أوباما.. شيعي
لا يعرف الذين يجعلون للدين، أو المذهب، وزناً حاسماً في السياسات، أن لا دين للسياسة أو ملَّة. إذ إن السياسة دين وحدها. وجوهر هذا الدين ليست الشعارات التي ترفعها هذه السياسة، أو تلك، ولا الأفكار التي تنطوي عليها، بل المصالح. والمصالح وحدها لا شريك لها. ولكن، يمكن للمصالح أن ترتدي أي لبوس، وهنا تنبلج السياسة، أو تكون. فلا سياسة قبل المصلحة، إنها ابنتها. فلم يعرف التاريخ سياساتٍ منفصلةً عن المصالح المادية، حتى وهي تتزيا بالمقدس والنبيل. ليست هناك سياسة بوذية. لم نر اليابان تفعل. ولا سياسة بروتستانتية. لم نر ألمانيا الهتلرية تفعل، ولا أميركا في قرنها الطويل هذا. ولا سياسة هندوسية للهند. ناهيك عن أن تكون هناك سياسة سعودية، أو إيرانية إسلامية. أما إسرائيل فهي ليست أكثر من استعمار استيطاني غربي، لبس البرنيطة حيناً و"الكيباه" حيناً آخر، من دون أن يعني ذلك أن سياساتها موسوية. هكذا، ليس مهماً دين هذه الدولة أو تلك، عندما يحين أوان حكّ معدن المصالح واختبارها على أرض الواقع. فروسيا الأرثوذوكسية تبدو ليساريين عرب شيوعية، وهي ليست شيوعية ولا أرثوذوكسية، بل إمبريالية مثل غريمتها أميركا.
الهوس الديني والتفكير في العالم من خلال الدين أو المذهب هما عملة المجتمعات الفقيرة، المنهوبة، المغلوب على أمرها. يسرقون منها حاضرها ومستقبلها، ويجرّدون ما تبقى من لحم على عظامها، ويقولون لها لك الله. السياسة دين، ولا دين للسياسة غير المصالح التي قد تكون مصحوبة، أحياناً، بمسحةٍ أخلاقية أو دينية أو فكرية. واليوم، يتنابز العرب والمسلمون بالرئيس الأميركي، باراك حسين أوباما، فالشيعة يقولون إنه سنيٌّ بدليل سياسته المنحازة للسنَّة (خصوصاً في العراق!)، والسنَّة يقولون إنه شيعي بدليل إنه قدم إيران (الشيعية!) على باقي العالم الاسلامي السنيّ، بالاتفاق النووي معها ورفع العقوبات عنها. أما في أميركا نفسها فإن أكثر من نصف ناخبي الحزب الجمهوري يجزمون أن باراك أوباما "مسلم في أعماقه"، حتى لو تظاهر أنه مسيحي ملتزم الشعائر. كلٌّ يرى، في منطقتنا، أوباما من زاوية مصالحه، هواجسه، رأيه في الآخر، رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه سياسة "أم العالم الحرّ" أو "الشيطان الأكبر". وهذا انحدارٌ في الوعي ما بعده انحدار، ونكسةٌ في الواقع ما بعدها نكسة، على الأخصّ في بلادنا العربية التي تسوطها، اليوم، رياح الطائفية، كما لم يحدث حتى في زمن الدويلات القومية والطائفية التي شقَّت جسد الخلافة العباسية، وطلعت منه. والحقيقة التي لا يتبيّنها المتنابزون بأوباما أن الرجل، حتى لو كان "مسلماً في أعماقه"، أو سنياً أو شيعياً (بحسب تنعيقةٍ مضحكةٍ لضاحي خلفان) فهو لا يحكم بهذا ولا بذاك. هناك مؤسسة أميركية تراقبه، وتحسب عليه أنفاسه. هناك شركاء من مصالح أميركية شتى يسهمون في القرار. كان كنيدي كاثوليكياً، وهذه ديانة أخرى عند طوائف مسيحية مثل البروتستانتية، الأكبر والأوزن في الحياة الأميركية، لكن هذا لم ينقص من أميركيته، وصدوره من "المصالح الأميركية العليا" قيد أنملة. ماذا نقول في توالي ثلاثة رؤساء وزارات بريطانيين يتحدَّرون من اسكتلندا التي لا تطيق ذكر الإنجليز. لا شيء سوى أن مصالح الدول هي المعيار الذي يُحْتَكمُ إليه في أمر الأشخاص. لا أشخاص ولا سياسات خارج التاريخ، ولا تاريخ يصدر من خارج البنى المادية التي لا يضير ألبتة أن تتزيا بالأخلاقي حيناً، والديني حيناً آخر. ولكنها لا تضحّي قط بجوهرها لحساب قشرتها. ألا يرتب علينا الدرك الذي انحدرنا إليه، مع بحرٍ من الدم والخراب، خروجاً من هذه الاستحكامات الضيّقة التي تكاد تشطبنا، تماماً، من التاريخ؟ لدينا ألف سبب يجعلنا "نكره" أميركا، ليس من بينها الدينيّ، أو المذهبي، الذي لا يستخدمه الغرب إلا لتحريك جمارٍ انطفأت، أو خلنا، تحت رماد الأزمنة. لا يهم أي معتقد يعتنق أوباما، ما دام لن يغير دفَّة السياسات الأميركية. الرأي عندي أن أوباما يكره نتنياهو شخصياً، وقد تكون لديه بعض العواطف تجاه الفلسطينيين. لكن، ماذا يعني ذلك على أرض الواقع. لا شيء.