06 نوفمبر 2024
أكاذيب الفقراء
خلص علماء النفس إلى أن النساء أكثر قدرةً على اختلاق الكذب، فيما أكّد على ذلك الفيلم الكوميدي القديم، والذي حمل مضمونه عكس اسمه تماماً، حيث كان يحمل عنوان "الستات ما يعرفوش يكدبوا"، فكل أحداث الفيلم المضحكة كانت تدور حول كذبات متلاحقة للزوجة الحسناء، ولكن الواقع المؤلم يؤكد، بعيداً عن نظريات علم النفس وعن السينما وخيالاتها، أن الفقراء يكذبون، ولكنهم سيدخلون الجنة بالتأكيد، فليس كل فقير يكذب سيدخل النار، كما تقول كتب الدين، وكما حذّرتنا أمهاتنا، وهي تهدّدنا بحرق ألسنتنا بسكينٍ محميةٍ على الموقد، إن تعلّمنا الكذب ومارسناه، فالكذب الذي يمارسه الفقراء يجب أن يطلق عليه "الكذب الأخلاقي"، فالأفعال تكتسب هويتها من مرتكبيها ونياتهم، فليس هناك "القبيح والجميل"، وليس هناك "الخير والشر" طالما أن هناك أفعالاً لا تؤذي أحداً، ولكنها قد تمنح الآخرين روعة التجربة المريرة، وتدخلهم إلى معترك الحياة كالصناديد، ويكتشف الصغار حين يكبرون أنهم قد تعلموا أخلاق الكذب، لا خلق الكذب الذميم.
فالأم التي كذبت على ابنها، وهي تشجعه على السير حافياً بين أزقّة المخيم، أن عليه أن يفعل ذلك لكي يكبر مقاس قدمه ويستطيع ارتداء حذاء شقيقه الأكبر القديم، شقيقه الذي اشترى حذاء جديداً من ادخار العائلة بأكملها شهوراً طويلة، وقد قالت ذلك لابنها، وهي تعرف أن وقتاً طويلاً سيمر على الصغير، وهو حافي القدمين، قبل أن يستطيع انتعال الحذاء القديم.
أما جدي لأمي، وقد كان فقيراً، فقد صحبني إلى السوق، وطلب من صديقه الذي يبيع الخس أن يعطيه خسة كبيرة الحجم اصفرّت أوراقها، ولم يعد أحد الزبائن يقلبها بين يديه، وادّعى أنه سيطعمها للأرانب التي يربيها، وقد أغلقت فمي الصغير، وأنا أقف إلى جواره، فقد حملها جدّي إلى جدتي، وأعدت من أوراقها أصابع محشوّة بالأرز، وكانت وجبة غداء للبيت الخالي من الطعام في ذلك اليوم.
أما كذبة جدتي الكبرى التي لم أتقبلها، وأنا طفلة تتعجل أن تكبر، فهي قسَمها المتكرّر للسائق أن عمري أربع سنوات، لكي تضعني فوق ركبتها في سيارة الأجرة الضيقة، فتوفر أجرة راكب آخر، وكنت أشفق على جدتي من كذبتها العظيمة تارة، ومن جلوسي فوق ركبتها التي تؤلمها وتدهنها بـ"السيبرتو" على الدوام، لكي تخفف من ألمها تارة أخرى.
أما أم صديقتي التي كانت تصل إلى المدرسة مبتلة الشعر والملابس، وترتجف برداً بسبب المطر الذي أغرقها، فقد كانت تقول لي إنها لا تملك معطفاً، ولا أجرة سيارة لتنقلها مع إخوتها إلى المدرسة البعيدة عن المخيم. ولكن، كانت أمها تقف على عتبة الباب، وتصيح بها هي وإخوتها بأن يركضوا بمجرد خروجهم من البيت، ويلاحقهم صوتها، حتى يصلوا إلى أطراف المخيم في طريقهم إلى المدرسة، وكانت تكذب عليهم بأن من يركض تحت المطر، لا يشعر بالبرد، ولكنهم كانوا يغرقون، وترتعد فرائصهم، ويعودون في الظهيرة برشح وحمّى، وتدلّك أمهم أطرافهم بكفيها، وتدهن صدورهم وحناجرهم بزيت السمسم الدافئ، وتتساقط دموعها حزناً عليهم، وشفقة على نفسها من كذبتها المكرّرة التي تصر عليها، وتستغفر الله كثيراً، وترجوه ألا يكتبها من الكاذبين.
ونصل إلى أقدم كذبة في تاريخ الفقراء، تلك المرأة التي مرّ عليها عمر بن الخطاب، وهي تُسكت جوع أطفالها الصغار بوعاءٍ وضعته فوق الماء، وتحرّكه بلا توقف وسط ليل الصحراء. وحين سألها الخليفة عن فحواه، أخبرته بأنها تغلي الحجارة لكي تشغل أطفالها عن الجوع، وينال منهم النعاس، فيناموا خماصاً، ولكن كذبة هذه الأم كشفها الخليفة الذي خرج بنفسه ليتحسّس أخبار رعيته، ولم يقبع في قصره كما كان يفعل الرئيس في فيلم "طباخ الريس"، حيث كان طباخه يخبره بأحوال الشعب الحقيقية، ولكن " الشماشرجي" كان يتدخّل ليمنع الطباخ من الاسترسال، ويستمر في تضليل الرئيس وطمأنته، كما تفعل كل البطانات الفاسدة، مثلما فعل زكريا عزمي مع حسني مبارك؛ حيث أفهمه أن الشعب يدّعي الفقر، وينكر النعمة.
فالأم التي كذبت على ابنها، وهي تشجعه على السير حافياً بين أزقّة المخيم، أن عليه أن يفعل ذلك لكي يكبر مقاس قدمه ويستطيع ارتداء حذاء شقيقه الأكبر القديم، شقيقه الذي اشترى حذاء جديداً من ادخار العائلة بأكملها شهوراً طويلة، وقد قالت ذلك لابنها، وهي تعرف أن وقتاً طويلاً سيمر على الصغير، وهو حافي القدمين، قبل أن يستطيع انتعال الحذاء القديم.
أما جدي لأمي، وقد كان فقيراً، فقد صحبني إلى السوق، وطلب من صديقه الذي يبيع الخس أن يعطيه خسة كبيرة الحجم اصفرّت أوراقها، ولم يعد أحد الزبائن يقلبها بين يديه، وادّعى أنه سيطعمها للأرانب التي يربيها، وقد أغلقت فمي الصغير، وأنا أقف إلى جواره، فقد حملها جدّي إلى جدتي، وأعدت من أوراقها أصابع محشوّة بالأرز، وكانت وجبة غداء للبيت الخالي من الطعام في ذلك اليوم.
أما كذبة جدتي الكبرى التي لم أتقبلها، وأنا طفلة تتعجل أن تكبر، فهي قسَمها المتكرّر للسائق أن عمري أربع سنوات، لكي تضعني فوق ركبتها في سيارة الأجرة الضيقة، فتوفر أجرة راكب آخر، وكنت أشفق على جدتي من كذبتها العظيمة تارة، ومن جلوسي فوق ركبتها التي تؤلمها وتدهنها بـ"السيبرتو" على الدوام، لكي تخفف من ألمها تارة أخرى.
أما أم صديقتي التي كانت تصل إلى المدرسة مبتلة الشعر والملابس، وترتجف برداً بسبب المطر الذي أغرقها، فقد كانت تقول لي إنها لا تملك معطفاً، ولا أجرة سيارة لتنقلها مع إخوتها إلى المدرسة البعيدة عن المخيم. ولكن، كانت أمها تقف على عتبة الباب، وتصيح بها هي وإخوتها بأن يركضوا بمجرد خروجهم من البيت، ويلاحقهم صوتها، حتى يصلوا إلى أطراف المخيم في طريقهم إلى المدرسة، وكانت تكذب عليهم بأن من يركض تحت المطر، لا يشعر بالبرد، ولكنهم كانوا يغرقون، وترتعد فرائصهم، ويعودون في الظهيرة برشح وحمّى، وتدلّك أمهم أطرافهم بكفيها، وتدهن صدورهم وحناجرهم بزيت السمسم الدافئ، وتتساقط دموعها حزناً عليهم، وشفقة على نفسها من كذبتها المكرّرة التي تصر عليها، وتستغفر الله كثيراً، وترجوه ألا يكتبها من الكاذبين.
ونصل إلى أقدم كذبة في تاريخ الفقراء، تلك المرأة التي مرّ عليها عمر بن الخطاب، وهي تُسكت جوع أطفالها الصغار بوعاءٍ وضعته فوق الماء، وتحرّكه بلا توقف وسط ليل الصحراء. وحين سألها الخليفة عن فحواه، أخبرته بأنها تغلي الحجارة لكي تشغل أطفالها عن الجوع، وينال منهم النعاس، فيناموا خماصاً، ولكن كذبة هذه الأم كشفها الخليفة الذي خرج بنفسه ليتحسّس أخبار رعيته، ولم يقبع في قصره كما كان يفعل الرئيس في فيلم "طباخ الريس"، حيث كان طباخه يخبره بأحوال الشعب الحقيقية، ولكن " الشماشرجي" كان يتدخّل ليمنع الطباخ من الاسترسال، ويستمر في تضليل الرئيس وطمأنته، كما تفعل كل البطانات الفاسدة، مثلما فعل زكريا عزمي مع حسني مبارك؛ حيث أفهمه أن الشعب يدّعي الفقر، وينكر النعمة.