إسرائيل والفواعل العربية ما دون الدولة
تحدثت، في مقالتي السابقة، عن القوة المتنامية للفواعل ما دون الدولة، في المنطقة العربية، مركزاً على جماعات مسلحة ومليشيات وغيرها، معتبراً أن الاحتلال الأميركي والربيع العربي في نسخته المتعثرة، و/أو المجهضة، شكلا تربة خصبة لنمو هذه الفواعل. وتركز هذه المقالة على حالتي حركة حماس وحزب الله، بالنظر للعلاقة مع إسرائيل والحرب على غزة.
من المنطقي أن يقود غياب دولة فلسطينية إلى ظهور حركات متعددة ومختلفة التوجهات السياسية، وأبرزها حالياً حماس. لكن، هناك فروق كبيرة بين حماس والفواعل الأخرى ما دون الدولة في المنطقة العربية، وأبرزها العلاقة مع الدولة. فحماس تشكلت، أصلاً، بسبب غياب الدولة، وبالتالي، هي لا تتحدى الدولة، وإنما تسعى إلى إقامتها. ومن هنا، فحماس من بين الفواعل ما دون الدولة الجاذبة نحو المركز الدولتي (نسبة إلى الدولة)، وليست من فئة الفواعل الطاردة، كما الجماعات المسلحة مثل داعش وغيرها.
وهذا يميزها، أيضاً، عن حزب الله الذي يتطور في سياق دولتي، لكن، بحكم ثقله ومقاومته إسرائيل، هو أقرب إلى الفواعل الطاردة منه إلى الفواعل الجاذبة نحو المركز الدولتي، لأن حجمه أصبح يفوق، في بعض الجوانب، حجم الدولة اللبنانية، فهو يكاد يكون دولة في دولة، وما لذلك من إشكالات فيما يخص العلاقة مع الدولة، كسلطة عليا. لكن حزب الله وحماس يتقاسمان ثلاث ميزات أساسية:
أولاً، بحكم ثقلهما وتموقعهما في اللعبة الوطنية الداخلية (اللبنانية والفلسطينية) يؤثران، إن لم نقل يستأثران، بالقرار الاستراتيجي الوطني، ما يجعلهما فاعلين أساسيين إقليمياً. فقرار الحرب-المقاومة فلسطينياً يأتي، أساساً، من حماس، سواء كانت هي المبادرة أو غير المبادرة. والشيء نفسه يقال عن حزب الله في لبنان. وهذا المعيار وحده، أي القرار الإستراتيجي بشأن العلاقة مع إسرائيل، يكفي لقياس حجم الحركتين، محلياً وإقليمياً.
ثانياً، لا جدال في دور إسرائيل في ظهور حزب الله وحماس، فالحركتان من نتاج وجود الاحتلال الإسرائيلي. فحزب الله ظهر في عز (الحرب الأهلية اللبنانية) أما حماس فظهرت، أيضاً، لأن الاحتلال الإسرائيلي كان يسعى إلى كسر نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية في الأراضي المحتلة، بغض النظر عن ظهور حركات أخرى على حساب المنظمة.
وإذا كان قد حقق بعض مآربه سياسياً، نظراً إلى الخلاف المزمن بين فتح وحماس، فإن السحر انقلب على الساحر عسكرياً، لأن حماس كانت، منذ البداية، آلة تعبوية ونضالية، وأصبحت، مع مرور الزمن، آلة عسكرية، تتسبب في متاعب أمنية لإسرائيل، حتى بعد انسحابها من غزة. فبدل أن يكون الاحتلال تأميناً للتراب الإسرائيلي، أصبح مصدر تهديدات.
ثالثاً، مسألة بناء القدرات العسكرية الذاتية، ففي الصراعات التقليدية، يسمح التحكم في بيع الأسلحة، بمعرفة ما لدى طرف معين من ترسانة عسكرية، لكن الحظر المفروض على الفواعل غير الدولتية، المنخرطة في صراعات مسلحة واسعة النطاق، مثل حزب الله وحماس، جعلها تطبق، وبامتياز، مقولة "الحاجة أم الاختراع"، حيث عملت الحركتان على بناء قدرات عسكرية محدودة، لكنها كافية لزعزعة اليقين الاستراتيجي الإسرائيلي، خصوصاً أن الحظر المفروض عليهما جعل إسرائيل لا تكتشف ما يدبرانه حقاً، من حيث تطوير بعض أنواع الأسلحة، ولا كيفية استخدامها (حرب غير متوازية)، إلا عند المواجهة المسلحة معهما، كما هو الشأن حالياً في غزة.
يصعب التعامل مع الفواعل الدولتية، لعدة أسباب، حسب الحالات. فإما أن تكون مفتقرة إلى قاعدة جغرافية، مثل الحركات الإرهابية، ما يصعّب من عملية الرد عليها وتعقبها، والتخلص منها. أو أن تكون تتمتع بحامل اجتماعي، يعطيها بعداً شعبياً، كما حال حماس وحزب الله وبعض الميليشيات الليبية، ما يجعل مسألة التخلص منها، واستئصالها صعباً للغاية. أو أن يستند نشاطها إلى شرعية (مشروعية مقاومة الاحتلال)، بغض النظر عن الاعتراف بهذه الشرعية (من الغير) من عدمه. أو أن يكون نشاط هذه الفواعل، وهذه هي الحالة الأغلب، مرتبطاً ببؤر توتر محلية وإقليمية، بحيث يصعب، إن لم نقل يستحيل، التخلص منها، من دون تسوية الصراعات المحلية و/أو الإقليمية القائمة.
حتى وإن وفر لها حكمها في غزة قاعدة جغرافية، مثل الدول – على عكس الفواعل الأخرى – ما يسهل استهدافها عسكرياً من إسرائيل، فإن واقع الاحتلال والحامل الاجتماعي الذي تتوفر عليه، يجعلان من الصعوبة التخلص من حماس. فعلى الرغم من الغارات المتكررة والاغتيالات وحربي 2008 و2012، فإن إسرائيل لم تتمكن من حسم المواجهة مع حماس.
إن الصراع بين إسرائيل وهاتين الحركتين حرب تقليدية في بعض جوانبها، وحرب غير متوازية في جلها. ولا تنفع الإستراتيجيات العسكرية التقليدية كثيراً في مواجهة فواعل ما دون الدولة، التي تتمتع بحامل اجتماعي. لهذا، نلاحظ أن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية حيال غزة تقوم، أيضاً، على إلحاق الضرر بالمدنيين، بدعوى محاربة حماس ونشطائها، لإحداث بلبلة بين الحركة والحامل الاجتماعي، الذي بسبب تضرره من الحرب، سيسحب دعمه للحركة، لتنسلخ، بذلك، عن النسيج الاجتماعي المحلي، وتصبح منكشفة أمام الضربات الإسرائيلية.
بيد أن استراتيجية العقاب الجماعي أثبتت فشلها في السابق، ومن غير المرجح أن تنجح هذه المرة. ثم حتى، وإن افترضنا صحة المنطق الإسرائيلي (فك الارتباط بين الحامل الاجتماعي وحماس)، فالمشكلة ليست في المقاومة، وإنما في الاحتلال. وبالتالي، فموقف أهل غزة، حتى ولو لم يكن حتماً (وفي جله) حباً في حماس، فإنه بالضرورة كرهاً في الاحتلال. ومن ثم، فالعملية تحصيل حاصل.