19 أكتوبر 2019
أوروبا والمعضلة البريطانية
تعد مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي معضلة بكل المقاييس، لأنها تمس الأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، فبريطانيا تستخدمها ورقة مساومة للحصول على مزايا من الاتحاد، وهو ما يتناقض مع مبادئه القائمة على المساواة في الواجبات والحقوق بين دوله الأعضاء. والسؤال الأصعب، هنا، هو ماذا لو تحصّل رئيس الحكومة البريطانية على تنازلات من أووربا، لكنه اضطر لتنظيم الاستفتاء الذي تكون نتيجته التصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد؟ إنه أسوأ مشهد بالنسبة لهذا الأخير، وللحكومة البريطانية على حد سواء.
عندما يتخذ القادة الأوروبيون أوروبا مبرراً وحجة لسياساتهم المحلية، فإن الجميع يخسر في نهاية المطاف. فخلال الحملة الانتخابية الأخيرة في بريطانيا، ولقطع الطريق أمام التيار الشعبوي والمتطرف والمناهض لأوروبا في البلاد، لم يتردد زعيم الحزب المحافظ ورئيس الحكومة، ديفيد كاميرون، في الاصطياد في المياه السياسية العكرة لهذه التيارات، بإطلاق وعد تنظيم استفتاء مع نهاية 2017 حول بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد الأوروبي. يبدو أن كاميرون أساء تقدير الأمور لمّا ورّط نفسه في الوعد بتنظيم الاستفتاء، فلو كان تبني مواقف التيارات المتطرفة يحل المشكلات، لتغيرت وجهة العالم. ثم إنه يتجاهل موقف عالم الاقتصاد والمال في بريطانيا الذي يهدد أصحابه بنقل نشاطهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي، في حال خروج بريطانيا منه. بمعنى أنه قبل أن تشعر بريطانيا بتداعيات انسحابها من البيت الأوروبي، فإنها ستفقد تماسك بيتها محلياً. وتكون، في نهاية المطاف، خسرت قارياً ومحلياً.
فكرة الاستفتاء دلالة بحد ذاتها على طلاق بين البريطانيين، بغض النظر عن الحجج وصوابها من عدمه، وبين أوروبا. مشهد مغاير تماماً لما كان عليه الوضع في ستينيات القرن الماضي لما كانت التعبئة كاملة للانضمام لأوروبا. اصطدم السعي البريطاني للانضمام حينها بمعارضة الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، الذي كان يعتبر ارتباط بريطانيا بالولايات المتحدة مناقضاً لمبادئ سياسة الدفاع الأوروبية المستقلة، فضلاً عن اختلاف طبيعتها وبنيتها مع دول القارة، على حد قوله. وعارضت فرنسا مجدداً انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية المشتركة في 1967، ولم تقبل بذلك إلا في ديسمبر/كانون الأول 1969، ما سمح بالشروع في مفاوضات توجت بانضمامها إلى أوروبا في 1973.
ما يحدث الآن، فضلاً عن الترابط الاستراتيجي بين بريطانيا والولايات المتحدة الذي هو دائماً على حساب علاقتها مع أوروبا، يبدو أنه يضفي مصداقية قوية على موقف الجنرال ديغول. فمنذ انضمامها، وهي تسبب متاعب لأوروبا: قدم في الداخل وقدم في الخارج، فلا هي أصبحت أوروبية فعلاً، ولا هي بقيت بريطانية تماماً. وهذا التأرجح والتردد بين مسعيين
استراتيجيين يضعف موقفها. تردد يصعب تحمله بالنسبة للأطراف الأوروبية الأخرى، خصوصاً في زمن البقرات العجاف، والأزمات السياسية الحادة. فبريطانيا تبقى خارج نظام شنغن وخارج منطقة اليورو، بينما تريد أن تكون لها الكلمة في شؤون هذه المنطقة، أو على الأقل أن تُستشار في قراراتها، وتعمل دائماً على عرقلة بعض الإنجازات على مختلف الأصعدة داخل الاتحاد الأوروبي. ويعيب عليها شركاؤها في الاتحاد إعاقتها بعض جوانب البناء الأوروبي، وعدم تحملها مسؤوليتها، لاسيما في مجال الهجرة. فبحكم طبيعتها الجغرافية تبقى نسبياً في منأى عن التدفق الواسع للمهاجرين. على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من المهاجرين السريين الذين يحاولون العبور إليها يأتون من مستعمراتها السابقة. وهنا، تكمن مسؤولية سياسية، وربما حتى أخلاقية لبريطانيا. فهي تريد أن تحمل أوروبا (اتحاداً ودولاً) تبعات جزء من علاقاتها التاريخية مع البلدان التي ينحدر منها هؤلاء المهاجرون.
بغض النظر عن الهجرة والتوظيف البريطاني، وغيره (داخلياً) للاتحاد الأوروبي، فإن مسألة خروج بريطانيا من الأخيرة مسألة في غاية من الأهمية بالنسبة لمستقبل أوروبا، مهما كانت نتيجة المواجهة الحالية بينها وبين شركائها. فلو انسحبت من الاتحاد، فسيمثل ذلك ضربة قاسية للبناء الأوروبي، وسابقة خطيرة في تاريخه، خصوصاً بالنظر إلى حجم بريطانيا وثقلها أوروبياً ودولياً. وإن نجح كاميرون في الحصول على التنازلات التي يريدها، فإن ذلك سيكون أيضاً سابقة خطيرة في تاريخ البناء الأوروبي، تضرب الأسس التي قام عليها الاتحاد، وتخلق ازدواجية في التعامل بين أعضائه، ما سيشجع بعضهم على انتهاج سياسة المساومة نفسها، والانسحاب منه، إن لم تلب مطالبهم. هذا المشهد الأخير مستبعد في الراهن، لأنه لا يوجد بلد عضو في الاتحاد تتجاذبه اتجاهات مساندة لأوروبا، وأخرى معادية لها، كما الحال في بريطانيا. وإذا كان هناك انتقاد للبناء الأوروبي بشكله الحالي، في مختلف هذه الدول، فإن مسألة الانسحاب غير مطروحة تماماً.
ويواجه الساسة الأوروبيون معضلة حقيقية: تقديم شيء ما لكاميرون، حتى يتمظهر بمظهر
العائد المظفر أمام رأيه العام من جهة، وعدم التنازل عن أمهات الأمور، حتى لا يرى الرأي العام الأوروبي في الدول الأخرى في ذلك رضوخاً أوروبياً لبريطانيا، وحتى لا يجعلوا مستقبل الاتحاد مفتوحاً على كل الاحتمالات، من جهة أخرى... من الواضح أن هناك شرخاً بين أوروبا وبريطانيا، فالأولى تقول إنها لا توجد لديها خطة بديلة، وإن مكان بريطانيا في الاتحاد عضواً بناءً وناشطاً. أما بريطانيا فتقول إن لها شروطاً تتفاوض عليها للبقاء في الاتحاد. وهذا يعني أنها تعتبر عضويتها فيه غير مفيدة، بل مكلفة. لكن معظم الدراسات الاقتصادية تشير إلى أن بريطانيا ستخسر الكثير من انسحابها من الاتحاد. أما أوروبا فكانت موجودة قبل انضمامها، وستبقى بعد رحيلها.
من المحتمل أن يتوصل الشركاء الأوروبيون إلى صيغة توفيقية، كعادتهم، تحفظ ماء وجه مختلف الأطراف. للتذكير، تخص المطالب البريطانية نوعاً من حق النقض البريطاني، فيما يتعلق بشؤون منطقة اليورو، وإعفاء عالم المال في بريطانيا من إجراءات الضبط والتنظيم المالية على المستوى الأوروبي، وخصوصاً إمكانية حرمان المهاجرين الأوروبيين من المنح أربع سنوات... وهي مطالب تقتضي تعديل المعاهدات المؤسسة للاتحاد الأوروبي، لكن دولاً أوروبية، في مقدمتها فرنسا، ترفض المساس بالمعاهدات الأوروبية. وترى أنه لا يمكن لسوق لندن المالي أن يستمر في التمتع بمعاملة خاصة. كما تعارض فرنسا هولاند وألمانيا ميركل بريطانيا كاميرون فيما يتعلق بملفي منطقة اليورو والهجرة. حيث تصر ألمانيا على ضرورة احترام مبادئ حرية تنقل الأشخاص داخل الاتحاد الأوروبي. فيما تتخوف دول أخرى، لاسيما المتوسطية، من عزم بريطانيا حرمان المهاجرين من بعض المنح، ما سيزيد من ضغط الهجرة عليها. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يدرس إجراءً أعد على المقاس لبريطانيا. لكن، يمكن أن تستخدمه دول أعضاء أخرى مستقبلاً، وهو أنه في حال ضغط شديد على نظامه للرعاية الاجتماعية يمكن لبلد عضو في الاتحاد أن يتخذ إجراءً استثنائياً بتعليق المنح. لكن بعض الدول تتخوف من أن يكون ذلك على حساب رعاياها. لذا، تطالب بجعل اللجوء إلى هذه الآلية أمراً صعباً. وربما قد يتوصل الشركاء الأوروبيون إلى صيغةٍ توفيقيةٍ بخصوص هذه النقطة تجعل هذه الآلية تخص غير الأوروبيين مع اشتراط مدة زمنية معينة من الإقامة في تراب الاتحاد الأوروبي.
ويطالب كاميرون الأوروبيين باتفاق ذي مصداقية لإقناع البريطانيين بالانتماء للاتحاد الأوروبي، بينما لم يعمل هو لإقناعهم. ما يجعل موقفه غير مريح سياسياً. فهو متردد حيال أوروبا، ويتحجج بالرأي العام. وإذا كان البريطانيون بحاجة إلى إقناع، فإن ذلك مهمة نخبتهم الحاكمة بالدرجة الأولى. لكنها مترددة هي الأخرى. ومن ثم ففاقد الشيء لا يعطيه. وكأن الحكومة البريطانية تحمل الأوروبيين مشكلة بريطانية بالأساس، عجزت عن الفصل فيها محلياً.
عندما يتخذ القادة الأوروبيون أوروبا مبرراً وحجة لسياساتهم المحلية، فإن الجميع يخسر في نهاية المطاف. فخلال الحملة الانتخابية الأخيرة في بريطانيا، ولقطع الطريق أمام التيار الشعبوي والمتطرف والمناهض لأوروبا في البلاد، لم يتردد زعيم الحزب المحافظ ورئيس الحكومة، ديفيد كاميرون، في الاصطياد في المياه السياسية العكرة لهذه التيارات، بإطلاق وعد تنظيم استفتاء مع نهاية 2017 حول بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد الأوروبي. يبدو أن كاميرون أساء تقدير الأمور لمّا ورّط نفسه في الوعد بتنظيم الاستفتاء، فلو كان تبني مواقف التيارات المتطرفة يحل المشكلات، لتغيرت وجهة العالم. ثم إنه يتجاهل موقف عالم الاقتصاد والمال في بريطانيا الذي يهدد أصحابه بنقل نشاطهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي، في حال خروج بريطانيا منه. بمعنى أنه قبل أن تشعر بريطانيا بتداعيات انسحابها من البيت الأوروبي، فإنها ستفقد تماسك بيتها محلياً. وتكون، في نهاية المطاف، خسرت قارياً ومحلياً.
فكرة الاستفتاء دلالة بحد ذاتها على طلاق بين البريطانيين، بغض النظر عن الحجج وصوابها من عدمه، وبين أوروبا. مشهد مغاير تماماً لما كان عليه الوضع في ستينيات القرن الماضي لما كانت التعبئة كاملة للانضمام لأوروبا. اصطدم السعي البريطاني للانضمام حينها بمعارضة الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، الذي كان يعتبر ارتباط بريطانيا بالولايات المتحدة مناقضاً لمبادئ سياسة الدفاع الأوروبية المستقلة، فضلاً عن اختلاف طبيعتها وبنيتها مع دول القارة، على حد قوله. وعارضت فرنسا مجدداً انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية المشتركة في 1967، ولم تقبل بذلك إلا في ديسمبر/كانون الأول 1969، ما سمح بالشروع في مفاوضات توجت بانضمامها إلى أوروبا في 1973.
ما يحدث الآن، فضلاً عن الترابط الاستراتيجي بين بريطانيا والولايات المتحدة الذي هو دائماً على حساب علاقتها مع أوروبا، يبدو أنه يضفي مصداقية قوية على موقف الجنرال ديغول. فمنذ انضمامها، وهي تسبب متاعب لأوروبا: قدم في الداخل وقدم في الخارج، فلا هي أصبحت أوروبية فعلاً، ولا هي بقيت بريطانية تماماً. وهذا التأرجح والتردد بين مسعيين
بغض النظر عن الهجرة والتوظيف البريطاني، وغيره (داخلياً) للاتحاد الأوروبي، فإن مسألة خروج بريطانيا من الأخيرة مسألة في غاية من الأهمية بالنسبة لمستقبل أوروبا، مهما كانت نتيجة المواجهة الحالية بينها وبين شركائها. فلو انسحبت من الاتحاد، فسيمثل ذلك ضربة قاسية للبناء الأوروبي، وسابقة خطيرة في تاريخه، خصوصاً بالنظر إلى حجم بريطانيا وثقلها أوروبياً ودولياً. وإن نجح كاميرون في الحصول على التنازلات التي يريدها، فإن ذلك سيكون أيضاً سابقة خطيرة في تاريخ البناء الأوروبي، تضرب الأسس التي قام عليها الاتحاد، وتخلق ازدواجية في التعامل بين أعضائه، ما سيشجع بعضهم على انتهاج سياسة المساومة نفسها، والانسحاب منه، إن لم تلب مطالبهم. هذا المشهد الأخير مستبعد في الراهن، لأنه لا يوجد بلد عضو في الاتحاد تتجاذبه اتجاهات مساندة لأوروبا، وأخرى معادية لها، كما الحال في بريطانيا. وإذا كان هناك انتقاد للبناء الأوروبي بشكله الحالي، في مختلف هذه الدول، فإن مسألة الانسحاب غير مطروحة تماماً.
ويواجه الساسة الأوروبيون معضلة حقيقية: تقديم شيء ما لكاميرون، حتى يتمظهر بمظهر
من المحتمل أن يتوصل الشركاء الأوروبيون إلى صيغة توفيقية، كعادتهم، تحفظ ماء وجه مختلف الأطراف. للتذكير، تخص المطالب البريطانية نوعاً من حق النقض البريطاني، فيما يتعلق بشؤون منطقة اليورو، وإعفاء عالم المال في بريطانيا من إجراءات الضبط والتنظيم المالية على المستوى الأوروبي، وخصوصاً إمكانية حرمان المهاجرين الأوروبيين من المنح أربع سنوات... وهي مطالب تقتضي تعديل المعاهدات المؤسسة للاتحاد الأوروبي، لكن دولاً أوروبية، في مقدمتها فرنسا، ترفض المساس بالمعاهدات الأوروبية. وترى أنه لا يمكن لسوق لندن المالي أن يستمر في التمتع بمعاملة خاصة. كما تعارض فرنسا هولاند وألمانيا ميركل بريطانيا كاميرون فيما يتعلق بملفي منطقة اليورو والهجرة. حيث تصر ألمانيا على ضرورة احترام مبادئ حرية تنقل الأشخاص داخل الاتحاد الأوروبي. فيما تتخوف دول أخرى، لاسيما المتوسطية، من عزم بريطانيا حرمان المهاجرين من بعض المنح، ما سيزيد من ضغط الهجرة عليها. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يدرس إجراءً أعد على المقاس لبريطانيا. لكن، يمكن أن تستخدمه دول أعضاء أخرى مستقبلاً، وهو أنه في حال ضغط شديد على نظامه للرعاية الاجتماعية يمكن لبلد عضو في الاتحاد أن يتخذ إجراءً استثنائياً بتعليق المنح. لكن بعض الدول تتخوف من أن يكون ذلك على حساب رعاياها. لذا، تطالب بجعل اللجوء إلى هذه الآلية أمراً صعباً. وربما قد يتوصل الشركاء الأوروبيون إلى صيغةٍ توفيقيةٍ بخصوص هذه النقطة تجعل هذه الآلية تخص غير الأوروبيين مع اشتراط مدة زمنية معينة من الإقامة في تراب الاتحاد الأوروبي.
ويطالب كاميرون الأوروبيين باتفاق ذي مصداقية لإقناع البريطانيين بالانتماء للاتحاد الأوروبي، بينما لم يعمل هو لإقناعهم. ما يجعل موقفه غير مريح سياسياً. فهو متردد حيال أوروبا، ويتحجج بالرأي العام. وإذا كان البريطانيون بحاجة إلى إقناع، فإن ذلك مهمة نخبتهم الحاكمة بالدرجة الأولى. لكنها مترددة هي الأخرى. ومن ثم ففاقد الشيء لا يعطيه. وكأن الحكومة البريطانية تحمل الأوروبيين مشكلة بريطانية بالأساس، عجزت عن الفصل فيها محلياً.