10 أكتوبر 2024
أميركا اللاتينية في مواجهة ترامب
تمثل بلدان أميركا اللاتينية حلقة حيوية واستراتيجية في السياسة الخارجية الأميركية، لاعتبارات جغرافية وتاريخية واقتصادية، حيث دأبت دائما على دعم ممنهج ومتواصل للأنظمة العسكرية القمعية والفاسدة، ومحاصرة الحركات الثورية واليسارية المناهضة لها، والتحالف مع البورجوازية الزراعية الكبرى، وامتداداتها في دواليب السياسة والاقتصاد في هذه البلدان.
وعلى الرغم من المتغيرات التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، إلا أنها لم تؤثر على هذه السياسة في مفاصلها الرئيسية، وإن عرفت بعض الانحسار بعد وصول أحزاب اليسار إلى السلطة منذ نهاية التسعينات في أكثر من بلد، ما حدا بصناع القرار في واشنطن على تغيير وسائل التدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان، بالاستعاضة عن دعم الانقلابات العسكرية، كما كان يحدث، بالتدخل للتأثير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان، عبر مؤسساتها السياسية المختلفة.
يضع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض السياسةَ الخارجيةَ الأميركيةَ حيال هذه البلدان على المحك، خصوصا بعد تصريحاته العنصرية والمثيرة للجدل، بشأن الأقليات المقيمة في الولايات المتحدة، ومطالبته، بكل وقاحة، المكسيك بالإسهام في تكلفة بناء الجدار الحدودي بين البلدين، لمنع تسلل مزيد من المهاجرين غير الشرعيين، وفرض رسوم على واردات بعض هذه البلدان، وتشجيع الرأسمال الأميركي على وقف استثماراته هناك. كان لهذه التصريحات غير المسؤولة وقعها لدى الرأي العام اللاتيني، فقبل أيام خرجت مظاهرات حاشدة في مدن المكسيك، طالبته بـ''احترام المكسيكيين''، والتخلي عن نبرة الاستعلاء السياسي والاقتصادي في خطاباته وسجالاته التي تتناول العلاقة مع بلدهم، وباقي بلدان المنطقة.
يدرك الرأي العام في بلدان أميركا اللاتينية أن المصالح المتشعبة للولايات المتحدة في هذه
المنطقة تتعارض كليا مع تطلعات شعوبها نحو التحرّر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فليس هناك مجال للشك حول مسؤوليتها التاريخية القائمة عن أوضاع التخلف والفقر والتبعية والتهميش التي تعاني منها هذه البلدان، من خلال سجلها الأسود في مساندة الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة، وإغراقها بالديون، ونهب خيراتها وثرواتها الطبيعية، ودفعها إلى الاحتراب الأهلي المدمر بدعم القوى اليمينية التابعة لها ورعايتها. إنه الوجه الاستعماري البشع للولايات المتحدة، كما توارثته الأجيال المتعاقبة، وتَمثلته المخيلةُ الشعبية السياسية والاجتماعية والثقافية في هذه البلدان.
لا يبدو ترامب مستعدا لإعادة النظر في تدبير سيرورة هذه المصالح ومآلاتها على المدى البعيد، على اعتبار أنه يمثل تحالف الرأسمال الأميركي المُعولم والعابر للقارات، كما أن التحولات السياسية الدالة التي تعرفها هذه البلدان، بعد تراجع أحزاب اليسار في الأرجنتين والبرازيل والبيرو، والعودة القوية لأحزاب اليمين، ورحيل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، والأزمة العميقة التي يتخبط فيها اليسار التشافيزي الحاكم في فنزويلا، كلها عواملُ ترجح تنامي أطماع الليبرالية الجديدة في هذه المنطقة.
يمثل ترامب، بخطابه الشعبوي الهجين، استمرارا لهذه المصالح في صيغتها الجديدة التي تعبر عنها هذه الليبرالية، وذلك في محاولتها إعادة إنتاج الهيمنة الأميركية، بعد تراجع اليسار، وتعثر مشاريعه الاجتماعية والوطنية، فهو رجل الأعمال، والمليارديرُ القادمُ من أوساط المال والأعمال، والمعروفُ بعلاقاته المتشعبة بالشركات الأميركية العملاقة التي تتحكم في اقتصاديات عدد من هذه البلدان. ولذلك، لا يمكن إلا أن يعبر خطابه السياسي والاقتصادي عن الشبكات المتداخلة لهذه المصالح، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على هذه البلدان التي تتغذّى اقتصادياتها، بشكل كبير، على تصدير المواد الأولية، ويُحدثَ، بالتالي، حالة من عدم الاستقرار فيها.
يؤكد تاريخ علاقة واشنطن ببلدان أميركا اللاتينية أن الأخيرة عادة ما تُشكل حلقات اختبار
للمتغيرات الاقتصادية والاستراتيجية التي يعرفها العالم. لذلك، من غير المستبعد أن تكون هذه البلدان بالنسبة لترامب مجالا حيويا لـ ''تجريب'' أفكاره العنصرية والشوفينية الفجّة. فالشركات العملاقة سالفة الذكر تنتظر منه إجراءات وتدابير ملموسة، أبرزها إعادةُ النظر في اتفاقيات التبادل الحر التي تربط الولايات المتحدة بأكثر من بلد، بما يتيح لها التغلغلَ أكثر في القطاعات الاقتصادية الحيوية لهذه البلدان، والهيمنة على خيراتها وثرواتها، ودعمَ قوى اليمين التقليدي بمختلف مكوناتها، في أفق الالتفاف على مكاسب اجتماعية حققتها حكومات اليسار.
من هنا، تحاول الإدارة الأميركية الجديدة استثمار نهاية ما تعرف بـ ''الدورة التقدمية'' في أميركا اللاتينية، لإنعاش تحالفاتها مع هذه القوى، خصوصا البورجوازية الزراعية الكبرى التي تظل الرقم الأصعب في معادلات الصراع الاجتماعي والسياسي في معظم هذه البلدان. غير أن ذلك يبدو مستبعدا، على الأقل حاليا، على اعتبار أن تراجع أحزاب اليسار لا يعني افتقادها امتداداتها المجتمعية والأهلية التي عرفت تحولا ملحوظا في العقدين الأخيرين. هذا زيادةً على أن وجود ثلاثة تكتلات سياسية واقتصادية كبرى يمكن أن يشكل أساسا لبناء سياسة متكاملة بديلة إزاء خطاب ترامب العنصري؛ اتحادُ دول أميركا الجنوبية، والسوقُ المشتركة للجنوب (ميركوسور) التي تضم الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي والباراغواي وبلدانا أخرى غير كاملة العضوية، مثل بوليفيا وفنزويلا، وتحالفُ الباسيفيك الذي يضم المكسيك وكولومبيا والبيرو والتشيلي.
يمكن أن تفتح هذه التكتلات المجال أمام هذه البلدان، لتنويع تحالفاتها وشراكاتها، خصوصا مع الصين والاتحاد الأوروبي وبعض البلدان الآسيوية، ما قد يشكل، بالنسبة لها، بدائل تجارية واقتصادية، قد تربك إدارة ترامب في مخططاتها وسياساتها التي تنوي تنفيذها في المنطقة.
وعلى الرغم من المتغيرات التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، إلا أنها لم تؤثر على هذه السياسة في مفاصلها الرئيسية، وإن عرفت بعض الانحسار بعد وصول أحزاب اليسار إلى السلطة منذ نهاية التسعينات في أكثر من بلد، ما حدا بصناع القرار في واشنطن على تغيير وسائل التدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان، بالاستعاضة عن دعم الانقلابات العسكرية، كما كان يحدث، بالتدخل للتأثير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان، عبر مؤسساتها السياسية المختلفة.
يضع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض السياسةَ الخارجيةَ الأميركيةَ حيال هذه البلدان على المحك، خصوصا بعد تصريحاته العنصرية والمثيرة للجدل، بشأن الأقليات المقيمة في الولايات المتحدة، ومطالبته، بكل وقاحة، المكسيك بالإسهام في تكلفة بناء الجدار الحدودي بين البلدين، لمنع تسلل مزيد من المهاجرين غير الشرعيين، وفرض رسوم على واردات بعض هذه البلدان، وتشجيع الرأسمال الأميركي على وقف استثماراته هناك. كان لهذه التصريحات غير المسؤولة وقعها لدى الرأي العام اللاتيني، فقبل أيام خرجت مظاهرات حاشدة في مدن المكسيك، طالبته بـ''احترام المكسيكيين''، والتخلي عن نبرة الاستعلاء السياسي والاقتصادي في خطاباته وسجالاته التي تتناول العلاقة مع بلدهم، وباقي بلدان المنطقة.
يدرك الرأي العام في بلدان أميركا اللاتينية أن المصالح المتشعبة للولايات المتحدة في هذه
لا يبدو ترامب مستعدا لإعادة النظر في تدبير سيرورة هذه المصالح ومآلاتها على المدى البعيد، على اعتبار أنه يمثل تحالف الرأسمال الأميركي المُعولم والعابر للقارات، كما أن التحولات السياسية الدالة التي تعرفها هذه البلدان، بعد تراجع أحزاب اليسار في الأرجنتين والبرازيل والبيرو، والعودة القوية لأحزاب اليمين، ورحيل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، والأزمة العميقة التي يتخبط فيها اليسار التشافيزي الحاكم في فنزويلا، كلها عواملُ ترجح تنامي أطماع الليبرالية الجديدة في هذه المنطقة.
يمثل ترامب، بخطابه الشعبوي الهجين، استمرارا لهذه المصالح في صيغتها الجديدة التي تعبر عنها هذه الليبرالية، وذلك في محاولتها إعادة إنتاج الهيمنة الأميركية، بعد تراجع اليسار، وتعثر مشاريعه الاجتماعية والوطنية، فهو رجل الأعمال، والمليارديرُ القادمُ من أوساط المال والأعمال، والمعروفُ بعلاقاته المتشعبة بالشركات الأميركية العملاقة التي تتحكم في اقتصاديات عدد من هذه البلدان. ولذلك، لا يمكن إلا أن يعبر خطابه السياسي والاقتصادي عن الشبكات المتداخلة لهذه المصالح، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على هذه البلدان التي تتغذّى اقتصادياتها، بشكل كبير، على تصدير المواد الأولية، ويُحدثَ، بالتالي، حالة من عدم الاستقرار فيها.
يؤكد تاريخ علاقة واشنطن ببلدان أميركا اللاتينية أن الأخيرة عادة ما تُشكل حلقات اختبار
من هنا، تحاول الإدارة الأميركية الجديدة استثمار نهاية ما تعرف بـ ''الدورة التقدمية'' في أميركا اللاتينية، لإنعاش تحالفاتها مع هذه القوى، خصوصا البورجوازية الزراعية الكبرى التي تظل الرقم الأصعب في معادلات الصراع الاجتماعي والسياسي في معظم هذه البلدان. غير أن ذلك يبدو مستبعدا، على الأقل حاليا، على اعتبار أن تراجع أحزاب اليسار لا يعني افتقادها امتداداتها المجتمعية والأهلية التي عرفت تحولا ملحوظا في العقدين الأخيرين. هذا زيادةً على أن وجود ثلاثة تكتلات سياسية واقتصادية كبرى يمكن أن يشكل أساسا لبناء سياسة متكاملة بديلة إزاء خطاب ترامب العنصري؛ اتحادُ دول أميركا الجنوبية، والسوقُ المشتركة للجنوب (ميركوسور) التي تضم الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي والباراغواي وبلدانا أخرى غير كاملة العضوية، مثل بوليفيا وفنزويلا، وتحالفُ الباسيفيك الذي يضم المكسيك وكولومبيا والبيرو والتشيلي.
يمكن أن تفتح هذه التكتلات المجال أمام هذه البلدان، لتنويع تحالفاتها وشراكاتها، خصوصا مع الصين والاتحاد الأوروبي وبعض البلدان الآسيوية، ما قد يشكل، بالنسبة لها، بدائل تجارية واقتصادية، قد تربك إدارة ترامب في مخططاتها وسياساتها التي تنوي تنفيذها في المنطقة.