06 نوفمبر 2024
أحمر شفايف
ذات أمسيةٍ، اعتقد جارنا، عندما عاد مساء الخميس من عمله الأسبوعي داخل الخط الأخضر إلى غزة، أن زوجته تعرّضت للاختطاف، فهو قد عاد إلى البيت ولم يجدها، ووجد امرأةً تقف بباب البيت لا تشبهها، لكنها كانت جميلة، فسألها في توجس: هل رأيت زوجتي انشراح؟ فأجابت، وهي تضحك: أنا انشراح. .. وكانت هذه المرة الثانية في حياتها التي تضع فيها الماكياج على وجهها بعد زواجهما. الأولى قبل سنوات بعيدة، ويوم زواجهما بالتحديد، وقد طرأ تغير على شكلها خلال سنوات إنجاب حفنة من الأطفال، لكن إغراءً من شقيقتها دفعها إلى الذهاب إلى محل الكوافير، فلم يتعرّف عليها زوجها.
عندما كنت طفلةً، كنت أطيل النظر بقلم أحمر الشفاه الوحيد الذي تمتلكه أمي، وقد كان كل ما تبقّى من أدوات زينتها بعد زفافها، وتضعه على رفّ مرآتها في غرفة نومها، وكان من ذلك الطراز المصنوع من المعدن، فتشعر بثقل وزنه، حين تلتقطه بين أصابعك، مقارنة بأقلام الحمرة هذه الأيام، وكان مطلياً بلونٍ ذهبي، تحول تدريجياً إلى لون مطفأ، أثار بي فضولاً وشغفاً لتجربته. ولكن ذلك كان من المستحيلات، فحسب قوانين زماننا وأعرافه، فقد كان يحظر على الفتيات استخدام الماكياج، حتى يتزوجن مهما طال بهن العمر، وقد أصبح عندي سبب وجيه للزواج، وهو تجربة طلاء الشفاه، وبتّ أتحيّن الفرصة لكي أجرّب لمس قلم حمرة أمي الوحيد، حتى حانت تلك اللحظة بعد صبر طويل، يوم خرجت أمي، ولم تغلق باب غرفتها، حيث اعتادت أن تفعل، لكي لا نعيث فساداً فيها، وحيث كانت تخفي فيها علب الشوكولاته التي تصل إلينا هدايا، وتخشى أن نسطو عليها مرة واحدة فتتلف أسناننا، وقد أمسكت بقلم حمرة أمي وفتحته، فوجدت صعوبة في فتحه بسبب قدمه، وعدم استخدامه. ضغطت أكثر، حتى انفتح بين أصابعي، وأصبح القلم في يد، والغطاء في أخرى. أخذت أشتمّ رائحته الجميلة التي بقي محتفظاً بها، على الرغم من مرور السنين، وجرّبت أن أضع منه خطاً على شفتي، وفعلت وفرحت بمنظري أمام المرآة، حين انشقّت الأرض عن إخوتي الصبية، وبدأوا يهددونني، ويتوعدونني بإخبار أمي بجريمتي، فبكيت، وأعدت القلم إلى مكانه.
وعبثاً حاولت إخفاء آثاره عن فمي، وكلما غسلته بالماء، ازداد لونه ثبوتاً فوق شفتي الرقيقة، حتى عادت أمي، ورأت منظري، وكشفت جريمتي التي اعترفت بها تفصيلياً أمامها. وهنا أطلقت تهديدها أنها ستطلب من أبي أن يغرز الإبر بكفي، لكي لا أعاود فعلتي، وكان هذا أقصى عقابٍ أتخيّله ولم أجرّبه، لأن أمي عاقبتني بطريقةٍ أخرى من دون أن يعلم والدي بفعلتي، وبقيت، ليالٍ طويلة، أتخيل ألم غرز الإبر في كفي، بسبب عبثي بقلم أحمر الشفاه...
إنْ كانت الأصول التاريخية للماكياج غير محدّدة، وإنْ نسبت للفراعنة حيناً، ولرسام أميركي حيناً آخر، إلا أنه الآن أصبح من وسائل الغش والخداع، وليس الزينة لدى كثيرات. ولم يكن خالي كاذباً، حين قال عنه، في ستينيات القرن الماضي، إنه "عدّة الكذب والنصب"، ولم يكن هذا الفن قد تطوّر، ليصل إلى الكنتور مثلاً، وهو فن إعادة تشكيل ملامح الوجه وإصلاح العيوب وإخفائها مؤقتاً، ولكن استغلال هذا التطور أدى بعريس إماراتي إلى تطليق زوجته في رحلة شهر العسل، بعد أن ذهبا للسباحة. وهناك زالت الزينة عن وجه العروس، فقرّر تطليقها، بعد أن هاله الفرق الشاسع بين جمالها المصطنع والحقيقة. وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي نكاتاً ظريفة عن الأزواج المخدوعين، ومنهم العريس الذي طارد "الكوافيرة"، بعد أن اكتشف زيف جمال عروسه، بعد انتهاء حفل الزفاف.
أما أبي فقد أحبّ جمال أمي الطبيعي، وكانت أمي غانية، أي أنها استغنت بجمالها عن أدوات الزينة، إضافة إلى طيب معشرها. ولذلك عاشا معاً أكثر من أربعين عاماً في سعادةٍ حقيقيةٍ، لأن حياتهما لم تبدأ بلهاثٍ خلف طبقةٍ من الماكياج.
عندما كنت طفلةً، كنت أطيل النظر بقلم أحمر الشفاه الوحيد الذي تمتلكه أمي، وقد كان كل ما تبقّى من أدوات زينتها بعد زفافها، وتضعه على رفّ مرآتها في غرفة نومها، وكان من ذلك الطراز المصنوع من المعدن، فتشعر بثقل وزنه، حين تلتقطه بين أصابعك، مقارنة بأقلام الحمرة هذه الأيام، وكان مطلياً بلونٍ ذهبي، تحول تدريجياً إلى لون مطفأ، أثار بي فضولاً وشغفاً لتجربته. ولكن ذلك كان من المستحيلات، فحسب قوانين زماننا وأعرافه، فقد كان يحظر على الفتيات استخدام الماكياج، حتى يتزوجن مهما طال بهن العمر، وقد أصبح عندي سبب وجيه للزواج، وهو تجربة طلاء الشفاه، وبتّ أتحيّن الفرصة لكي أجرّب لمس قلم حمرة أمي الوحيد، حتى حانت تلك اللحظة بعد صبر طويل، يوم خرجت أمي، ولم تغلق باب غرفتها، حيث اعتادت أن تفعل، لكي لا نعيث فساداً فيها، وحيث كانت تخفي فيها علب الشوكولاته التي تصل إلينا هدايا، وتخشى أن نسطو عليها مرة واحدة فتتلف أسناننا، وقد أمسكت بقلم حمرة أمي وفتحته، فوجدت صعوبة في فتحه بسبب قدمه، وعدم استخدامه. ضغطت أكثر، حتى انفتح بين أصابعي، وأصبح القلم في يد، والغطاء في أخرى. أخذت أشتمّ رائحته الجميلة التي بقي محتفظاً بها، على الرغم من مرور السنين، وجرّبت أن أضع منه خطاً على شفتي، وفعلت وفرحت بمنظري أمام المرآة، حين انشقّت الأرض عن إخوتي الصبية، وبدأوا يهددونني، ويتوعدونني بإخبار أمي بجريمتي، فبكيت، وأعدت القلم إلى مكانه.
وعبثاً حاولت إخفاء آثاره عن فمي، وكلما غسلته بالماء، ازداد لونه ثبوتاً فوق شفتي الرقيقة، حتى عادت أمي، ورأت منظري، وكشفت جريمتي التي اعترفت بها تفصيلياً أمامها. وهنا أطلقت تهديدها أنها ستطلب من أبي أن يغرز الإبر بكفي، لكي لا أعاود فعلتي، وكان هذا أقصى عقابٍ أتخيّله ولم أجرّبه، لأن أمي عاقبتني بطريقةٍ أخرى من دون أن يعلم والدي بفعلتي، وبقيت، ليالٍ طويلة، أتخيل ألم غرز الإبر في كفي، بسبب عبثي بقلم أحمر الشفاه...
إنْ كانت الأصول التاريخية للماكياج غير محدّدة، وإنْ نسبت للفراعنة حيناً، ولرسام أميركي حيناً آخر، إلا أنه الآن أصبح من وسائل الغش والخداع، وليس الزينة لدى كثيرات. ولم يكن خالي كاذباً، حين قال عنه، في ستينيات القرن الماضي، إنه "عدّة الكذب والنصب"، ولم يكن هذا الفن قد تطوّر، ليصل إلى الكنتور مثلاً، وهو فن إعادة تشكيل ملامح الوجه وإصلاح العيوب وإخفائها مؤقتاً، ولكن استغلال هذا التطور أدى بعريس إماراتي إلى تطليق زوجته في رحلة شهر العسل، بعد أن ذهبا للسباحة. وهناك زالت الزينة عن وجه العروس، فقرّر تطليقها، بعد أن هاله الفرق الشاسع بين جمالها المصطنع والحقيقة. وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي نكاتاً ظريفة عن الأزواج المخدوعين، ومنهم العريس الذي طارد "الكوافيرة"، بعد أن اكتشف زيف جمال عروسه، بعد انتهاء حفل الزفاف.
أما أبي فقد أحبّ جمال أمي الطبيعي، وكانت أمي غانية، أي أنها استغنت بجمالها عن أدوات الزينة، إضافة إلى طيب معشرها. ولذلك عاشا معاً أكثر من أربعين عاماً في سعادةٍ حقيقيةٍ، لأن حياتهما لم تبدأ بلهاثٍ خلف طبقةٍ من الماكياج.