيرة مع زوجته. إقامة حماته لبعض الوقت في بيته، وتبعات ذلك. رغم هذا، يسعى غروديس بكلّ إخلاص وجدّية إلى معالجة مشكلة حماية بلد ومجتمع من خطر حقيقي، رغم أنّه عاجز عن حلّ مشاكله الشخصية. منزل غروديس ليس استعارة للمشاكل الكبيرة التي تواجهها ليتوانيا، بل مقارنة تدفع إلى التساؤل عن مدى جدارة الفرد للتصدّي لحلّ مشاكل كبيرة، أو محاولة حلّها على الأقلّ، بينما يعجز عن حلّ مشاكله الحياتية الصغيرة، وإمكانية تحقيق أي نجاح في حلّ تلك الكبيرة أو الصغيرة على الأقلّ.
دلالات
المساهمون